حرف الميم / المعجزة

           

المُعْجِزَة : اسم فاعل من الفِعل الثلاثي المزيد (أعجزَ)؛ ومعناها: ما أُعْجِزَ به الخصم عند التَّحدِّي، والهاء للمُبالغة. والعين والجيم والزاي أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على الضَّعْف؛ يُقال: عَجزَ عن الشيء يعجز عَجْزًا فهو عاجز؛ أي: ضعيف، ويُقال: أعجزني فلانٌ؛ إذا عَجَزتُ عن طلبه وإدراكه[1].


[1] انظر: الصحاح (3/883) [دار العلم للملايين، ط4، 1990م]، ومقاييس اللغة (4/232) [دار الفكر، ط2]، والقاموس المحيط (663) [مؤسسة الرسالة، ط5].


المعجزة : هي «أمر خارق للعادة، يجريه الله على يد من يختاره لنبوته؛ ليدلّ على صدقه وصحّة رسالته»[1].


[1] الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للفوزان (2/157) [الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، ط2، 1412هـ]. وانظر: المعرفة في الإسلام لعبد الله القرني (141) [دار عالم الفوائد، ط1، 1419هـ]، وأصول الإيمان في ضوء الكتاب والسُّنَّة لنخبة من العلماء (199) [وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف بالسعودية، 1421هـ].


يدور المعنى اللّغوي للمعجزة حول: الضعف وعدم القدرة على طلب الشيء وإدراكه، وهذه حقيقة المعجزة
في اصطلاح الشَّرع؛ فالمقصود منها: إثبات عجز الخلق وضعفهم عن الإتيان بها أو بمثلها أو ما يقاربها، أو معارضتها؛ للدلالة على صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم والرسالة واتباعهما. فيظهر بهذا أنّ بين المعنى اللغوي والشرعيّ تناسبًا وتوافقًا واضحًا.



سمِّيت المعجزة بهذا الاسم؛ لعجز الخلق وضعفهم عن الإتيان بها أو بمثلها أو ما يقاربها، أو معارضتها.



المعجزة هي : البيّنة، والبرهان، وآيات النبوّة، وعلاماتها، وأعلامها، وأدلّتها، والخارق للعادة.



يجب على المسلم أن يعتقد أنّ الله عزّ وجل أرسل رسله عليهم السلام لدعوة النّاس إلى توحيده ودينه، وأنّه أيّدهم ـ بعلمه وقدرته وغناه ـ بدلائل النّبوة الكثيرة المتنوعة، والتي منها: الآيات والبينات والبراهين ـ والتي سماها المتأخرون بالمعجزات ـ المناسبة لأهل زمانهم؛ للدلالة على صدق نبوتهم وأنّهم مرسلون من عند الله تعالى حقًّا؛ ولذا يتبعها دائمًا نصرهم وحصول العاقبة لهم ولأتباعهم، وإهلاك أعدائهم، مع قلة العَدد والعُدد! فالمعجزات أمر كبير، وبرهان منير، ما طرق العالم له معارض ألبتة، خصوصًا مع قدم النبوات وتواترها.



المعجزات التي أيد الله بها أنبياءه عليهم السلام حق وصدق، ليست من قبيل سحر السحرة والمتنبّئين والكذّابين وشعوذتهم ودجلهم؛ بل هي تأييد من الله تعالى، وبرهان ساطع على صدق أنبيائه ورسله وصحة رسالتهم، فإنكارها وجحدها تكذيب للشرع وخروج عن الدين.
وهذه المعجزات مختصّة بالأنبياء لا يشركهم فيها أحد غيرهم، وأنّها مستلزمة لصدقهم، ولا تكون إلا مع صدقهم، ولا يتصور وجودها مع انتفاء صدقهم؛ لأنّ من ادّعى النّبوة إمّا أن يكون صادقًا فيؤيّده الله بالآيات، وإما أن يكون كاذبًا فلا يؤيّده بها. فهي ملازمة للنّبوة؛ فتدل عليها ولو كان النبي ميّتًا أو غائبًا. ولا بدّ أن تكون في نفسها خارقة للعادة، لا يقدر عليها إلا الله تعالى، خارجة عن قدرة الإنس والجن، ولا يمكن لأحد أن يعارضها، لا بمثلها ولا بأقوى منها.
ومعجزات الأنبياء ـ زيادة على أنّها تأييد للرسل ودلالة على صدقهم ـ هي من دلائل وجود وربوبية محدثها وموجدها عزّ وجل وإثبات وحدانيته؛ بل هي من أقوى الطرق ـ التي دلَّ عليها القرآن وأرشد إليها العباد ـ التي يستدل بها على وجود الله تعالى وتوحيده وأصحها وأوثقها، وأدلها على الصانع وصفاته وأفعاله وصدق رسله واليوم الآخر.
ودلائل النّبوة ومعرفة صدق النبيّ ليست محصورة في المعجزات ـ التي هي الخوارق ـ؛ بل تكون بالمعجزات وغيرها من الطرق الكثيرة المتنوعة ـ خلافًا لمن خالف في ذلك من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم ـ؛ مثل: النظر في أحوال الأنبياء وما اشتهروا به من الصدق والأمانة ومكارم الأخلاق ومحاسن الصفات، والنظر فيما جاؤوا به من التشريعات والأخبار وما فيها من إحكامٍ وإتقان، ينتظم مصالح العباد في الدنيا والآخرة، مما يعلم أنّ مثله لا يصدر إلا من نبيّ صادق بارّ، وتأييد الله تعالى لهم تأييدًا مستمرًا لا ينقطع، وجعل العاقبة لهم ولأتباعهم ولو بعد حين، إلى غير ذلك من الدلائل المعروفة[1].


[1] انظر: الشِّفا للقاضي عياض (1/341) وما بعدها، (523) [مطبعة عيسى البابي الحلبي]، والنُّبُوَّات (12، 36، 112، 114، 165، 202 ـ 206، 220، 259، 271، 299)، ومجموع الفتاوى (11/275، 311، 379)، والجواب الصحيح (1/399، 417، 418، 5/140، 405، 412، 419، 6/400، 401، 500)، وشرح العقيدة الأصفهانية (120، 208) [مكتبة الرشد، ط1، 1415هـ]، والصَّواعِق المُرسَلَة (3/1197)، والبداية والنهاية (2/99، 6/77، 288) [دار إحياء التراث العربي، ط1، 1408هـ]، والفصول في سيرة الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم (228، 287) [مؤسسة علوم القرآن بدمشق، ط3، 1403هـ]، وشرح الطحاويَّة لابن أبي العزّ (1/140، 2/746) [مؤسسة الرسالة، ط9، 1417هـ].


أمّا الأدلة على تأييد الله تعالى لأنبيائه عليهم السلام بالمعجزات (الآيات، والبينات، والبراهين)، وأنّها دالةٌ على صدقهم وصحة رسالتهم؛ فمنها: قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} [الرعد: 38] ، وقوله عزّ وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد: 25] ، وقوله: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ *} [آل عمران] ، وقوله: {أَلَمْ يأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ *} [التوبة] ، وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101] . والآيات في هذا الباب أكثر من أن تحصر، ودلالتها على المقصود ظاهرة بيّنة. والحمد لله.
وثبت في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما من الأنبياء نبيٌّ إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنّما كان الذي أوتيت وحيًا أوحاه الله إليّ؛ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة» [1]. والقرآن ذكر أدلة وافرة على معجزات الأنبياء بأعيانهم، لم نذكرها هنا طلبًا للاختصار.


[1] أخرجه البخاري (كتاب فضائل القرآن، رقم 4981)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 152).


قال ابن تيمية: «آيات الأنبياء هي التي تعلم أنّها مختصة بالأنبياء، وأنّها مستلزمة لصدقهم، ولا تكون إلا مع صدقهم، وهي لا بد أن تكون خارقة للعادة، خارجة عن قدرة الإنس والجن، ولا يمكن أحدًا أن يعارضها. لكن كونها خارقة للعادة ولا يمكن معارضتها هو من لوازمها، ليس هو حدًّا مطابقًا لها. والعلم بأنها مستلزمة لصدقهم قد يكون ضروريًّا؛ كانشقاق القمر، وجعل العصا حية، وخروج الناقة؛ فمجرد العلم بهذه الآيات يوجب علمًا ضروريًّا بأنّ الله جعلها آية لصدق هذا الذي استدل بها؛ وذلك يستلزم أنّها خارقة للعادة، وأنه لا يمكن معارضتها؛ فهذا من جملة صفاتها، لا أنّ هذا وحده كاف فيها»[1].
وقال السعدي: «إن المعجزة هي ما يجري الله على أيدي الرسل والأنبياء من خوارق العادات التي يتحدون بها العباد، ويخبرون بها عن الله لتصديق ما بعثهم به، ويؤيدهم بها سبحانه؛ كانشقاق القمر، ونزول القرآن، فإن القرآن هو أعظم معجزة الرسول على الإطلاق، وكحنين الجذع، ونبوع الماء من بين أصابعه، وغير ذلك من المعجزات الكثيرة»[2].


[1] النُّبُوَّات (203)، بتصرُّفٍ يسيرٍ. وانظر منه: (220).
[2] التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة (107).


المسألة الأولى: لفظ (المعجزة) لا يعرف في الكتاب والسُّنَّة:
من المسائل المتعلقة بالمعجزة: ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية[1] رحمه الله من أنّ: لفظ (المعجزات) لا يعرف في الكتاب والسُّنَّة؛ وإنّما في القرآن لفظ: الآية، والبينة، والبرهان، وهذه الأسماء تدلُّ على مقصود آيات الأنبياء، وتختص بها ولا تقع على غيرها، بخلاف: (المعجزة) و(خرق العادة)، وإن كان ذلك من بعض صفاتها؛ فهي لا تكون آية وبرهانًا حتى تكون قد خرقت العادة وعجز الناس عن الإتيان بمثلها. وسبق ذكر كثير من الآيات التي فيها هذه الألفاظ في (الأدلة)؛ فراجعها.
ثم إنّ إطلاق (المعجزة) على ما كان للأنبياء من خوارق العادات، و(الكرامة) على خرق العادة للأولياء؛ لم يكن معروفًا عن السّلف والأئمة المتقدمين ـ كالإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وغيره ـ؛ فقد كانوا يسمّون هذا وهذا معجزات، بخلاف المتأخرين من أهل الكلام؛ فالمعجزة في اللغة وعرف المتقدمين تعمّ كل خارق للعادة، ويقولون لخوارق الأولياء: إنّها معجزات إذا لم يكن في اللفظ ما يقتضي اختصاص الأنبياء بذلك، بخلاف ما كان آية وبرهانًا على نبوة النبيّ فهذا يجب اختصاصه.
وقد يسمّون (الكرامات) آيات؛ لكونها تدل على نبوّة من اتّبعه الوليّ؛ فهذه الكرامات إنّما حصلت ببركة اتباع هذا النبيّ؛ فهي في الحقيقة تدخل في معجزاته ـ فكرامات الأولياء معجزات للأنبياء ـ، والدليل مستلزم للمدلول، يمتنع ثبوته بدون ثبوت المدلول؛ فكذلك ما كان آية وبرهانًا ـ وهو الدليل والعلم على نبوة النّبي ـ يمتنع أن يكون لغير النّبي[2].
المسألة الثانية: كل معجزة لنبي من الأنبياء هي معجزة لخاتمهم محمد صلّى الله عليه وسلّم:
ومن المسائل المتعلقة أيضًا: ما ذكره غير واحد من العلماء[3] من أنّ: كل معجزة لنبيّ من الأنبياء فهي معجزة لخاتمهم محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ وذلك أنّ كلًّا منهم بشر بمبعثه، وأمر بمتابعته؛ كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ *} [آل عمران] ؛ فما بعث الله نبيًّا من الأنبياء إلا أخذ عليه العهد والميثاق: لئن بعث محمد صلّى الله عليه وسلّم وهو حيّ ليؤمننّ به وليتّبعنه ولينصرنّه.
المسألة الثالثة: كل معجزة لنبيّ فلنبيِّنا صلّى الله عليه وسلّم أمثالها:
ومن المسائل المتعلقة أيضًا: ما ذكره بعض العلماء[4] من: أنّ كلّ معجزة لنبيّ فلنبيّنا أمثالها؛ فمن ذلك مثلاً: نجاة نوح عليه السلام في السّفينة بالمؤمنين، ولا شكّ أنّ حمل الماء للناس من غير سفينة أعظم من السّلوك عليه في السّفينة ـ لأنّ حمل الماء للسّفينة معتاد ـ، وقد مشى كثير من الأولياء على متن الماء؛ فهذا أبلغ من ركوب السّفينة، وأبلغ أيضًا من فلق البحر لموسى عليه السلام؛ لأنّ معجزته انحسار الماء، وها هنا صار الماء جسدًا يمشون عليه كالأرض. وكرامات الأولياء معجزة للأنبياء؛ فهذه المعجزة منسوبة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وبركة اتباعه.
المسألة الرابعة: دلائل النبوة لا تنحصر بالمعجزة:
دلائل النّبوة ومعرفة صدق النبيّ ليست محصورة في المعجزات التي هي الخوارق؛ بل تكون بالمعجزات وغيرها من الطرق الكثيرة المتنوعة، خلافًا لمن خالف في ذلك من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم؛ مثل: النّظر في أحوال الأنبياء وما اشتهروا به من الصّدق والأمانة ومكارم الأخلاق ومحاسن الصفات، والنظر فيما جاؤوا به من التشريعات والأخبار وما فيها من إحكام وإتقان، ينتظم مصالح العباد في الدنيا والآخرة، مما يعلم أن مثله لا يصدر إلا من نبيّ صادق بار، وتأييد الله تعالى لهم تأييدًا مستمرًّا لا ينقطع، وجعل العاقبة لهم ولأتباعهم ولو بعد حين، إلى غير ذلك من الدلائل المعروفة.
المسألة الخامسة: معجزات الأنبياء من دلائل وجود وربوبية محدثها:
معجزات الأنبياء ـ زيادة على أنّها تأييد للرّسل ودلالة على صدقهم ـ هي من دلائل وجود وربوبية محدثها وموجدها عزّ وجل وإثبات وحدانيته، بل هي من أقوى الطرق ـ التي دلَّ عليها القرآن وأرشد إليها العباد ـ التي يستدل بها على وجود الله تعالى وتوحيده وأصحها وأوثقها، وأدلها على الصانع وصفاته وأفعاله وصدق رسله واليوم الآخر، ودلالتها ضرورية بنفسها؛ ولذا يسميها الله تعالى في غير موضع من القرآن الكريم: (آيات بيّنات)؛ فهي تدل بنفسها على ثبوت الصانع كسائر الحوادث، وهي تزيد على عموم الحوادث بأنّ دلالة الحوادث الغريبة غير المعتادة ليست كالحوادث المعتادة، فإذا اقترن خرق العادة مع دعوى الرسالة دلَّ ذلك على وجود رب قادر على كل شيء، وأنه سبحانه أراد أن يؤيد بهذه المعجزة نبيِّه، وأن يقيم بها الحجة على مخالفيه، وأمر باتباعه وطاعته، ولا وجه لوقوعها غير ذلك؛ فيكون التلازم بين وقوعها والدلالة على صدق النبي ضروريًّا.
وبتعبير آخر نقول: لمَّا ثبتت النبوة بحصول المعجزة؛ وجب تصديق النبي، وقبول سائر ما يخبر به عن الله تعالى واليوم الآخر والأمور الغيبية، والاستجابة لما يدعو إليه، وأعظم ما يدعو إليه: إثبات ربوبية الله تعالى، ووحدانيته، ولزوم طاعته وشرعه؛ فدل ذلك على أن المعجزات من أعظم دلائل ربوبية الله جلّ جلاله ووحدانيته. والحمد لله.
المسألة السادسة: معجزات الأنبياء منها الظاهر البيّن ومنها ما ليس كذلك:
دلائل النبوة والمعجزات ـ كدلائل الربوبية ـ منها الظاهر والبين لكلّ أحد (كالمعجزات الحسية)؛ لحاجة الناس إلى الإقرار بالخالق والإقرار برسله، ومنها ما يختص به من عرفه (كإعجاز القرآن مثلاً)؛ فلا يلزم ضرورة أن تكون كل آية ومعجزة صالحة لكل أحد؛ بل يستدل لكل واحد بما يناسبه من الآيات والدلائل.
المسألة السابعة: مقارنة بين معجزاته صلّى الله عليه وسلّم ومعجزات غيره من الأنبياء:
أنبياء الله عندما أرسلهم إلى أممهم وأقوامهم، أنزل معهم معجزات حتى يصدقهم الناس ويؤمنوا برسالاتهم، ويعلمون أنهم أنبياء من عند الله تعالى حقًّا. واختلفت معجزات الأنبياء، وكانت معجزة كل نبيٍّ مناسبة لمن أرسل إليهم من أقوامهم، وهي معجزاتٌ وقتية حِسّية يراها الناس فيؤمنون بها ويستجيبون لرسولهم، وهذه المعجزات تنتهي بموتهم، وسبب ذلك أن الأنبياء والمرسلين قبل نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم جاؤوا لأقوامهم خاصة، أما نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم ورسالته فهي عامة للبشرية جميعًا؛ لأنه آخر الأنبياء والرسل فلا نبي بعده، ولأجل هذا كان لا بد أن تكون معجزته معجزة عالمية دائمة ومستمرة حتى بعد وفاته صلّى الله عليه وسلّم، يصلح التحدي بها وإظهار إعجازها في كل زمان ومكان؛ فكانت تلك المعجزة هي كتاب الله تعالى، القرآن الكريم.


[1] انظر: الجواب الصحيح (5/412)، والنُّبُوَّات (220).
[2] انظر: الجواب الصحيح (5/419)، ومجموع الفتاوى (11/311). وانظر منه (11/275) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشَّيطان، والبداية والنهاية لابن كثير (6/169، 266، 289).
[3] انظر: البداية والنهاية لابن كثير (6/289).
[4] المرجع السابق.


الفرق بين دلائل النّبوة والمعجزات:
تقدم بيان أنّ المعجزات نوع من أنواع دلائل النّبوة الكثيرة، وأنّ دلائل النبوّة لا تنحصر في المعجزات؛ فبينهما إذن عموم وخصوص؛ فكل معجزة هي من دلائل النبوّة، ولا عكس.



من أبرز الثمرات المترتّبة على الإيمان بمعجزات الأنبياء : إثبات وجود الله سبحانه وتعالى، وربوبيته ووحدانيته سبحانه، وإثبات حياته وقدرته وإرادته، وعلمه بالكليات والجزئيات، وصدق رسالة الرسل الكرام، والمبدأ والمعاد، كما تقدم تفصيله.
ومن الثمرات أيضًا : بيان شدة اعتناء رب العالمين عزّ وجل بأنبيائه ورسله عليهم السلام، وتكريمه وتعظيمه لهم؛ بتأييدهم بالآيات والمعجزات الباهرات، والبراهين والبينات الواضحات.
ومن الثمرات أيضًا : بيان كمال حكمة الله تعالى، وعظيم فضله على الناس ورحمته بهم؛ بإقامة الحجة عليهم بإرسال الرسل، وتأييدهم بالمعجزات التي لا تدع لمتشكك مقالاً، ولا لراغب في الحق حيرة وضلالاً إلا أبدلتها نورًا وبرهانًا.



تقدم أنّ الحكمة من معجزات الأنبياء: الدلالةُ على صدق نبوتهم وصحة رسالتهم واتباعهم، وتمييزهم عن المتنبئين الكذّابين.



حصر المعتزلة والأشاعرة والماتريديّة ـ خلافًا لأبي منصور الماتريدي نفسه ـ دلائل النبوة في المعجزات؛ فلم يصحّحوا طريقًا يقينيًّا لإثبات صدق الأنبياء وصحة رسالتهم إلا بالمعجزات[1]! وهذا باطل عقلاً ونقلاً؛ فدلائل النّبوة ومعرفة صدق النبيّ كثيرة متنوعة، والمعجزات إحداها وطريق من طرقها الصّحيحة.
وقد عرَّفوا جميعًا المعجزة وحدُّوها بأنها: «أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي يظهر على يد نبيّ، سالِم من المعارضة»[2]. وقد تقدم تقرير أنّ معجزات الأنبياء مختصة بهم لا يشركهم فيها غيرهم، مستلزمة لصدقهم، ولا تكون إلا مع صدقهم، وأن خرقها للعادة وسلامتها من المعارضة من لوازمها وجملة صفاتها، لا أنَّ هذا وحده كاف فيها؛ فشرط الشيء ولوازمه قد يكون أعم منه؛ فلا يصح أن يجعل مسمى المعجزة وخرق العادة هو الحد المطابق لها طردًا وعكسًا.
ثم افترقوا فريقين: فأنكر المعتزلة خوارق العادات لغير الأنبياء؛ فنفوا كرامات الأولياء والسّحر؛ لئلا تشتبه عندهم بالمعجزات، فيؤدّي إلى التباس النبيّ بالوليّ بالساحر، وليسلم لهم دليل النّبوة[3]! وهذا أيضًا باطل ومجازفة، مصادم للكتاب والسُّنَّة وما تواتر نقل الناس له عبر العصور من إثبات الكرامات والسّحر.
أما الأشاعرة والماتريدية؛ فيثبتون كرامات الأولياء والسّحر، ويرون أنّها والمعجزات من جنس وحقيقة واحدة! ويفترقان في دعوى النّبوة والتحدي بالمثل[4]؛ فيجيزون أن يكون كل خرق لعادة من معجزات الأنبياء، حتى لو كان من جنس خوارق الشياطين! وهذا ظاهر البطلان، معلوم الفساد بالاضطرار من دين الرسل؛ فقولهم هذا لم يجعل «لآيات الأنبياء ومعجزاتهم خاصة تتميز بها عن السّحر والكهانة، وعما يكون لآحاد المؤمنين! ولم يجعلوا للنبيّ مزيّة على عموم المؤمنين، ولا على السحرة والكهان من جهة الآيات التي يدل الله بها العباد على صدقه! وهذا افتراء عظيم على الأنبياء وعلى آياتهم، وتسوية بين أفضل الخلق وشرار الخلق، بل تسوية بين ما يدل على النّبوة وما يدل على نقيضها؛ فإنّ ما يأتي به السحرة والكهان لا يكون إلا لكذاب فاجر عدو لله؛ فهو مناقض للنبوة! فلم يفرقوا بين ما يدل على النّبوة وعلى نقيضها، وبين ما لا يدل عليها ولا على نقيضها! فإنّ آيات الأنبياء تدل على النّبوة، وعجائب السحرة والكهان تدل على نقيض النّبوة، وأن صاحبها ليس ببر ولا عدل ولا وليّ لله، فضلاً عن أن يكون نبيًّا، بل يمتنع أن يكون السّاحر والكاهن نبيًّا؛ بل هو من أعداء الله، والأنبياء أفضل خلق الله، وإيمان المؤمنين وصلاحهم لا يناقض النّبوة ولا يستلزمها؛ فهؤلاء سووا بين الأجناس الثلاثة؛ فكانوا بمنزلة من سوّى بين عبادة الرحمن وعبادة الشيطان والأوثان!»[5].
ولئن كان جميع هؤلاء يثبتون اختصاص الأنبياء عليهم السلام بالمعجزات الدَّالة على صدقهم وصحة رسالتهم؛ فإن الشيعة الإمامية الاثني عشرية يسوون بين الأنبياء وأئمتهم في التأييد بالمعجزات؛ فيثبتون المعجزات أيضًا لأئمتهم تأييدًا من الله لهم ـ بزعمهم ـ لإثبات الإمامة وإقامة الحجة على الخلق بهؤلاء الأئمة، ويدعون أن أئمتهم يقدرون على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وجميع معجزات الأنبياء[6]! فالأئمة ـ عندهم ـ هم حجة الله على الخلق ولولاهم ما عُبِد الله[7]! ولعل هذا مرتبط أيضًا باعتقادهم في نزول الوحي على أئمتهم[8]؛ فيحتاج الأئمة مع كل هذا إلى معجزة تؤكد صدق دعواهم! فالأئمة عندهم ـ على هذا ـ أفضل وأعلم من جميع الأنبياء والمرسلين، بما فيهم أولو العزم من الرسل[9]! وقد تعدت هذه الاعتقادات الصورة النظرية فاتخذت صورة واقعية، تمثلت في نسبة الخوارق والمعجزات لغائبهم المنتظر، ثم تجاوزوا بها إلى ادعاء حصولها عند قبور أئمتهم وأضرحتهم! ففتحوا على أنفسهم وأتباعهم أبوابًا واسعة من الشرك بالله[10]؛ فالله المستعان.


[1] انظر للمعتزلة: المغني للقاضي عبد الجبار (15/147) [المؤسسة المصرية العامة للتأليف]، وشرح الأصول الخمسة له (568) [مكتبة وهبة، ط1، 1384هـ]. وللأشاعرة: البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات للباقلاني (37)، والإنصاف له (61) [مكتبة الخانجي، ط3، 1413هـ]، والإرشاد للجويني (260) [مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط2، 1413هـ]. وللماتريدية: التوحيد للماتريدي (188) [دار المشرق ببيروت]، وأصول الدِّين للبزدوي (97) [مطبعة مصطفى البابي الحلبي، ط1، 1383هـ]، والتمهيد في أصول الدين لأبي المعين النسفي (44) [دار الثقافة، القاهرة، 1407هـ].
[2] انظر للمعتزلة: المغني (15/569)، وشرح الأصول الخمسة (569). وللأشاعرة: البيان للباقلاني (35، 45)، وأصول الدِّين للبغدادي (170) [دار الكتب العلمية، ط3، 1401هـ]. وللماتريدية: التمهيد للنسفي (46).
[3] انظر: المغني لعبد الجبار (15/189، 241)، وأعلام النُّبوَّة للماوردي (62) [دار الكتاب العربي، ط1، 1407هـ].
[4] انظر للأشاعرة: البيان للباقلاني (91، 96)، والإرشاد للجويني (269). وللماتريدية: التمهيد للنسفي (46).
[5] النُّبُوَّات لابن تيميَّة (153).
[6] انظر: ينابيع المعاجز وأصول الدَّلائل لهاشم البحراني (2) [دار الكتب العلمية بقُم]، وبحار الأنوار للمجلسي (27/29) [دار إحياء التراث، ط3، 1403هـ]، وقلائد الخرائد في أصول العقائد للقزويني (72) [مطبعة الإرشاد، بغداد، 1972م]، وعيون المعجزات لحسين بن عبد الوهاب (17، 22، 25، 32، 57، 80) [مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط3، 1403هـ].
[7] انظر: أصول الكافي (1/177، 192) [دار الكتب الإسلامية، طهران، ط3، 1388هـ].
[8] انظر: أصول الكافي للكليني (1/176، 271، 240)، وبحار الأنوار للمجلسي (17/155، 26/44، 68، 73، 54/237)، وبصائر الدَّرجات الكبرى للصَّفَّار (43، 93) [المختصر، طبعة النجف، 1370هـ]، والشِّفا للقاضي عياض (2/1070). ولمزيد من التفصيل راجع: أصول مذهب الشيعة للقفاري (1/310، 2/586، 612، 623)، وعقيدة خَتم النُّبوَّة للغامدي (143) [دار طيبة، الرياض، ط1، 1405هـ].
[9] انظر: بصائر الدرجات الكبرى للصَّفَّار (5/247) [طبعة إيران، 1285هـ]، والفصول المهمة في أصول الأئمة للحرّ العاملي (151) [مكتبة بصيرتي بقم]، وعيون أخبار الرضا لابن بابويه (1/262) [طبعة إيران، 1318هـ]، والحكومة الإسلامية للخميني (52) [الحركة الإسلامية، إيران، ومطبعة الخليج، الكويت]. وانظر: أصول مذهب الشِّيعة للقفاري (2/613).
[10] انظر: أصول مذهب الشِّيعة للقفاري (2/621 ـ 629).


1 ـ «آراء ابن حجر الهيتمي الاعتقادية»، لمحمد بن عبد العزيز الشايع.
2 ـ «الجواب الصحيح» (ج1، 5، 6)، لابن تيمية.
3 ـ «درء تعارض العقل والنقل» (ج8، 9)، لابن تيمية.
4 ـ «شرح العقيدة الأصفهانية»، لابن تيمية.
5 ـ «شرح العقيدة الطحاوية»، لابن أبي العزّ الحنفيّ.
6 ـ «الصفدية» (ج1)، لابن تيمية.
7 ـ «الفصول في سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم»، لابن كثير.
8 ـ «مجموع الفتاوى» (ج11، 15)، لابن تيمية.
9 ـ «موقف ابن تيمية من الأشاعرة» (ج3)، لعبد الرحمن المحمود.
10 ـ «النّبوات»، لابن تيمية.