حرف الألف / الإكراه

           

قال ابن فارس رحمه الله: «الكاف والراء والهاء أصل صحيح واحد يدل على خلاف الرضا والمحبة»[1]. يقال: كرهت الشيء أكرهه كَرهًا، والكُره: الاسم، وقيل: بل المشقة، والكَره: أن تكلف الشيء، فتعمله كارهًا، ويقال: أكرهت فلانًا: يقول: حملته على أمر هو له كاره[2].


[1] مقاييس اللغة (890) [دار إحياء التراث العربي، ط1].
[2] انظر: تهذيب اللغة (6/11) [دار إحياء التراث العربي، ط1]، والصحاح (7/97) [دار العلم للملايين، ط4].


«هو إلزام الغير بما لا يريده»[1]. أو «هو حمل الغير على ما يكرهه بالوعيد الشديد»[2].


[1] فتح الباري (12/375) [دار الحديث، ط1998م].
[2] التوقيف على مهمات التعاريف (54) [دار الكتب العلمية، ط1، 2011م].


لا خلاف بين المعنى اللغوي والاصطلاحي في كون المراد بهما هو خلاف الرضا والمحبة.



الجبر[1].


[1] درء التعارض (1/255) [جامعة الإمام، ط2].


المُكره لا يؤخذ بما أكره عليه من الإقرار بالكفر ونحو ذلك؛ لأن الله عزّ وجل أباح النطق بالكفر عند الإكراه، فقال: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] ، وعلى هذا اتفق العلماء فقالوا: إن المكره على الكفر لا يلزمه شيء من الكفر عند الله تعالى، ولا يترتب عليه أحكام الكفر؛ كإباحة دمه، وماله، أو فراق زوجته، وعليه يحمل فروع الشريعة كلها، فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به، ولم يترتب عليه حكم[1].


[1] انظر: الأم (161) [بيت الأفكار الدولية]، ومراتب الإجماع لابن حزم (109) [دار ابن حزم، ط1]، وتفسير القرطبي (12/434 ـ 435) [مؤسسة الرسالة، ط1].


قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *} [النحل] .
ومن السُّنَّة: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه»[1].
وعن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، قال: «أخذ المشركون عمار بن ياسر، فلم يتركوه حتى سبَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم وذكر آلهتهم بخير، ثم تركوه؛ فلما أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما وراءك؟» قال: شرٌّ يا رسول الله، والله ما تُرِكتُ حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، قال: «كيف تجد قلبك؟» قال: مطمئن بالإيمان، قال: «إن عادوا فعُد» ، زاد في رواية فنزلت: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] [2].


[1] أخرجه ابن ماجه (كتاب الطلاق، رقم 2045)، والحاكم في المستدرك (2/216) وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في إرواء الغليل (رقم 82).
[2] أخرجه ابن سعد في الطبقات (3/249) [دار صادر، ط1]، والطبري في تفسيره (17/304) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وهو مرسل، لكن ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح (12/312) [دار المعرفة] عدة مراسيل أخرى تشهد له، وقال: وهذه المراسيل يقوى بعضها ببعض. وانظر: تفسير ابن كثير (8/357 ـ 358) [عالم الكتب، ط1].


قال الشافعي رحمه الله في قول الله عزّ وجل: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] : «فجعل قولهم الكفر مغفورًا لهم مرفوعًا عنهم في الدنيا والآخرة، فكان المعنى الذي عقلنا أن قول المكره كما لم يقل في الحكم، وعقلنا أن الإكراه هو أن يغلب بغير فعل منه»[1].
وقال ابن حزم رحمه الله: «اتفقوا على أن المكره على الكفر، وقلبه مطمئن بالإيمان؛ أنه لا يلزمه شيء من الكفر عند الله تعالى. واختلفوا في إلزامه أحكام الكفر، واتفقوا أن خوف القتل إكراه»[2].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «تأملت المذهب، فوجدت الإكراه يختلف باختلاف المكره عليه، فليس الإكراه المعتبر في كلمة الكفر كالإكراه المعتبر في الهبة ونحوها»[3].


[1] الأم (7/76) [دار المعرفة، 1393].
[2] مراتب الإجماع لابن حزم (109) [دار ابن حزم، ط1].
[3] الفتاوى الكبرى (5/490) [دار الكتب العلمية، ط1].


شروط الإكراه:
الأول: أن يكون فاعله قادرًا على إيقاع ما يهدد به، والمأمور عاجزًا عن الدفع ولو بالفرار.
الثاني: أن يغلب على ظنه أنه إن امتنع أوقع به ذلك.
الثالث: أن يكون ما هُدِّد به فوريًّا، فلو قال له مثلاً: إن لم تفعل كذا ضربتك غدًا؛ لا يُعدّ مكرَهًا، ويستثنى منه حالتان؛ الأولى: أن يذكر زمنًا قريبًا جدًّا. الثانية: أن يعرف من عادة المكرِه أنه لا يخلف.
الرابع: أن لا يظهر من المأمور ما يدل على اختياره[1].
ومنهم من جعل الشروط ثلاثة؛ وهي:
أحدها: أن يكون المكرِه قادرًا بسلطان أو تغلب؛ كاللص ونحوه.
الثاني: أن يغلب على ظن المكرَه نزول الوعيد به إن لم يجبه إلى ما طلبه.
الثالث: أن يكون مما يتضرّر به ضررًا كثيرًا؛ كالقتل، والضرب الشديد، والحبس والقيد الطويلين، وأخذ المال الكثير[2].


[1] انظر: فتح الباري (12/375 ـ 376)، والمبسوط للسرخسي (24/39 ـ 40) [دار المعرفة، ط3]، والإقناع (2/99).
[2] انظر: المقنع مع الشرح الكبير والإنصاف (22 و154 ـ 155)، والمغني (10/354 ـ 353) [دار عالم الكتب، ط3، 1417هـ].


قسَّم العلماء الإكراه إلى نوعين؛ إكراه تام: وهو ما يوجب الإلجاء والاضطرار طبعًا؛ كالقتل، والقطع، والضرب الذي يخاف فيه تلف النفس، أو العضو قلّ الضرب أو كثر.
الثاني: إكراه ناقص؛ وهو ما لا يوجب الإلجاء والاضطرار وهو الحبس والقيد، والضرب الذي لا يخاف منه التلف، وليس فيه تقدير لازم سوى أن يلحقه منه الاغتمام البيِّن من هذه الأشياء: الحبس، والقيد، والضرب[1].


[1] انظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (7/175) [دار الكتاب العربي، ط1982م].


المسألة الأولى: حكم الانقياد للإكراه:
اتفق العلماء على أنه يجوز للمكرَه أن يوالي الكافر إبقاءً لمهجته، ويجوز له أن يستقتل كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم ذلك، والمشركون يعذبونه، وهو يقول: أحد أحد[1]، وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري رضي الله عنه لما قال له مسيلمة الكذاب: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ فيقول: نعم. ولما قال له: أتشهد أني رسول الله؟ فقال له: أنا أصم، فقتله[2].
المسألة الثانية: حكم الإكراه على الفعل:
قد اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أن الإكراه في الفعل والقول سواء، وهو قول الجمهور، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، ومكحول، ويستثنى من الفعل ما هو محرم على التأبيد؛ كقتل النفس بغير حق.
القول الثاني: أن الرخصة إنما هي في القول دون الفعل، فلا رخصة فيه مثل: أن يكره الرجل على السجود لغير الله، أو الصلاة لغير القبلة، روي ذلك عن الحسن البصري، وهو قول الأوزاعي وسحنون[3].
المسألة الثالثة: حكم تكليف المكرَه بترك فعل ما أكره عليه:
اختلف في المكره؛ أيكلف بترك فعل ما أكره عليه أم لا؟ فذكر بعضهم الإجماع على أن المكره على القتل مأمور باجتناب القتل والدفع عن نفسه، وأنه يأثم إن قتل من أُكرِه على قتله، وذلك يدل أنه مكلف حالة الإكراه، والذي يقتضيه كلام أهل العلم ـ كما ذكره الحافظ ابن حجر ـ تخصيص الخلاف بما وافق فيه داعيةُ الإكراه داعيةَ الشرع؛ كالإكراه على قتل الكافر، وإكراهه على الإسلام. أما ما خالف فيه داعيةُ الإكراه داعيةَ الشرع كالإكراه على القتل، فلا خلاف في جواز التكليف به، وإنما الخلاف في تكليف المُلجأ وهو من لم يجد مندوحة عن الفعل كمن ألقي من شاهق وعقله ثابت، فسقط على شخص فقتله، فلا مندوحة له عن السقوط، ولا اختيار له في عدمه، بل هو آلة محضة، ولا نزاع في أنه غير مكلف إلا ما أشار إليه بعض المتكلمين من التفريع على تكليف ما لا يطاق[4].


[1] أخرج قصته ابن ماجه (المقدمة، رقم 150)، وأحمد (6/382) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وحسَّنه الألباني.
[2] أخرج قصته ابن أبي شيبة في مصنفه (كتاب السير، رقم 33708) [دار القبلة، ط1]، عن الحسن مرسلاً. قال الألباني: (وهذه قصة جيدة، لولا أنها من مراسيل الحسن البصري)، وذكر لها شاهدًا مرسلاً آخر. انظر: السلسلة الضعيفة (12/725) [دار المعارف، ط1]، وانظر أيضًا: تفسير ابن كثير (8/357 ـ 358) [دار عالم الكتب].
[3] انظر: البيان والتحصيل لابن رشد (6/118 ـ 119) [دار الغرب الإسلامي، ط2]، وتفسير القرطبي (12/435 ـ 436) [مؤسسة الرسالة ط1]، والفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/56) [دار المعرفة، ط1]، وفتح الباري (12/376).
[4] انظر: تفسير القرطبي (12/435 ـ 43) [مؤسسة الرسالة]، وفتح الباري (12/375 ـ 376).


عن عمر رضي الله عنه: «ليس الرجل بأمين على نفسه، إن أجعته، أو أخفته أو حبسته»[1].
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «ما من كلام أتكلم به بين يدي سلطان يدرأ عني به ما بين سوط إلى سوطين إلا كنت متكلمًا به»[2].
وعن شريح رحمه الله قال: «القيد كره، والسجن كره، والوعيد كره»[3].


[1] أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (كتاب الحدود، رقم 28891) [دار القبلة، ط1]، والبيهقي في السنن الكبرى (كتاب الحدود، 7/358) [مجلس دار المعارف النظامية في الهند، ط1، 1344هـ].
[2] أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (كتاب الحدود، رقم 33717) [دار القبلة، ط1].
[3] أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (كتاب الحدود، رقم 28890) [دار القبلة، ط1].


1 ـ «مجموع الفتاوى» (ج1)، لابن تيمية.
2 ـ «الاستقامة» (ج2)، لابن تيمية.
3 ـ «المطلب الحميد في بيان مقاصد التوحيد»، لعبد الرحمن بن حسن.
4 ـ «سبيل النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الإشراك»، لحمد بن علي بن عتيق.
5 ـ «شرح كشف الشبهات»، لمحمد بن إبراهيم.
6 ـ «شرح العقيدة السفارينية»، لابن عثيمين.
7 ـ «الأم» (ج7)، للإمام الشافعي.
8 ـ «الإشراف على مذاهب العلماء» (ج5)، لابن المنذر.
9 ـ «الإنصاف (مع المقنع والشرح الكبير)» (ج22)، للمرداوي.
10 ـ «بدائع الصنائع» (ج7)، للكاساني.
11 ـ «البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة» (ج6)، لابن رشد.
12 ـ «الجامع لأحكام القرآن» (ج12)، للقرطبي.
13 ـ «فتح الباري» (ج12)، لابن حجر العسقلاني.
14 ـ «المبسوط» (ج24)، السرخسي.
15 ـ «المغني» (ج10)، لابن قدامة المقدسي.