معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصيِّ بن كلاب بن مُرَّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر، أمير المؤمنين، وكاتب الوحي، ملك الإسلام، أبو عبد الرحمن، القرشي الأموي[1].
[1] ينظر: تهذيب الكمال (13/119) و(32/145) و(33/361) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1400هـ]، والإصابة (6/151) [دار الكتب العلمية، ط1، 1415هـ]، والبداية والنِّهاية (3/47) و(5/354) و(7/95) و(8/20) و(8/117) و(8/226) و(13/206) [دار هجر، ط1، 1418هـ]، وتاريخ الأمم والملوك (3/263) وما بعدها [دار التراث، ط2، 1387هـ]، وتاريخ دمشق لابن عساكر (59/57) [دار الفكر، ط1، 1415هـ].
مولده : ولد معاوية رضي الله عنه: قبل البعثة بخمس سنين، وقيل: بسبع، وقيل: بثلاث عشرة، والأوَّل أشهر[1].
وفاته : اتَّفقت المصادر التي ترجمت لمعاوية بن أبي سفيان على أنَّ وفاته رضي الله عنه كانت في دمشق، في يوم الخميس، وفي شهر رجب، من سنة 60هـ[2]، وقد نقل الإمام ابن جرير الإجماع على أن وفاته كانت في رجب من سنة 60هـ[3].
[1] الإصابة (6/151).
[2] ينظر على سبيل المثال: التاريخ الكبير (7/326) [دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد ـ الدكن]، وطبقات ابن سعد (7/406)، وطبقات خليفة (297)، وتاريخ دمشق (19/237 ـ 241)، والكاشف (2/275) [دار القبلة، ط1 1، 1413هـ]، وغيرها.
[3] تاريخ الطبري (3/261).
لا خلاف بين أهل العلم في إسلام معاوية رضي الله عنه، ولا يشك في ذلك إلا رجل أعمى الله بصره وبصيرته[1]، بل إنّ إسلامه رضي الله عنه متواتر لا شك فيه.
وقد أبدع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بيان هذه المسألة المهمة، حين سئل: «عن إسلام معاوية بن أبي سفيان متى كان؟ وهل كان إيمانه كإيمان غيره أم لا؟ وما قيل فيه غير ذلك؟». فأجاب: «إيمان معاوية بن أبي سفيان ثابت بالنقل المتواتر[2]، وإجماع أهل العلم على ذلك؛ كإيمان أمثاله ممن آمن عام فتح مكة... وأما إسلامه عام الفتح... فمتفق عليه بين العلماء؛ سواء كان أسلم قبل ذلك أو لم يكن إسلامه إلا عام فتح مكة؛ ولكن بعض الكذابين زعم أنه عيَّر أباه بإسلامه، وهذا كذب بالاتفاق من أهل العلم بالحديث... وكان معاوية أحسن إسلامًا من أبيه باتفاق أهل العلم...»[3].
ومن الأدلة على ثبوت إسلامه رضي الله عنه: ما ثبت في «صحيح مسلم»[4] في قصة زواج فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، وفيها: قالت: «فلما حللت ذكرت له ـ أي: للنّبي صلّى الله عليه وسلّم ـ أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمّا أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه[5]، وأمَّا معاوية فصعلوك لا مال له[6]، انكحي أسامة بن زيد» ، فكرهته، ثم قال: «انكحي أسامة» ، فنكحته، فجعل الله فيه خيرًا، واغتبطت».
وقد اختلف أهل العلم في تحديد تاريخ إسلام معاوية بن أبي سفيان؛ على قولين مشهورين، وقد حكى ابن عساكر رحمه الله بعض أقوال أهل العلم في ذلك[7].
القول الأوَّل: أنه أسلم رضي الله عنه قبل الفتح[8].
ـ سواء كان ذلك عام الحديبية، وهو العام الذي صُدّ فيه النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن البيت في السنة السادسة من الهجرة.
ـ أو في عمرة القضاء، في السنة السابعة من الهجرة.
قال الحافظ أبو نعيم: «أسلم قبيل الفتح، وقيل: عام القضية[9]، وهو ابن ثماني عشرة»[10].
وقد جزم الذهبي بأن ذلك كان في عمرة القضاء؛ فقال: «أسلم قبل أبيه في عمرة القضاء، وبقي يخاف من الخروج إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم من أبيه... وأظهر إسلامه يوم الفتح»[11].
القول الثاني: أنه أسلم يوم فتح مكة؛ هو وأبوه وأمه وأخوه يزيد رضي الله عنهم[12].
ومرد الاختلاف بين أهل العلم في تحديد تاريخ إسلام معاوية رضي الله عنه يعود ـ والله أعلم ـ إلى كون معاوية رضي الله عنه كان يخفي إسلامه، ولذلك حكم من حكم من أهل العلم بأنَّه أسلم يوم فتح مكة؛ لأن هذا هو الذي ظهر من حاله في ذلك اليوم، وأما قبل ذلك فهو على ما عرف من حاله، وأنّه على دين قومه.
لكن الذي يظهر ـ والله أعلم ـ أنّه أسلم قبل الفتح وكان يخفي إسلامه، حتى كان يوم الفتح فأظهر إسلامه، ويدل على ذلك أمران:
الأمر الأول: قول معاوية رضي الله عنه نفسه: «لما كان عام الحديبية وصدت قريش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن البيت، ودافعوه بالرّاح، وكتبوا بينهم القضيَّة، وقع الإسلام في قلبي، فذكرت ذلك لأمي هند بنت عتبة، فقالت: «إيّاك أن تخالف أباك، أو أن تقطع أمرًا دونه فيقطع عنك القوت»، وكان أبي يومئذ غائبًا في سوق حُبَاشة، قال: فأسلمت وأخفيت إسلامي، فوالله لقد رحل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الحديبية وإني مصدق به، وأنا على ذلك أكتمه من أبي سفيان، ودخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكّة عام عمرة القضيَّة وأنا مسلم مصدِّق به، وعلم أبو سفيان بإسلامي، فقال لي يومًا: «لكن أخوك خير منك، وهو على ديني»، فقلت: لم آل نفسي خيرًا، قال: فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة عام الفتح، فأظهرت إسلامي، ولقيته فرحب بي، وكتبت له»[13].
فهذا الكلام من معاوية رضي الله عنه فيه دليل واضح على أنه أسلم قبل فتح مكة، ويؤكد هذا القول منه رضي الله عنه الأمر التالي.
الأمر الثَّاني: جاء في «الصحيحين»[14] عن ابن عباس رضي الله عنهما عن معاوية رضي الله عنه قال: «قصَّرت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بِمِشْقَص».
وقد أطال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث وتحقيق القول في هذا الحديث؛ بذكر الأقوال الواردة في شرحه وتأويله، وتوجيهها[15].
[1] اعترف الرَّافضة بإسلام معاوية رضي الله عنه وهم ألد خصومه، ينظر: تذكرة الفقهاء للحلِّي (9/290)، وجواهر الكلام للجواهري (21/235)، والجوهر النَّقي للمارديني (2/363)، ومكاتيب الرَّسول للأحمدي الميانجي (3/491) و(3/741)، وبحوث في تاريخ القرآن وعلومه لمير محمدي زرندي (116)، وبنور فاطمة اهتديت لعبد المنعم حسن (179).
[2] ينظر: منهاج السُّنَّة (2/62) [جامعة الإمام، ط1، 1406هـ].
[3] ينظر: مجموع الفتاوى (4/466 ـ 472) [طبعة مجمع الملك فهد لطباعة المصحف، ط1، 1416هـ].
[4] أخرجه مسلم (كتاب الطلاق، رقم 1480). والحديث له طرقٌ وألفاظٌ تنظر في: التَّلخيص الحبير (3/320، 321)، تحت الحديث (رقم1493) ـ حاشية المحقق ـ [دار الكتب العلمية، ط1، 1419هـ].
[5] قد جاء تفسيرها في الرِّواية الأخرى: «أبو الجهم منه شدَّة على النِّساء أو يضرب النِّساء»، بعد هذه الرواية في صحيح مسلم، قال النووي: «فيه تأويلان مشهوران؛ أحدهما: أنَّه كثير الأسفار، والثَّاني: أنَّه كثير الضَّرب للنِّساء وهذا أصح، بدليل الرِّواية التي ذكرها مسلم بعد هذه أنَّه ضرَّاب للنِّساء»، شرح صحيح مسلم (10/97) [دار إحياء التراث العربي، ط2، 1392هـ]، وينظر: الاستذكار (3/94)، و(6/149 ـ 150) [دار الكتب العلمية، ط1، 1421هـ]، والتَّلخيص الحبير (3/321).
[6] قد جاء تفسيرها في الرواية الأخرى: «إنَّ معاوية تَرِبٌ خفيف الحال»، في الرِّواية التي بعدها في صحيح مسلم، قال النَّووي: «قليلُ المال جدًّا»، ينظر: شرح صحيح مسلم (10/98)، وتحفة الأحوذي (4/241) [دار الكتب العلمية، ط1، 1410هـ]، وشرح الزُّرقاني على الموطأ (3/270) [مكتبة الثقافة الدينية، ط1].
[7] تاريخ ابن عساكر (59/57) وما بعدها.
[8] ينظر: فتح الباري (7/104) [دار المعرفة، ط1].
[9] نقل قوام السُّنَّة في سير السَّلف الصَّالحين (2/663) [دار الراية، ط1، 1420هـ] رواية عن معاوية رضي الله عنه قال فيها: «أسلمت عام القضيَّة، لقيت النَّبي صلّى الله عليه وسلّم فقبل إسلامي»، وينظر: تاريخ الطَّبري (5/328)، والبداية والنِّهاية (8/21)، والاستيعاب (3/395)، وسير أعلام النبلاء (3/122).
[10] معرفة الصَّحابة لأبي نعيم الأصبهاني (5/2496) [دار الوطن، ط1، 1419هـ].
[11] تاريخ الإسلام للذهبي (4/308) [دار الغرب الإسلامي، ط1، 2003م]. وينظر: سير أعلام النبلاء (3/120).
[12] ينظر: الاستيعاب (3/395)، والإصابة (3/433)، ومنهاج السُّنَّة (4/428 ـ 429)، و(4/436 ـ 439)، والبداية والنهاية (8/118)، وشرح صحيح مسلم للنووي (8/231).
[13] أخرجه ابن سعد في الطَّبقات الكبرى (متمم الصحابة/106) [مكتبة الصديق]، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (59/67) [دار الفكر]، وفي سنده أبو بكر بن أبي سبرة، وقد رمي بالوضع. وينظر: تاريخ دمشق (59/57) قول ابن سعد، و(59/60) قول أبي نعيم، و(59/62) قول أبي بكر الخطيب.
[14] أخرجه البخاري (كتاب الحج، رقم 1730)، ومسلم (كتاب الحج، رقم 1246).
[15] ينظر: فتح الباري (3/565، 566)، وعمدة القاري (10/66، 67) [دار إحياء التراث العربي]، ونيل الأوطار (5/130، 131) [دار الحديث، ط1]، فإنهما لخَّصا كلام ابن حجر في هذه المسألة.
معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما من جملة أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم الذين ثبتت لهم الفضائل العامَّة الواردة في الكتاب والسُّنَّة، وفي هذا المقام نشير إلى الأحاديث التي ثبتت له على وجه الخصوص، ومن ذلك:
ما ثبت عن النَّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه ذكر معاوية رضي الله عنه، فقال: «اللَّهُمَّ اجعله هاديًا مهديًّا، واهْدِ به»[1].
يقول ابن حجر الهيتمي: «فتأمّل هذا الدعاء من الصَّادق المصدوق وأنَّ أدعيته لأمَّته ـ لا سيما أصحابه ـ مقبولة غير مردودة، تعلم أن الله سبحانه استجاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذا الدعاء لمعاوية؛ فجعله هاديًا للنّاس مهديًّا في نفسه، ومن جمع الله له بين هاتين المرتبتين كيف يتخيّل فيه ما تقوله عليه المبطلون، ووصمه به المعاندون، معاذ الله لا يدعو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهذا الدعاء الجامع لمعالي الدنيا والآخرة المانع لكلّ نقص نسبته إليه الطّائفة المارقة الفاجرة، إلاّ لمن علم صلّى الله عليه وسلّم أنّه أهل لذلك حقيق بما هنالك...»[2].
وثبت عن العرباض بن سارية رضي الله عنه؛ أنَّه قال: سمعت النَّبي صلّى الله عليه وسلّم ـ وهو يدعو إلى السّحور في شهر رمضان ـ يقول: «هلمّ إلى الغداء المبارك» ، ثمّ سمعته يقول: «اللَّهُمَّ علِّم معاوية الكتاب والحساب، وقِهِ العذاب»[3].
وقد نقل ابن أبي يعلى الفراء في ترجمة أبي حفص عمر بن إبراهيم العكبري قوله: «سألني سائل: عن رجل حلف بالطلاق الثّلاث إنَّ معاوية رحمه الله في الجنّة؟ فأجبته: إنّ زوجته لم تطلق فليقم على نكاحه، وذكرت له أنّ أبا بكر محمّد بن عسكر سئل عن هذه المسألة بعينها؟ فأجاب بهذا الجواب. قال: وسئل شيخنا ابن بطّة عن هذه المسألة بحضرتي، فأظنه ذكر جواب محمّد بن عسكر فيها. وسمعت الشيخ ابن بطّة يقول: سمعت أبا بكر بن أيوب يقول: سمعت إبراهيم الحربي وسئل عن هذه المسألة فقال: لم تطلق زوجته فليقم على نكاحه، قال[4]: والدّليل على ذلك ما روى العرباض بن سارية؛ أنّه سمع النّبي صلّى الله عليه وسلّم يقول لمعاوية بن أبي سفيان: «اللَّهُمَّ علِّمه الكتاب والحساب وقه العذاب» ، فالنّبي مجاب الدعاء فإذا وقي العذاب فهو من أهل الجنّة...»[5].
ـ وثبت عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنَّه قال لمعاوية رضي الله عنه ناصحًا له: «يا معاوية، إن وليت أمرًا فاتّق الله عزّ وجل واعدل» ، قال: «فما زلت أظن أنّي مبتلى بعمل لقول النّبي صلّى الله عليه وسلّم حتى ابتليت»[6].
هذا الحديث من فضائل خال المؤمنين معاوية بن أبي سفيان؛ كيف وقد جاء في أوّله في بعض طرقه: أنَّه رضي الله عنه أخذ الإداوة يتتبَّع النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فبينا هو يوضِّئ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال له ذلك، ثمّ تخصيصه صلّى الله عليه وسلّم لمعاوية رضي الله عنه بهذه الوصية دليل على مكانته وجليل قدره، ولذا عدّه غير واحد من أهل العلم من الأحاديث الواردة في فضائله رضي الله عنه، ومن أولئك: الآجري[7]، واللاَّلكائي[8]، وقوام السُّنَّة[9]، والعلائي[10]، والذهبي[11]، وابن كثير[12]، وابن حجر[13]، والصَّالحي[14]، وغيرهم، كما عدّه البيهقي[15] والسّيوطي[16] من دلائل نبوّته صلّى الله عليه وسلّم.
ـ كما أخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّ مُلك معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه مُلك ورحمة؛ إذ يقول صلّى الله عليه وسلّم: «أوّلُ هذا الأمر نبوَّة ورحمة، ثمّ يكون خلافة ورحمة، ثمَّ يكون ملكًا ورحمة...» [17]، «فكانت نبوّة النّبي صلّى الله عليه وسلّم نبوة ورحمة، وكانت خلافة الخلفاء الراشدين خلافة نبوة ورحمة، وكانت إمارة معاوية ملكًا ورحمة، وبعده وقع ملك عضوض»[18]، وقد «اتَّفق العلماء على أنّ معاوية أفضل ملوك هذه الأمّة؛ فإنّ الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوّة وهو أوّل الملوك؛ كان ملكه ملكًا ورحمة... وكان في ملكه من الرّحمة والحلم ونفع المسلمين ما يعلم أنّه كان خيرًا من ملك غيره»[19].
ـ وثبت عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما؛ أنّه قال: «كنت ألعب مع الصبيان فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتواريت خلف باب، قال: فجاء فَحَطَأَنِي حَطأَةً[20]، وقال: اذهب وادع لي معاوية ، قال: فجئت، فقلت: هو يأكل، قال: ثم قال لي: اذهب وادع لي معاوية ، قال: فجئت، فقلت: هو يأكل فقال: لا أشبع الله بطنه »[21].
وهذا الحديث هو أصح ما روي في فضل معاوية رضي الله عنه، كما ذكر ذلك الحافظ ابن عساكر[22]، وقد أورد الإمام مسلم هذا الحديث بعد أحاديث من هذا القبيل؛ والتي تتعلق بدعاء النّبي صلّى الله عليه وسلّم على أشخاص وهو عليه الصلاة والسلام لا يريد الدعاء عليهم، وإنما هو دعاء لهم في الحقيقة؛ ولذلك بوّب عليها النّووي رحمه الله بقوله: «باب من لعنه النّبي صلّى الله عليه وسلّم أو سبّه أو دعا عليه وليس هو أهلاً لذلك؛ كان له زكاة وأجرًا ورحمة»[23]، ومن تلك الأحاديث التي أوردها الإمام مسلمٌ رحمه الله:
1 ـ عن أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: «دخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلان، فكلَّماه بشيء لا أدري ما هو فأغضباه، فلعنهما وسبّهما، فلما خرجا، قلت: يا رسول الله، من أصاب من الخير شيئًا ما أصابه هذان، قال: وما ذاك؟ ، قالت، قلت: لعنتهما وسببتهما قال: أو ما علمت ما شارطت عليه ربي؟ قلت: اللَّهُمَّ إنّما أنا بشر، فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاة وأجرًا »[24].
2 ـ وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اللَّهُمَّ إني أتّخذ عندك عهدًا لن تخلفنيه؛ فإنّما أنا بشر، فأيّ المؤمنين آذيته، شتمته، لعنته، جلدته، فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة»[25].
قال النّووي: «وقد فهم مسلم رحمه الله من هذا الحديث أنّ معاوية لم يكن مستحقًّا للدّعاء عليه، فلهذا أدخله في هذا الباب، وجعله غيره من مناقب معاوية؛ لأنّه في الحقيقة يصير دعاء له»[26].
[1] أخرجه الترمذي (أبواب المناقب، رقم 3842) وحسنه، وأحمد (29/426) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وغيرهم، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 1969). وللحديث طرق ومخارج، ينظر تفصيل تخريجها والكلام عليها في: منزلة معاوية بن أبي سفيان عند أهل السُّنَّة والجماعة والرد على شبهات الطاعنين فيه، لأمير بن أحمد قروي (1/372 ـ 384) [دار منار التوحيد، ط1].
[2] تطهير الجنان واللسان (14) [دار الكتب العلمية، ط1].
[3] أخرجه أحمد (28/382) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وابن خزيمة (كتاب الصيام، رقم 1938)، وابن حبان (كتاب إخباره صلّى الله عليه وسلّم عن مناقب الصحابة، رقم 7210)، وقال الهيثمي: (فيه الحارث بن زياد، ولم أجد من وثقه، ولم يرو عنه غير يونس بن سيف، وبقية رجاله ثقات، وفي بعضهم خلاف). مجمع الزوائد (9/356) [مكتبة القدسي]. لكن ذكر الألباني له عدة شواهد في السلسلة الصحيحة رقم (3227). وللحديث طرق ومخارج، ينظر تفصيل تخريجها والكلام عليها في: منزلة معاوية بن أبي سفيان عند أهل السُّنَّة والجماعة لأمير قروي (1/385 ـ 402).
[4] الذي يظهر ـ والله أعلم ـ أن القائل هنا صاحب الترجمة أبو حفص العكبري، ويحتمل أن ترجع إلى آخر قائل؛ وهو إبراهيم الحربي.
[5] طبقات الحنابلة (2/193) [دار المعرفة، بيروت]، وينظر: المقصد الأرشد لابن مفلح (2/291) [مكتبة الرشد، ط1، 1410هـ].
[6] أخرجه أحمد (28/129) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وأبو يعلى (13/370) [دار المأمون، ط1]، وفي سند أحمد انقطاع، وفي سند أبي يعلى راوٍ ضعيف، كما أشار محققو المسند. وانظر: منزلة معاوية بن أبي سفيان عند أهل السُّنَّة والجماعة لقروي (1/310 ـ 312).
[7] ينظر: الشريعة (5/2477) وما بعدها.
[8] ينظر: شرح الأصول (8/1439) [دار طيبة، ط 8].
[9] ينظر: الحجة في بيان المحجة (2/402، 403) [دار الراية، ط2، 1419هـ].
[10] ينظر: تحقيق منيف الرتبة (89، 90) [دار العاصمة، ط1، 1410هـ].
[11] ينظر: سير أعلام النبلاء (3/131).
[12] ينظر: البداية والنهاية (6/220)، و(8/20)، و(8/123) وغيرها.
[13] ينظر: الإصابة (6/153).
[14] ينظر: سبل الهدى والرشاد (10/87)، و(11/390) [دار الكتب العلمية، ط1، 1414هـ].
[15] ينظر: دلائل النبوة (6/446) [دار النفائس، ط2، 1406هـ].
[16] كما في الخصائص الكبرى (2/198، 199) [دار الكتب العلمية].
[17] أخرجه الطبراني في الكبير (11/88) [مكتبة ابن تيمية، ط2]، وقال الهيثمي في المجمع (5/190) [مكتبة القدسي]: رجاله ثقات. وجود الألباني إسناده في السلسلة الصحيحة (رقم 3270).
[18] أفاده ابن تيمية في سؤال في يزيد بن معاوية، في جامع المسائل (5/154) [دار عالم الفوائد، ط1، 1424هـ].
[19] مجموع الفتاوى (4/478). وينظر: منهاج السُّنَّة (7/453).
[20] حَطَأَه، ضرب ظهره بيده مبسوطة. ينظر: مختار الصحاح (60) [المكتبة العصرية، ط5، 1420هـ]، ولسان العرب (1/57) [دار صادر، ط3، 1414هـ].
[21] أخرجه مسلم (كتاب البر والصلة والآداب، رقم 2604).
[22] تاريخ دمشق (59/106). وينظر: البداية والنهاية (8/122).
[23] صحيح مسلم (4/2007).
[24] أخرجه مسلم (كتاب البر والصلة والآداب، رقم 2600).
[25] أخرجه مسلم (كتاب البر والصلة والآداب، رقم 2601).
[26] شرح صحيح مسلم (16/156).
لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما مكانة عالية رفيعة عند أهل السُّنَّة والجماعة، من زمن أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وإلى يوم الناس هذا[1]، ومن تلك الأقوال المأثورة عن سلف الأمة وعلمائها، ما يلي:
يقول الإمام الأوزاعي رحمه الله: «أدركت خلافة معاوية جماعة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لم ينتزعوا يدًا من طاعة، ولا فارقوا جماعة»[2].
وقال أيضًا: «أدركت خلافة معاوية رضي الله عنه عدّة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، منهم: سعد، وأسامة، وجابر، وابن عمر، وزيد بن ثابت، ومسلمة بن مخلد، وأبو سعيد، ورافع بن خديج، وأبو أمامة، وأنس بن مالك، ورجال أكثر ممّن سمّينا بأضعاف مضاعفة، كانوا مصابيح الهدى وأوعية العلم، حضروا من الكتاب تنزيله، وأخذوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تأويله.
ومن التّابعين لهم بإحسان ـ إن شاء الله ـ منهم: المسور بن مخرمة[3]، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزّبير، وعبد الله بن مُحَيرِيز، في أشباه لهم، لم ينزعوا يدًا عن مجامعةٍ في أمّة محمَّدٍ صلّى الله عليه وسلّم»[4].
ولم يكن هذا شأنهم فحسب، بل ثبتت عنهم كلمات رائقة رائعة في الثّناء على خال المؤمنين رضي الله عنه، ومما جاء عنهم في ذلك:
ما قاله الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «تعجبون من دهاء هرقل وكسرى، وتدعون معاوية»[5]، وفي لفظ عنه رضي الله عنه: «تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما؛ وعندكم معاوية»[6].
وقال أيضًا قبيل موته رضي الله عنه: «اللَّهُمَّ إنّي أشهدك على أمراء الأمصار، وإنّي إنّما بعثتهم عليهم ليعدلوا عليهم، وليعلموا الناس دينهم وسنّة نبيّهم صلّى الله عليه وسلّم، ويقسموا فيهم فيئهم، ويرفعوا إليّ ما أشكل عليهم من أمرهم»[7].
وهو الذي يقول رضي الله عنه: «والله ما آلو أن أختار خياركم»[8]، وقد جمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمعاوية رضي الله عنه الشّام كلها، وأقرّه عثمان بن عفان رضي الله عنه على ذلك[9]، قال الذهبي رحمه الله: «حسبك بمن يؤمّره عمر، ثمّ عثمان على إقليم ـ وهو ثغر ـ فيضبطه، ويقوم به أتم قيام، ويرضي الناس بسخائه وحلمه»[10]، وقال ابن تيمية رحمه الله: «ولا استعمل عمر قطّ؛ بل ولا أبو بكر على المسلمين منافقًا»[11].
وقال سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه: «ما رأيت أحدًا بعد عثمان أقضى بحقٍّ من صاحب هذا الباب»؛ يعني: معاوية[12].
وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: «إنّي لأتمنّى أن يزيد الله عزّ وجل معاوية من عمري في عمره»[13].
وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ـ وقد قيل له: هل لك في أمير المؤمنين معاوية؛ فإنه ما أوتر إلا بواحدة ـ، فقال رضي الله عنه: «أصاب؛ إنه فقيه»[14]؛ أي: «يعرف أبواب الفقه»[15].
وثبت عنه رضي الله عنه ـ في رواية ـ أنه قال: «ليس أحد منَّا أعلم من معاوية»[16].
وقد قيل له رضي الله عنه: إنّ معاوية لم يوتر حتّى أصبح، فأوتر بركعة، فقال:«إنّ أمير المؤمنين عالم»[17].
قال أبو إسحاق السّبيعي رحمه الله: «كان معاوية، وما رأينا بعده مثله»[18]، وكان يقول ذلك كلّما ذكر عمر بن عبد العزيز رحمه الله[19].
وذكر رحمه الله معاوية رضي الله عنه، فقال: «لو أدركتموه ـ أو أدركتم زمانه ـ؛ كان المهدي»[20].
وقال مجاهد بن جبر رحمه الله: «لو رأيتم معاوية لقلتم هذا المهدي؛ من فضله»[21].
وقال إبراهيم بن ميسرة رحمه الله: «ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنسانًا قطّ، إلا إنسانًا شتم معاوية؛ فضربه أسواطًا»[22].
وقال أبو توبة الرَّبيع بن نافع الحلبي رحمه الله [241هـ]: «معاوية ستر لأصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلّم فإذا كشف الرجل السِتر اجترأ على ما وراءه»[23].
إلى غير ذلك من النقول العظيمة في بيان مكانة ومنزلة هذا الصحابي الجليل.
[1] وفي كتاب: منزلة معاوية بن أبي سفيان عند أهل السُّنَّة والجماعة (1/423 ـ 473) تتبع لتلك الأقوال التي تثبت وتبيِّن تلك المكانة والمنزلة، فليرجع إليه للاستزادة.
[2] الاستيعاب (3/1420).
[3] الصحيح أنَّه صحابي جليل رضي الله عنه.
[4] ينظر: تاريخ أبي زرعة (7، 27) [مجمع اللغة العربية، دمشق]، وتاريخ دمشق (59/158).
[5] أخرجه ابن عساكر في تاريخه (59/119)، من طريق ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن عمر به، وعلقه الذهبي في السير (3/134)، وتاريخ الإسلام (4/311)، عن ابن أبي ذئب به.
[6] أخرجه الطبري في التاريخ (3/264)، بسنده عن ابن أبي ذئب به بمثل الإسناد السابق، وينظر: الكامل في التاريخ (3/373).
[7] أخرجه مسلم (كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم 567).
[8] أخرجه أبو عبيد في الأموال (713) (برقم1920) [دار الفكر، بيروت].
[9] كما قال خليفة بن خياط رحمه الله في تاريخه (155، و178).
[10] سير أعلام النبلاء (3/132).
[11] مجموع الفتاوى (35/65).
[12] ينظر: تاريخ دمشق (59/160، 161)، وتاريخ الإسلام للذهبي (2/544) [دار الكتاب العربي، ط2، 1413هـ]، والسير (3/150).
[13] أخرجه أبو عروبة كما في المنتقى من الطبقات (68) [دار البشائر، ط1، 1994م].
[14] أخرجه البخاري (كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، رقم 3765)، وفي رواية (رقم 3764) أنه قال: «دعه؛ فإنه صحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم».
[15] ينظر: عمدة القاري (16/248).
[16] أخرجه الشافعي في مسنده (86) [دار الكتب العلمية، ط1، 1370هـ]، وعبد الرزاق في مصنفه (كتاب الصلاة، رقم 4641).
[17] أخرجه ابن سعد في الطبقات (متمم الصحابة/126) [مكتبة الصديق]، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه (59/165)، ويشهد له ما سبق.
[18] أخرجه ابن سعد في الطبقات (1/122، 123)، برقم (47)، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (59/172)، قال: أخبرنا الفضل بن دكين، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، فذكره، وهذا إسناد [كوفي] صحيح، كما قال محقق الطبقات. وأخرجه الخلال في السُّنَّة (2/438) (برقم670)، والأثرم ـ كما في منهاج السُّنَّة (6/234) ـ من طريق محمد بن العلاء، عن أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، فذكره، وهذا إسناد [كوفي] صحيح أيضًا، كما قال محقق السُّنَّة.
[19] كما قال أبو بكر بن عياش في رواية ابن سعد السابقة.
[20] أخرجه الخلال في السُّنَّة (2/439) برقم (672)، قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبو سعيد الأشج، قال: ثنا أبو أسامة [حماد بن أسامة]، قال: حدثني الثقة، عن أبي إسحاق، فذكره، وقد ضعفه محقق السُّنَّة؛ لأجل إبهام شيخ حماد.
[21] أخرجه الخلال في السُّنَّة (2/438) برقم (669)، والبغوي في معجم الصحابة (5/368) برقم (2191)، وأبو عروبة الحراني كما في المنتقى من الطبقات (67)، والآجري في الشريعة (5/2465) برقم (1953).
[22] أخرجه اللالكائي في شرح الأصول (7/1265، 1266) برقم (2385)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (59/211)، من طريق ابن المبارك، عن محمد بن مسلم، عن إبراهيم بن ميسرة، فذكره، وينظر: الصارم المسلول (3/1059) [رمادي للنشر، ط1، 1417هـ].
[23] أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (59/209)، وينظر: البداية والنهاية (8/139).
المسألة الأولى: كتابة معاوية رضي الله عنه للوحي:
لقد كان لمعاوية رضي الله عنه مكانة عالية، ومنزلة خاصة عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جعلته كاتبًا بين يديه صلّى الله عليه وسلّم، أمينًا على وحي ربه عزّ وجل؛ فقد روى مسلم[1] عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ أنه قال: «خرج معاوية على حَلْقة في المسجد فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقل عنه حديثًا مني، وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج على حلقة من أصحابه، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومنَّ به علينا، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عزّ وجل يباهي بكم الملائكة ». وفي رواية زيادة: «إنكم لا تجدون رجلاً منزلته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منزلتي، أقل حديثًا عنه مني، كنت خَتَنَه[2]، وكنت في كتّابه، وكنت أُرَحِّل له ناقته»[3].
وقد وردت عدة نصوص تدل على ثبوت كتابة معاوية رضي الله عنه للوحي، من ذلك:
1 ـ ما أخرجه مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه، فقال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا نبي الله، ثلاث أعطنيهن، قال: «نعم» . قال: عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها، قال: «نعم» . قال: ومعاوية تجعله كاتبًا بين يديك، قال: «نعم» . قال: وتؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، قال: «نعم»[4].
قال الإمام أحمد رحمه الله فيمن قال: لا أقول إن معاوية كاتب الوحي، ولا أقول إنه خال المؤمنين؛ فإنه أخذها بالسيف غصبًا: «هذا قول سوء رديء، يجانَبون هؤلاء القوم، ولا يجالَسون، ونبيِّن أمرهم للناس»[5].
قال ابن تيمية رحمه الله: «استكتبه النبي صلّى الله عليه وسلّم لخبرته وأمانته»[6].
وقال أيضًا: «وأما قول الرافضي: «وسموه كاتب الوحي، ولم يكتب له كلمة واحدة من الوحي»، فهذا قول بلا حجة ولا علم؛ فما الدليل على أنه لم يكتب له كلمة واحدة من الوحي، وإنما كان يكتب له رسائل.
وقوله: «إن كُتَّاب الوحي كانوا بضعة عشر أخصهم وأقربهم إليه علي»، فلا ريب أن عليًّا كان ممن يكتب له أيضًا، كما كتب الصلح بينه وبين المشركين عام الحديبية، ولكن كان يكتب له أبو بكر وعمر أيضًا، ويكتب له: زيد بن ثابت بلا ريب... ومعاوية رضي الله عنهم»[7].
وقال أيضًا: «هو واحد من كُتَّاب الوحي»[8].
وقال النووي رحمه الله: «معاوية بن أبي سفيان الخليفة أحد كتاب الوحي..»[9].
المسألة الثانية: حرص معاوية رضي الله عنه على حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم:
لقد كان معاوية رضي الله عنه ـ إضافة إلى كتابته للوحي ـ أحد رواة الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذا أمر ثابت مسطر في كتب الحديث وغيرها، ومما يشهد لذلك:
أن وَرَّادًا مولى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: «كتب معاوية إلى المغيرة: اكتب إلي ما سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول خلف الصلاة، فأملى علي المغيرة، قال: سمعت النبي يقول خلف الصلاة: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اللَّهُمَّ لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد»» ، وقال ابن جريج: أخبرني عبدة أن ورّادًا أخبره بهذا، ثم وفدت بعد إلى معاوية فسمعته يأمر الناس بذلك القول[10].
وكتب معاوية بن أبي سفيان مرة إلى مسلمة بن مخلد: «أن سل عبد الله بن عمرو بن العاص، هل سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا قدّست أمة لا يأخذ ضعيفها حقه من قويها وهو غير مضطهد» ، فإن قال: نعم، فاحمله إلي على البريد، فسأله فقال: نعم، فحمله على البريد من مصر إلى الشام، فسأله معاوية فأخبره، فقال معاوية رضي الله عنه: وأنا قد سمعته، ولكن أحببت أن أَثَّبَّت»[11].
وعنه أنه قال: «إياكم وأحاديث؛ إلا حديثًا كان في عهد عمر؛ فإن عمر كان يخيف الناس في الله عزّ وجل، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين» ، وسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنما أنا خازن، فمن أعطيته عن طيب نفس فيبارك له فيه، ومن أعطيته عن مسألة وشره، كان كالذي يأكل ولا يشبع»»[12].
وكتب معاوية رضي الله عنه إلى عبد الرحمن بن شبل رضي الله عنه: «أن علِّم الناس ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم»[13]
المسألة الثالثة: خلافته عمومًا رضي الله عنه:
«كانت مدة خلافة معاوية رضي الله عنه تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر تقريبًا، منذ أن تنازل له الحسن بن علي رضي الله عنهما، في شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين إلى أن توفي في رجب سنة ستين.
وكانت خلافة معاوية رضي الله عنه خيرًا للمسلمين، حيث زال تفكير الأعداء باستعادة المراكز التي تخلَّوا عنها، إذ رجع المسلمون فوجهوا قوتهم إلى مناطق الثغور، وانطلقوا للجهاد والدعوة والعمل، فعادت أيام الفتح، وقطع الروم بخاصة أملهم بالرجوع إلى الأماكن التي فقدوها، لذا عُرف بدء خلافته بعام الجماعة؛ إذ توحدت كلمة المسلمين بعد اختلاف، واجتمعت جيوشهم بعد افتراق فكان ذلك خيرًا لهم، وسرورًا لأنفسهم»[14]، وتحقق بذلك قول النبي الكريم صلّى الله عليه وسلّم للحسن رضي الله عنه: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»[15].
«وقد خرج مصداق هذا القول فيه بما كان من إصلاحه بين أهل العراق وأهل الشام وتخليه عن الأمر؛ خوفًا من الفتنة، وكراهية لإراقة الدم، ويسمى ذلك العام: سنة الجماعة، وفي الخبر دليل على أن واحدًا من الفريقين لم يخرج بما كان منه في تلك الفتنة من قول أو فعل عن ملة الإسلام؛ إذ قد جعلهم النبي صلّى الله عليه وسلّم مسلمين»[16].
قال ابن كثير رحمه الله: «انعقدت الكلمة على معاوية، وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين، فلم يزل مستقلًّا بالأمر في هذه المدة إلى هذه السنة التي كانت فيها وفاته، والجهاد في بلاد العدو قائم، وكلمة الله عالية، والغنائم ترد إليه من أطراف الأرض، والمسلمون معه في راحة وعدل، وصفح وعفو»[17].
[1] أخرجه مسلم (كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، رقم 2701). وقد بوَّب عليه الآجري في الشريعة (5/2459): «باب ذكر صحبة معاوية رضي الله عنه للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ومنزلته عنده».
[2] ختن الرجل؛ المتزوج بابنته أو أخته. انظر: لسان العرب (13/138).
[3] أخرجها ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1/380) [دار الراية، ط1، 1411هـ]، والآجري في الشريعة (5/2461) [دار الوطن، ط2]، وقال محقق الشريعة: «إسناده صحيح».
[4] أخرجه مسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2501).
[5] أخرجه الخلال في السُّنَّة (2/434) برقم (659)، وصححه المحقق.
[6] منهاج السُّنَّة النبوية (4/439).
[7] المصدر السابق (4/427، 428).
[8] المصدر السابق (4/442).
[9] المجموع شرح المهذب (1/114) [دار الفكر].
[10] أخرجه البخاري (كتاب القدر، رقم 6615)، ومسلم (كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم 593).
[11] أخرجه الطبراني في الكبير (19/387) [مكتبة ابن تيمية، ط2]، وقال الهيثمي في المجمع (5/209) [مكتبة القدسي]: «رواه الطبراني ورجاله ثقات». والحديث المرفوع في هذه القصة ثابت، وهو مروي عن غير واحدٍ من الصحابة. انظر: السلسلة الضعيفة (14/356)، وصحيح الجامع (2/843).
[12] أخرجه مسلم (كتاب الزكاة، رقم 1037).
[13] أخرجه أحمد (24/437) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والحاكم في المستدرك (كتاب النكاح، رقم 2773) وصححه، وقوى إسناده ابن حجر في الفتح (9/101) [دار المعرفة]، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 366).
[14] انظر: معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وأسرته لمحمود شاكر (165).
[15] أخرجه البخاري (كتاب المناقب، رقم 3629).
[16] انظر: معالم السنن للخطابي (7/37) [المطبعة العلمية، ط1، 1351هـ].
[17] انظر: البداية والنهاية (8/119).
من الأمور اللافتة أن معاوية رضي الله عنه قد طعن فيه من طوائف كثيرة من أهل البدع، ولم يسلم إلا من أهل السُّنَّة والجماعة، وهذا من توفيق الله لهم، وفيما يلي بعض النقول اليسيرة الكاشفة لمواقف أبرز تلك الطوائف المنحرفة في هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه:
ـ الخوارج : قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله: «والخوارج بأسرها يثبتون إمامة أبي بكر وعمر، وينكرون إمامة عثمان رضوان الله عليهم في وقت الأحداث التي نقم عليه من أجلها، ويقولون بإمامة علي قبل أن يُحَكِّم، وينكرون إمامته لمّا أجاب إلى التحكيم، ويُكَفِّرون معاوية وعمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري»[1].
ـ الشيعة الإمامية الاثني عشرية : فهم أكبر الوالغين في عرض معاوية رضي الله عنه، ومن جملة ما قالوه في حقه رضي الله عنه:
ـ أنه لم يسلم إلا بالاسم[2]، وأنه بقي على جاهليته الأولى[3].
ـ ولم يمت حتى علق الصليب في عنقه[4].
ـ وأنه أحد أصحاب التوابيت التي في أسفل درك الجحيم[5].
ـ وأنه يعذب في نار جهنم منذ مات، وينسبون إلى عدد من الأئمة أنهم رأوه مغلولاً في سلسلة ذرعها سبعون ذراعًا في واد من أودية جهنم[6].
ـ ويزعمون أيضًا أنه كان شرًّا من إبليس[7].
ـ وأنه إمام من أئمة الكفر[8].
ـ وأنَّه كان طليقًا، منافقًا، معاندًا لله ولرسوله وللمؤمنين[9].
ـ وأنه كان من أعداء آل محمد، وخاصة علي بن أبي طالب رضي الله عنه منهم[10]، إلى غير ذلك من الأقوال الساقطة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ـ المعتزلة : يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي: «... إنا نعلم من حال الصحابة، وخاصة من حال علي بن أبي طالب عليه السلام، أنهم كانوا لا يعظمون صاحب الكبيرة، ولا يوالونه في الله عزّ وجل، بل يلعنونه ويستخفون به، ولهذا فإن أمير المؤمنين عليه السلام كان يقول في قنوته: «اللَّهُمَّ العن معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص»...»[11].
ويقول عالمهم ومقدمهم أحمد بن يحيى بن المرتضى المعتزلي ـ وهو يحكي معتقد المعتزلة ـ: «وأكثرهم على البراءة من معاوية وعمرو بن العاص»[12].
سبحانك هذا بهتان عظيم؛ فإنه من المعلوم أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما من خيار أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما شهدت بذلك النصوص، والتي سبق إيراد شيء منها، وأن إسلامه مما لا يشك فيه رجل يؤمن بالله واليوم الآخر؛ وقد أبدع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بيان هذه المسألة المهمة، حين سئل: عن إسلام معاوية بن أبي سفيان متى كان؟ وهل كان إيمانه كإيمان غيره أم لا؟ وما قيل فيه غير ذلك؟
فأجاب رحمه الله: «إيمان معاوية بن أبي سفيان ثابت بالنقل المتواتر[13]، وإجماع أهل العلم على ذلك... وأما إسلامه عام الفتح... فمتفق عليه بين العلماء؛ سواء كان أسلم قبل ذلك أو لم يكن إسلامه إلا عام فتح مكة؛ ولكن بعض الكذابين زعم: أنه عيَّر أباه بإسلامه، وهذا كذب بالاتفاق من أهل العلم بالحديث... وكان معاوية أحسن إسلامًا من أبيه باتفاق أهل العلم...»[14].
فكيف يحكم بردته والعياذ بالله بعد ذلك؟ فضلاً عن أنه لم يسلم قط، أو يطعن في عدالته وفضله؟ وقد ثبت عن العرباض بن سارية رضي الله عنه أنّه قال: سمعت النّبي صلّى الله عليه وسلّم ـ وهو يدعو إلى السَّحور في شهر رمضان ـ: «هلمَّ إلى الغداء المبارك» ، ثم سمعته يقول: «اللَّهُمَّ علِّم معاوية الكتاب والحساب، وقِهِ العذاب»[15].
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا» [16]؛ أي: «فعلوا فعلاً وجبت لهم به الجنة، أو أوجبوا لأنفسهم المغفرة والرحمة»[17].
قال ابن عبد البر رحمه الله: «لم يختلف أهل السّير فيما علمت أن غزاة معاوية هذه المذكورة في حديث هذا الباب، إذ غزت معه أمّ حرام كانت في خلافة عثمان»[18].
وفي رواية عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن خالته أمِّ حرام رضي الله عنها: «نام النبي صلّى الله عليه وسلّم يومًا قريبًا مني، ثم استيقظ يبتسم، فقلت: ما أضحكك؟ قال: «أناس من أمتي عرضوا علي يركبون هذا البحر الأخضر كالملوك على الأسرّة» ، قالت: فادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها، ثم نام الثانية، ففعل مثلها، فقالت مثل قولها، فأجابها مثلها، فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: «أنت من الأولين» ، فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت غازيًا أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية فلما انصرفوا من غزوهم قافلين فنزلوا الشام، فقربت إليها دابة لتركبها، فصرعتها فماتت»[19].
وقال ابن عبد البر رحمه الله: «وفيه فضل لمعاوية رحمه الله؛ إذ جعل من غزا تحت رايته من الأولين»[20].
فتكفي هذه النصوص ونحوها في إبطال دعاوى المخالفين الطاعنة في هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه، والله المستعان.
[1] مقالات الإسلاميين (125) [دار فرانز شتايز، ط3، 1400هـ].
[2] انظر: ظلال التشيع لمحمد علي الحسني (286).
[3] انظر: مقدمة مرآة العقول للعسكري (1/38).
[4] انظر: الصراط المستقيم للبياضي (3/50).
[5] انظر: الخصال للصدوق (2/458، 485)، والبرهان للبحراني (4/528)، ومقدمة البرهان للعاملي (263).
[6] انظر: بصائر الدرجات الكبرى للصفار (304 ـ 307)، والاختصاص للمفيد (275 ـ 277)، وتفسير الصافي للكاشاني (2/491).
[7] انظر: منهاج الكرامة للحلي (116).
[8] انظر: الشافي للمرتضى (287)، وتلخيص الشافي للطوسي (462).
[9] انظر: المصباح للكفعمي (552)، والشيعة والحاكمون لمحمد مغنية (39)، وأبو طالب مؤمن قريش للخنيزي (51).
[10] انظر: الجمل للمفيد (49)، ومنهاج الكرامة للحلي (116)، والكشكول للآملي (160)، والشيعة في الميزان لمغنية (255).
[11] شرح الأصول الخمسة (140، 141).
[12] كتاب طبقات المعتزلة (8)، وكتاب المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل (6).
[13] انظر: منهاج السُّنَّة (2/62).
[14] انظر: الجواب بطوله في الفتاوى (4/466 ـ 472).
[15] سبق تخريجه.
[16] أخرجه البخاري (كتاب الجهاد والسير، رقم 2924).
[17] فيض القدير (3/84).
[18] التمهيد (1/242).
[19] أخرجه البخاري (كتاب الجهاد والسير، رقم 2788)، ومسلم (الإمارة، رقم 1912).
[20] التمهيد (1/235). وانظر: الشريعة للآجري (5/2440، 2441) (برقم1922)، وشرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة (8/1438)، برقم (2772)، فقد عدَّا الحديث من فضائل معاوية رضي الله عنه.
1 ـ «الاستيعاب»، لابن عبد البر.
2 ـ «الإصابة»، لابن حجر العسقلاني.
3 ـ «تحقيق منيف الرتبة»، للعلائي.
4 ـ «تطهير الجنان واللسان»، لابن حجر الهيتمي.
5 ـ «الحجة في بيان المحجة»، لقوام السُّنَّة الأصبهاني.
6 ـ «سؤال في يزيد بن معاوية من جامع المسائل»، لابن تيمية.
7 ـ «سير السَّلف الصَّالحين»، لقوام السُّنَّة الأصبهاني.
8 ـ «الصارم المسلول»، لابن تيمية.
9 ـ «فضائل الصَّحابة»، لأحمد بن حنبل.
10 ـ «المقصد الأرشد» (ج2)، لابن مفلح.
11 ـ «منزلة معاوية بن أبي سفيان عند أهل السُّنَّة والجماعة والرد على شبهات الطاعنين فيه»، لأمير بن أحمد قروي.