المقام : مكان القيام، والإقامة بالمكان. قال الجوهري: «المُقام والمَقام فقد يكون كل واحد منهما بمعنى الإقامة وقد يكون بمعنى موضع القيام؛ لأنك إذا جعلته من قام يقوم فمفتوح، وإن جعلته من أقام يقيم فمضموم، وقوله تعالى: {لاَ مُقَامَ لَكُمْ}؛ أي: لا موضع لكم. وقرئ: {لاَ مُقَامَ لَكُمْ} [الأحزاب: 13] بالضم؛ أي: لا إقامة لكم»[1].
المحمود : اسم المفعول من حمد، قال ابن فارس: «الحاء والميم والدال كلمةٌ واحدة وأصلٌ واحد يدلّ على خلاف الذمّ. يقال: حَمِدْتُ فلانًا أحْمَدُه. ورجل محمود ومحمّد؛ إذا كثُرت خصاله المحمودة غيرُ المذمومة»[2].
[1] الصحاح (5/2017) [دار العلم للملايين].
[2] مقاييس اللغة (281) [دار الفكر، ط2، 1418هـ].
المقام الذي يقومه محمد صلّى الله عليه وسلّم يوم القيامة للشفاعة للناس؛ ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم[1].
[1] تفسير الطبري (9/177) [دار ابن حزم، ط1، 1423هـ]، وإثبات الشفاعة (20) [أضواء السلف، ط1، 1420هـ]، وتفسير القرطبي (13/147) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1427هـ]، وتفسير ابن كثير (9/55) [دار عالم الكتب، ط1، 1425هـ]، ومعجم ألفاظ العقيدة (383) [مكتبة العبيكان، ط1، 1417هـ].
يجب الإيمان بالمقام المحمود، وقد وعد الله به نبيِّنا محمدًا صلّى الله عليه وسلّم، فيستحب طلبه من الله له بعد الأذان، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من قال حين يسمع النداء: اللَّهُمَّ ربَّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مَقامًا محمودًا الذي وعدته؛ حلَّت له شفاعتي يوم القيامة»[1].
[1] أخرجه البخاري (كتاب الأذان، رقم 614).
من الأدلة على المقام المحمود للنبي صلّى الله عليه وسلّم قول الله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا *} [الإسراء] ، وسئل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن هذه الآية فقال: «هي الشفاعة»[1].
ومن الأدلة قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينا هم كذلك استغاثوا بآدم، ثم بموسى، ثم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، فيشفع ليقضي بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب، فيومئذ يبعثه الله مقامًا محمودًا يحمده أهل الجمع كلهم» [2]، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «يحبس المؤمنون يوم القيامة حتى يهموا بذلك، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من مكاننا، فيأتون آدم... فيأتوني فأستأذن على ربي في داره، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجدًا فيدعني ما شاء الله أن يدعني، فيقول: ارفع محمدُ، وقل يُسمع، واشفع تُشفّع، وسل تُعط، قال: ثم تلا هذه الآية: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا *} [الإسراء] ، قال: وهذا المقام المحمود الذي وعده نبيكم صلّى الله عليه وسلّم»[3].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: «إن الناس يصيرون يوم القيامة جثًا، كل أمة تتبع نبيّها، يقولون: يا فلان اشفع يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود»[4]، وثبت رفعه عن ابن عمر عند البخاري[5]، وأدلة الشفاعة العظمى التي هي المقام المحمود كثيرة جدًّا[6].
[1] أخرجه الترمذي (أبواب تفسير القرآن، رقم 3137) وقال: «حديث حسن»، وأحمد (15/458) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصحّحه الألباني لشواهده في السلسلة الصحيحة (رقم 2369).
[2] أخرجه البخاري (كتاب الزكاة، رقم 1475).
[3] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7440).
[4] أخرجه البخاري (كتاب التفسير، رقم 4718).
[5] أخرجه البخاري بمعناه (كتاب الزكاة، رقم 1475)، وقد تقدم قريبًا.
[6] من مظانها: التذكرة للقرطبي (2/597) وما بعدها، وشرح النووي على مسلم (3/51) وما بعدها [دار المعرفة، ط12، 1427هـ]، وفتح الباري لابن حجر (11/519) وما بعدها [دار السلام، ط1، 1421هـ]، وشرح العقيدة الطحاوية (282) وما بعدها [دار عالم الكتب، ط3]، والشفاعة للوادعي (25) [دار الآثار، ط3، 1420هـ].
اختلفت أقوال أهل العلم في المقام المحمود، فقال الجمهور: هو الشفاعة العظمى، ونقل ابن القيم عن جمع من أهل العلم أنه: إقعاد الله عزّ وجل نبيَّه محمدًا صلّى الله عليه وسلّم على العرش[1]، ومن العلماء من قال: لا منافاة بين القولين، فيمكن الجمع بينهما، بأن كليهما من ذلك[2].
[1] بدائع الفوائد (4/1379، 1380) [دار عالم الفوائد، ط1، 1425هـ]، ونونية ابن القيم (84) [مطبعة التقدم العلمية، مصر، عام 1344هـ].
[2] فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم (2/136) فتوى (451) [مطبعة الحكومة، مكة المكرمة، 1399هـ].
ذكر بعض العلماء في معنى المقام المحمود: أنه إقعاد الله عزّ وجل نبيَّه محمدًا على عرشه، واستدلوا على ذلك بأثر عن مجاهد، قال فيه الطبري: «غير مدفوع صحته لا من جهة خبر ولا نظر، وذلك لأنَّه لا خبر عن رسول الله، ولا عن أحد من أصحابه، ولا عن التَّابعين بإحالة ذلك»[1]، وقال ابن تيمية: «حديث قعود الرسول صلّى الله عليه وسلّم على العرش، رواه بعض الناس من طرق كثيرة مرفوعة، وهي كلها موضوعة، وإنما الثابت أنه عن مجاهد وغيره من السلف»[2]، وضعّف كثير من العلماء ما روي عن مجاهد في ذلك[3]، قال الألباني بعد أن بيّن ضعف قول مجاهد: «إن ذلك لم يثبت عن مجاهد، بل صح عنه ما يخالفه، إن قول مجاهد هذا ـ وإن صح عنه ـ لا يجوز أن يتخذ دينًا وعقيدة ما دام أنه ليس له شاهد من الكتاب والسُّنَّة»[4].
[1] تفسير الطبري (9/182). وانظر: بدائع الفوائد لابن القيم (4/1379، 1380) والنونية له (84)، فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم (2/136).
[2] درء التعارض (5/237) [جامعة الإمام، ط2].
[3] انظر: ميزان الاعتدال (3/439)، وسلسلة الأحاديث الضعيفة برقم (870، 871) [مكتبة المعارف].
[4] مختصر العلو (19، 20) [المكتب الإسلامي، ط1، 1401هـ].
الفرق بين المقام المحمود ولواء الحمد:
والمقام المحمود غير لواء الحمد[1] الذي يعقد للنبي صلّى الله عليه وسلّم يوم القيامة، كما ورد في بعض ألفاظ الحديث: «بيدي لواء الحمد ، وفي بعضها: أحمل لواء الحمد، أعطي لواء الحمد» ، ويحشر تحته آدم عليه السلام ومن دونه، ولواء الحمد والمقام المحمود كلاهما ذكرا في حديث: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي... فيقال لي: ارفع رأسك، سل تعط، واشفع تشفع، وقل يسمع لقولك، وهو المقام المحمود الذي قال الله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا *} [الإسراء] »[2].
[1] الفرقان (6) [مكتبة المعارف، ط 1402هـ].
[2] أخرجه الترمذي في سننه (أبواب التفسير، رقم 3148) وحسنه، وابن ماجه (كتاب الزهد، رقم 4308)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (رقم 3543) [مكتبة المعارف، ط5].
إظهار رحمة الله بعباده؛ إذ يأذن لنبيِّه محمد ليشفع في الخلائق؛ ليخلصهم من كربات الموقف وأهواله، وإظهار فضل نبيّه صلّى الله عليه وسلّم على الأولين والآخرين، وإظهار منزلته العظيمة، ودرجته العالية على رؤوس الخلائق يوم القيامة[1]، وسبب اختصاصه صلّى الله عليه وسلّم بالمقام المحمود، وهو عموم رسالته، وكونه سببًا في امتلاء الأرض من الهدى والإيمان والعلم والعمل الصالح[2].
[1] انظر: القيامة الكبرى (237).
[2] جلاء الأفهام (179).
1 ـ «إثبات الشفاعة»، للذهبي.
2 ـ «التذكرة» (ج2)، للقرطبي.
3 ـ «تفسير ابن كثير» (ج9).
4 ـ «تفسير الطبري» (ج9).
5 ـ «تفسير القرطبي» (ج13).
6 ـ «جلاء الأفهام»، لابن القيم.
7 ـ «شرح العقيدة الطحاوية»، لابن أبي العز.
8 ـ «الشفاعة»، لمقبل الوادعي.
9 ـ «فتح الباري» (ج11)، لابن حجر.
10 ـ «فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم» (ج2).
11 ـ «القيامة الكبرى»، للأشقر.
12 ـ «شرح صحيح مسلم» (ج3)، للنووي.