المعنى الشرعي مرتبط بالمعنى اللغوي من ناحية أن المعية مطلق المصاحبة، إلا أن المعنى الشرعي يفيد أن معية الله عزّ وجل لخلقه ليس فيها امتزاج ولا اختلاط، وإنما هي عامة لكل الخلق، لا يخفى عليه من أحوالهم شيءٌ، وتدبيره وتصرفه بهم لا يحول دونه شيء، ولا يعجزه شيء سبحانه وتعالى، وقد تكون خاصة بنصره أولياءَه وحفظهم وتأييدهم.
إثبات صفة المعية لله تعالى وأنها معية عامة لعموم خلقه، لا يخفى عليه من أحوالهم شيءٌ، ولا يغيب عن علمه وتصرفه قليل ولا كثير من شؤونهم، وإثبات المعية الخاصة لمن شاء من خلقه بالتأييد والنصرة والإعانة والحفظ والرعاية منه سبحانه وتعالى[1].
[1] انظر: مجموع الفتاوى (3/296)، ومختصر الصواعق المرسلة (3/1246) وما بعدها.
صفة المعية ثابتة لله عزّ وجل كما أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله صلّى الله عليه وسلّم وأثبتها له أهل العلم تبعًا لذلك، والمفهوم منها لغة وشرعًا هو مطلق المصاحبة والمقارنة، ثم تتحدد حسب متعلقاتها الواردة في النص الشرعي، فقد تكون معية علم وإحاطة، وقد تكون معية تأييد وتوفيق، وقد تكون معية نصرة وإعزاز، وقد تكون معية حفظ ورعاية، فتتحدد معانيها حسب متعلقاتها، ولا تعني بحال أن معية الله معية اختلاط وامتزاج بخلقه، فإن ذلك معنى مرفوض ومردود شرعًا وعقلاً؛ إذ إن علو الله على خلقه علو ذاتي فهو على عرشه بائن من خلقه سبحانه، ونصوص المعية تثبت معيته سبحانه لخلقه فليس بينهما تعارض.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وذلك أن الله معنا حقيقة وهو فوق العرش حقيقة»[1]، فيثبت له سبحانه العلو المطلق والعلو الذاتي، وتثبت له المعية العامة والمعية الخاصة على ما يأتي بيانه في الأقسام، وليس في ذلك تعارض؛ إذ إن المعية لا يلزم منها الاختلاط ولا الامتزاج لغة ولا شرعًا، فتقول: سرت والقمر، وسرت والنجم، ولا يعني ذلك أن القمر بجانبك وملاصق لك، وإنما هو في مكانه وأنت في مكانك، والمفهوم من ذلك أنك سرت مصاحبًا له ومصاحبًا لك.
[1] انظر: مجموع الفتاوى (5/103).
وردت صفة المعية في القرآن الكريم على معنيين:
المعنى الأول: المعية العامة.
وقد وردت في مواضع من القرآن الكريم، منها:
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ *} [الحديد] .
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *} [المجادلة] .
وقوله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا *} [النساء] .
وقوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ *} [يونس]
وقوله تعالى: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ *} [الأعراف]
المعنى الثاني: المعية الخاصة.
وقد وردت في القرآن الكريم في مواطن كثيرة؛ منها:
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ *} [النحل] .
وقوله تعالى: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]
وقوله تعالى: {قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى *} [طه] .
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله عزّ وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني»[1].
[1] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7405)، ومسلم (كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، رقم 2675).
قال أبو عمر الطلمنكي رحمه الله: «وأجمع المسلمون من أهل السُّنَّة على أن معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] ونحو ذلك من القرآن: أن ذلك علمه، وأن الله عزّ وجل فوق السماوات بذاته مستوٍ على عرشه كيف شاء»[1].
وقال ابن أبي زيد القيرواني المالكي: «وأنه فوق عرشه المجيد بذاته، وأنه في كل مكان بعلمه»[2]
قال الإمام أبو بكر بن الحسين البيهقي في كتاب «الاعتقاد»: «وفي كثير من الآيات دلالة على إبطال قول من زعم من الجهمية أن الله بذاته في كل مكان، وقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] إنما أراد به بعلمه لا بذاته»[3].
قال ابن رجب بعد ذكره لآيات المعية: «ولم يكن أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم يفهمون من هذه النصوص غير المعنى الصحيح المراد بها، يستفيدون بذلك معرفة عظمة الله وجلاله واطلاعه على عباده وإحاطته بهم وقربه من عابديه وإجابته لدعائهم، فيزدادون به خشية لله وتعظيمًا وإجلالاً ومهابة ومراقبة واستحياء ويعبدونه كأنهم يرونه، ثم حدث بعدهم من قلَّ ورعه وانتكس فهمه وقصده، وضعفت عظمة الله وهيبته في صدره، وأراد أن يرى الناس امتيازه عليهم بدقة الفهم وقوة النظر، فزعم أن هذه النصوص تدل على أن الله بذاته في كل مكان كما حكى ذلك طوائف من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم، تعالى عما يقولون علوًّا كبيرًا.
وهذا شيء ما خطر لمن كان قبلهم من الصحابة رضي الله عنهم، وهؤلاء ممن يتبع ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وقد حذر النبي صلّى الله عليه وسلّم منهم في حديث عائشة المتفق عليه[4].
وتعلقوا أيضًا بما فهموه بفهمهم القاصر مع قصدهم الفاسد بآيات في كتاب الله تعالى مثل قوله عزّ وجل: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] ، وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] . فقال من قال من علماء السلف حينئذ: «إنما أراد أنه معهم بعلمه»، وقصدوا بذلك إبطال ما قال أولئك مما لم يكن أحد قبلهم قاله ولا فهمه من القرآن ... وحكى ابن عبد البر وغيره إجماع العلماء من الصحابة والتابعين في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}: أن المراد علمه، وكل هذا قصدوا به رد قول من قال إنه تعالى بذاته في كل مكان»[5].
[1] انظر: بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية (2/38).
[2] رسالة ابن أبي زيد القيرواني [مطبعة مصطفى الحلبي، ط2، 1368هـ].
[3] الاعتقاد للبيهقي (114، 115)، [دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1401، ط1].
[4] أخرجه البخاري (كتاب تفسير القرآن، رقم 4547)، ومسلم (كتاب العلم، رقم 2665).
[5] فتح الباري لابن رجب (2/331).
معية الله تعالى لخلقه قسمان:
1 ـ معية عامة : وهي بمعنى العلم والإحاطة، وهذه للخلق كافة، ومنها قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] ، وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *} [المجادلة] .
2 ـ معية خاصة : ومعناها النصرة والتأييد والحفظ، وهذه لأوليائه أهل طاعته، ومنها قوله عزّ وجل: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ *} [النحل] [1]. وقال ابن عثيمين: «المعية درجات: عامة مطلقة، وخاصة مقيدة بوصف، وخاصة مقيدة بشخص. فأخص أنواع المعية ما قيد بشخص، ثم ما قيد بوصف، ثم ما كان عامًّا. فالمعية العامة تستلزم الإحاطة بالخلق علمًا وقدرة وسمعًا وبصرًا وسلطانًا، وغير ذلك من معاني ربوبيته، والمعية الخاصة بنوعيها تستلزم مع ذلك النصر والتأييد»[2].
[1] انظر: مختصر الصواعق (3/1246) وما بعدها.
[2] انظر: شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين (1/401) [دار ابن الجوزي، ط2، 1415هـ].
المسألة الأولى: لوازم المعية العامة والخاصة:
إن لازم المعية هو العلم والإحاطة والسمع والبصر والتدبير بالنسبة للمعية العامة، أما المعية الخاصة فلازمها مع ما سبق النصر والحفظ والتأييد والإعانة، والنصوص الشرعية السابقة تدل على ذلك، وكلام أهل العلم في هذا كثير مدوّن في مظانه، وأهل السُّنَّة مجمعون على أن معية الله لخلقه لا تعني بحال اختلاطه سبحانه وتعالى بهم ولا ممازجته لهم، بل هو سبحانه فوق عرشه مستوٍ عليه بائن من خلقه، وعلمه محيط بهم، وأكدوا أن اللغة العربية لا يلزم منها إثبات المعية في أمر الاختلاط والامتزاج وإنما مطلق المصاحبة، كما سبق ذكره في المعنى اللغوي.
المسألة الثانية: تفسير المعية بالعلم ليس تأويلاً:
تفسير أهل السُّنَّة للمعية بالعلم أو غيره من المعاني التي يدل عليها السياق ليس من باب التأويل؛ إذ التأويل صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى مخالف للظاهر؛ وهنا في المعية ليس فيه صرف للفظ عن ظاهره، وإنما هو من باب تفسير اللفظ ببعض معانيه وما يدل عليه السياق؛ قال قوّام السُّنَّة الأصبهاني رحمه الله «فإن قيل: قد تأولتم قوله عزّ وجل: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] ، قلنا: ما تأولنا ذلك، وإنما الآية دلت على أن المراد بذلك العلم؛ لأنه قال في آخرها: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *}»[1].
[1] انظر: الحجة في بيان المحجة (2/291).
1 ـ الإيمان بإحاطة الله عزّ وجل بكل شيء، وأنه مع علوه فهو مع خلقه، لا يغيب عنه شيء من أحوالهم أبدًا.
2 ـ أن هذه المعية إذا استحضرها العبد في كل أحواله؛ فإنه يستحيي من الله عزّ وجل أن يراه حيث نهاه، أو أن يفتقده حيث أمره، فتكون عونًا له على اجتناب ما حرم الله، والمسارعة إلى فعل ما أمر به من الطاعات على وجه الكمال ظاهرًا وباطنًا، ولا سيما إذا دخل في الصلاة التي هي أعظم صلة ومناجاة بين العبد وربه، فيخشع قلبه، ويستحضر عظمة الله وجلاله، فتقل حركاته، ولا يسيء الأدب مع ربه بالبصق أمامه أو عن يمينه[1].
[1] انظر: شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين (1/419، 420).
المخالفون في المعية ثلاث طوائف:
أولاً: الجهمية ومن قال بقولهم في نفي الصفات كالمعتزلة وغيرهم في نفي صفة العلم عن الله عزّ وجل ونفي سمعه وبصره سبحانه[1]، والذين ينكرون علوَّ الله عزّ وجل على خلقه واستواءه على عرشه فينكرون إحاطته بخلقه علمًا وبصرًا وسمعًا وقدرة، فهؤلاء كلهم ينكرون معية الله لخلقه على المفهوم الذي ورد في النصوص[2].
ثانيًا: أهل الحلول، فهم يقولون: إنه في كل مكان ولا يخلو منه مكان،، وعزاه الأشعري إلى طائفة من المعتزلة، وعزاه السجزي وابن عبد البر والعمراني إلى بشر المريسي، وذكر هذا ابن عبد البر بسنده عن وكيع قال: «كفر بشر المريسي في صفته هذه، قال: هو في كل شيء، قيل له: وفي قلنسوتك هذه؟ قال: نعم. قيل له: وفي حمارك؟ قال: نعم». ونسب هذا القول إلى النجارية الشهرستاني وعزاه ابن تيمية إليهم وإلى صوفية وعباد الجهمية. وهو قول ينسجم مع الدعوى الكفرية، وهي دعوى الحلول وكذلك دعوى وحدة الوجود[3].
ثالثًا: قول من يقول: إن الله بذاته في كل مكان وهو مستوٍ على عرشه، عزاه الأشعري إلى زهير الأثري وأبي معاذ التومني، وعزاه ابن تيمية إلى أبي طالب المكي وأتباعه وأبي الحكم بن برجان من السالمية[4].
[1] انظر: الملل والنحل للشهرستاني (1/85) [دار المعرفة، 1404هـ].
[2] مقالات الإسلاميين للأشعري (1/235) [دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط3].
[3] مقالات الإسلاميين للأشعري (1/286، 351)، ورسالة السجزي إلى أهل زبيد [الجامعة الإسلامية، ط2]، والتمهيد لابن عبد البر (7/1439)، والانتصار في الرد على المعتزلة القدرية للعمراني (2/609) [أضواء السلف، 1419هـ]، والملل والنحل للشهرستاني (1/77)، ومجموع الفتاوى (2/298).
[4] مقالات الإسلاميين للأشعري (1/351)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (2/299).
شبهة الذين يقولون: إن الله في كل مكان أو إن الله بذاته في كل مكان وهو مستو على عرشه: ظنهم أن قول الله عزّ وجل: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] ، وقوله {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] أن المعية لا تعني إلا المخالطة أو المصاحبة في المكان!!
والرد عليهم من وجوه:
أولاً: أن ظاهرها ليس كما ذكرتم؛ إذ لو كان الظاهر كما ذكرتم؛ لكان في الآية تناقض أن يكون مستويًا على العرش، وهو مع كل إنسان في أي مكان! والتناقض في كلام الله تعالى مستحيل.
ثانيًا: قولكم: إن المعية لا تعقل إلا مع المخالطة أو المصاحبة في المكان! هذا ممنوع؛ فالمعية في اللغة العربية اسم لمطلق المصاحبة، وهي أوسع مدلولاً مما زعمتم؛ فقد تقتضي الاختلاط، وقد تقتضي المصاحبة في المكان، وقد تقتضي مطلق المصاحبة وإن اختلف المكان؛ فهذه ثلاثة أشياء:
1 ـ مثال المعية التي تقتضي المخالطة أن يقال: اسقوني لبنًا مع ماء؛ أي: مخلوطًا بماء.
2 ـ ومثال المعية التي تقتضي المصاحبة في المكان قولك: وجدت فلانًا مع فلان يمشيان جميعًا وينزلان جميعًا.
3 ـ ومثال المعية التي لا تقتضي الاختلاط ولا المشاركة في المكان: أن يقال: فلان مع جنوده. وإن كان في غرفة القيادة، لكن يوجههم. فهذا ليس فيه اختلاط ولا مشاركة في مكان. ويقال: زوجة فلان معه. وإن كانت هي في المشرق وهو في المغرب. فالمعية إذًا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وكما هو ظاهر من شواهد اللغة: مدلولها مطلق المصاحبة، ثم هي بحسب ما تضاف إليه، فإذا قيل: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ *} [النحل] ، فلا يقتضي ذلك لا اختلاطًا ولا مشاركة في المكان، بل هي معية لائقة بالله عزّ وجل، ومقتضاها النصر والتأييد.
ثالثًا: نقول: وصفكم الله عزّ وجل بهذا من أبطل الباطل وأشد التنقص لله عزّ وجل، والله عزّ وجل ذكره عن نفسه متمدحًا؛ أنه مع علوه على عرشه؛ فهو مع الخلق، وإن كانوا أسفل منه، فإذا جعلتم الله عزّ وجل في الأرض؛ فهذا نقص، إذ جعلتم الله عزّ وجل بذاته معكم في كل مكان، وأنتم تدخلون الكنيف، ويكون الإنسان في بعض أحواله في مكان يستنكف أن يكون هو فيه مع غيره أو غيره معه فيه، فكيف يقال ذلك عن الله . هذا أعظم التنقص، حاشا ربنا من ذلك!
رابعًا: يلزم على قولكم هذا أحد أمرين لا ثالث لهما، وكلاهما ممتنع: إما أن يكون الله متجزئًا، كل جزء منه في مكان. وإما أن يكون متعددًا؛ يعني: كل إله في جهة ضرورة تعدد الأمكنة.
خامسًا: أن نقول: قولكم هذا أيضًا يستلزم أن يكون الله حالًّا في الخلق؛ فكل مكان في الخلق؛ فالله تعالى فيه، فصار هذا القول متفقًا مع قول الحلولية وأهل وحدة الوجود[1].
[1] انظر: شرح الواسطية لابن عثيمين (1/407 ـ 409).
1 ـ «الآثار المروية في صفة المعية»، لمحمد التميمي.
2 ـ «إثبات علو الله ومباينته لخلقه والرد على من زعم أن معية الله لخلقه ذاتية»، لحمود التويجري.
3 ـ «رسالة المعية»، لابن باز.
4 ـ «مجموع الفتاوى» (ج3، 5)، لابن تيمية.
5 ـ «بيان تلبيس الجهمية» (ج1)، لابن تيمية.
6 ـ «مدارج السالكين» (ج2)، لابن القيم.
7 ـ «الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد»، للبيهقي.
8 ـ «الحجة في بيان المحجة»، للأصبهاني.
9 ـ «شرح العقيدة الواسطية» (ج1)، لابن عثيمين.
10 ـ «شرح العقيدة الطحاوية»، لابن أبي العز.