المُقدِّم : بوزن (مُفَعِّل)، اسم فاعل للفعل (قدَّم)، يقال: قدَّم يُقَدِّم تقديمًا فهو مُقَدِّم، وأَقْدَمه وقدَّمه بمعنى واحد، قال ابن فارس: «القاف والدال والميم أصل صحيح يدل على سبق ورعف»[1]؛ والرعف معناه: التقدم[2].
ومصدر الفعل (قدَّم) هو: التقدُّم، والتقدم على أربعة أوجه:
الأول: في المكان، وهو بحسب الإضافة، يقال: فلان متقدم على فلان باعتبار المكان.
الثاني: في الزمان، نحو: عهد النبوة متقدم على الخلافة الراشدة.
الثالث: في المنزلة، نحو: فلان متقدم على فلان؛ أي: أشرف منه.
الرابع: في الترتيب الصناعي، تعلم الهجاء مقدم على تعلم الخط.
والمقدِّم نقيض المؤخّر، وقدَّام نقيض وراء[3].
المؤخِّر : ضد المقدِّم، وهو اسم فاعل للفعل أَخَّرَ يُؤَخِّر تأخيرًا، والتأخير ضد التقديم، وهو جعل الشيء بعد موضعه. قال ابن فارس: «الهمزة والخاء والراء أصل واحد إليه ترجع فروعه، وهو خلاف التقدم»[4]. يقال: أَخَّرْته فتأخَّر واستأخر، قال تعالى: {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [إبراهيم: 44] . ومُؤَخَّر الشيء ضد مقدَّمه، والمطروح من شيء أو شخص[5].
[1] مقاييس اللغة (2/389) [دار الكتب العلمية، ط1420هـ].
[2] انظر: مقاييس اللغة (1/470).
[3] انظر: تهذيب اللغة (9/45، 46، 49) [الدار المصرية]، مقاييس اللغة (878) [دار الفكر، ط2، 1418هـ]، الصحاح (5/2006 ـ 2008) [دار العلم للملايين، ط4، 1990م]، مفردات ألفاظ القرآن (653، 660، 661) [دار القلم، ط2، 1418]، المعجم الوسيط (2/726، 727) [دار الدعوة، ط2، 1972].
[4] مقاييس اللغة (1/42).
[5] انظر: تهذيب اللغة (7/556، 557) [الدار المصرية]، ومقاييس اللغة (63) [دار الفكر، ط2، 1418هـ]، والصحاح (2/576، 577) [دار العلم للملايين، ط4]، ومفردات ألفاظ القرآن (69) [دار القلم، ط2، 1418]، والمعجم الوسيط (1/8، 9) [دار الدعوة، ط2، 1972].
اسما الجلال (المقدِّم والمؤخِّر) من الأسماء الثابتة بصريح السُّنَّة النبوية. وهما من أسماء الجلال المزدوجة المقترنة التي لا يطلق واحد منها على الله عزّ وجل إلا مقرونًا بالآخر؛ لأن الكمال في اجتماعهما[1].
[1] انظر: شأن الدعاء (86) [دار الثقافة، ط3، 1412هـ]، والأسنى في شرح أسماء الله الحسنى (1/373) [دار الصحابة، ط1، 1416هـ]، وتفسير أسماء الله الحسنى للسعدي (238)، وفقه الأسماء الحسنى (280) [دار التوحيد، ط1، 1429].
يدل الاسمان (المقدِّم المؤخِّر) على أنه سبحانه هو المنزل الأشياء منازلها، الذي يقدّم ما يجب تقديمه حكمًا وفعلاً، على ما أحب وكيف أحب، ويؤخِّر ما يجب تأخيره حكمًا وفعلاً على ما أحب وكيف أحب، بحكمته عزّ وجل، وما قدّمه فهو مقدّم، وما أخرّه فهو مؤخرّ، تعالى الله علوًّا كبيرًا[1].
كما أن هذين الاسمين هما من الأسماء المتقابلة التي لا ينبغي أن يثنى على الله بها إلا مقرونة مع الأخرى؛ لأن المدح المحض والكمال المطلق في اجتماع الاسمين، ففي اقترانهما واجتماعهما دلالة على كمال ربوبية الله تعالى وانفراده سبحانه بالملك التام والتصرف الكامل والتدبير الشامل[2].
[1] انظر: تفسير أسماء الله الحسنى للزجاج (59) [دار الثقافة العربية، ط1، 1974م]، وشأن الدعاء (86)، والمنهاج في شعب الإيمان (1/208) [دار الفكر، ط1، 1399]، الأسماء والصفات (1/210) [مكتبة السوادي، ط1، 1413هـ]، والنهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى (3/55، 56) [مكتبة الذهبي، ط2، 1417هـ].
[2] انظر: الحق الواضح المبين للسعدي (258 و264)، وتوضيح الكافية الشافية له (389)، كلاهما من مطبوعات [مركز صالح بن صالح الثقافي بعنيزة، ط2، 1412هـ].
ورد هذان الاسمان في السُّنَّة النبوية في أحاديث عدة، منها:
حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يدعو بهذا الدعاء: «اللَّهُمَّ اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني، اللَّهُمَّ اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي، اللَّهُمَّ اغفر لي ما قدَّمت وما أخَّرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر وأنت على كل شيء قدير»[1].
وحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا قام من الليل يتهجد قال: «اللَّهُمَّ لك الحمد أنت قيّم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد لك ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد نور السماوات والأرض، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلّى الله عليه وسلّم حق، والساعة حق، اللَّهُمَّ لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر، لا إله إلا أنت»[2].
[1] أخرجه البخاري (كتاب الدعوات، رقم 6398)، ومسلم (كتاب الذِّكْر والدُّعاء والتوبة والاستغفار، رقم 2719)، واللفظ له.
[2] أخرجه البخاري (كتاب التهجد، رقم 1120) واللفظ له، ومسلم (كتاب صلاة المسافرين وقصرها، رقم 769).
قال ابن القيم: «أما تضمنها لمعاني أسمائه الحسنى، فإن الربَّ هو القادر الخالق البارئ المعطي المانع الضار النافع المقدم المؤخر، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته، التي له منها ما يستحقه من الأسماء الحسنى»[1].
وقال أيضًا:
«وهو المقدم والمؤخر ذانك الصْـ
ـصِفَتان للأفعال تابعتان
وهما صفات الذات أيضًا إذ هما
بالذات لا بالغير قائمتان»[2]
وذكر الاسمين في الأسماء الحسنى ابن عثيمين في القواعد المثلى[3].
[1] بدائع الفوائد (2/473).
[2] الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية (3/738) [دار عالم الفوائد، ط1، 1428هـ].
[3] انظر: مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (3/278)
المسألة الأولى: اقتران اسمي الجلال (المقدّم والمؤخّر):
المقدم والمؤخر من أسماء الله المزدوجة المقترنة، التي تجرى مجرى الاسم الواحد ولا يفصل بينهما، ولا تطلق على الله بمفردها، بل لا بد أن تكون مقرونة بمقابلها؛ لأن الكمال المطلق في اقتران كل منهما بما يقابله[1].
والضابط في ذلك: ما كان دالًّا على المدح والكمال المطلق فهو يمكن أن يستقل وحده دون اقتران، وأما ما كان دالًّا على غير المدح المحض، فهذا لا بد أن يكون مقرونًا بما يقابله؛ وذلك لأن في اجتماع الاسمين والوصفين المتقابلين دلالة على كمال ربوبية الله تعالى وشموليتها[2].
المسألة الثانية: التقديم والتأخير من الله عزّ وجل قد يكون كونيًّا، وقد يكون شرعيًّا، فهو من هذا الوجه على قسمين:
أ ـ التقديم والتأخير الكوني : وهو تقدير الله في خلقه وتكوينه وفعله، فقد قدَّم الله بعض المخلوقات على بعض، وأخر بعضها عن بعض في الخلق والتقدير، وقدم الله الأسباب على مسبباتها، والشروط على مشروطاتها، وأنواع التقديم والتأخير في الخلق والتقدير بحر لا ساحل له.
ب ـ التقديم والتأخير الشرعي : وهو متعلق برضا الله ومحبته سبحانه لمكان أو شخص أو قول أو فعل، فقد فضل الله المساجد الثلاثة على غيرها من المساجد، وفضل المساجد على غيرها من الأماكن والبقاع، وفضل الصف الأول من المساجد للرجال والصف الأخير للنساء على غيرها من الصفوف، وفضل الأركان والواجبات على المستحبات والمندوبات، وفضل الأنبياء على الخلق ثم فضل بعضهم على بعض، وفضل العلماء والصالحين على غيرهم، وقدمهم في العلم والإيمان والعمل والأخلاق وسائر الأوصاف، وأخَّر من أخر منهم بشيء من ذلك، وكل هذا تبع لحكمته سبحانه، يقدم من يشاء من خلقه إلى رحمته بتوفيقه وفضله، ويؤخِّر من يشاء عن ذلك بعدله[3].
المسألة الثالثة: علاقة اسمي الجلال المقدّم والمؤخّر بمغفرة الذنوب:
لقد ورد ذكر الاسمين الكريمين: المقدم والمؤخر في الأحاديث في سياق طلب المغفرة للذنوب كلها، ماضيها ومستقبلها، وسرها وجهرها وخطئها وعمدها، وفي ذلك إشعار قوي ودليل واضح على أن الذنوب والمعاصي والسيئات من أسباب التخلف والتأخر؛ بل من أسباب الهلاك والدمار والعذاب في الدنيا والآخرة، وأن توبة العبد إلى ربه، وأوبته إليه سبحانه، وطلبه المغفرة منه ، وعفو الله له، وستره عليه من أسباب التقدم والارتقاء والسعادة والهناء والرخاء، والحياة الطيبة الآمنة المطمئنة في الدنيا والآخرة[4].
[1] انظر: شأن الدعاء (86)، والأسنى (1/373)، وتفسير أسماء الله الحسنى للسعدي (238)، وفقه الأسماء الحسنى (280) [دار التوحيد، ط1، 1429].
[2] انظر: بدائع الفوائد (1/294، 295) [دار عالم الفوائد، ط1، 1425هـ]، والحق الواضح المبين للسعدي (264)، وتوضيح الكافية الشافية له (389)، ومعتقد أهل السُّنَّة والجماعة في أسماء الله الحسنى للتميمي (264 و411 ـ 416) [دار إيلاف، ط1، 1417هـ].
[3] انظر: الحق الواضح المبين للسعدي (264)، وفقه الأسماء الحسنى للبدر (280) [مطابع الحميضي، ط1، 1429هـ]، وأسماء الله الحسنى لماهر مقدم (218، 219) [مكتبة الإمام الذهبي، الكويت، ط4، 1431هـ].
[4] انظر: تفسير أسماء الله الحسنى للسعدي (238)، وفقه الأسماء الحسنى (280).
1 ـ إن الله عزّ وجل حكيم في أفعاله، وهو المقدِّم والمؤخِّر، فما قدَّمه كان الكمال في تقديمه، وما أخَّره كان الكمال في تأخيره[1].
فعلى العبد أن يعتقد أن الله عزّ وجل هو وحده المقدم والمؤخر بمشيئته وإرادته التابعة لعلمه وحكمته، لا شريك له في ذلك، وهذا يثمر كمال الذل بين يديه سبحانه وتعالى، وشدة الطمع فيما عنده، والخوف منه سبحانه، وعدم اليأس من روحه، وعدم الأمن من مكره، وحسن الالتجاء إليه رغبًا ورهبًا، وخوفًا وطمعًا.
كما يثمر الإيمان بهذا الاسم الحرص على تقديم ما قدمه الله عزّ وجل وتأخير ما أخَّره، في المنزلة والمحبة والبغض، وذلك أوثق عرى الإيمان[2].
2 ـ إن إيمان العبد بأن الله وحده هو المقدم والمؤخر يثمر كمال الذل بين يديه، وقوة الطمع فيما عنده، والخوف منه سبحانه وتعالى، وعدم اليأس من روحه وعدم الأمن من مكره، وحسن الالتجاء إليه رغبًا ورهبًا وخوفًا وطمعًا وحرصًا ومسابقة إلى الخيرات والأعمال الصالحات[3].
3 ـ الإيمان بهذين الاسمين وما دلاّ عليه من صفة التقديم والتأخير لله عزّ وجل يقتضي تقديم ما قدمه الله وتأخير ما أخره الله تعالى، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم شديد التحري لذلك، قال ابن القيم: «والنبي صلّى الله عليه وسلّم كان شديد التحري لتقديم ما قدَّمه الله والبداءة بما بدأ به، فلهذا بدأ بالصفا في السعي وقال: «نبدأ بما بدأ الله به» [4]، وبدأ بالوجه ثم اليدين ثم الرأس في الوضوء، ولم يُخِل بذلك مرة واحدة، بل كان هذا وضوءه إلى أن فارق الدنيا، لم يقدم منه مؤخرًا ولم يؤخر منه مقدمًا قط، ولا يقدر أحد أن ينقل عنه خلاف ذلك»[5]. وقال أيضًا: «كان يحافظ على تقديم ما قدَّمه الله وتأخير ما أخَّره، كما بدأ بالصفا وقال: «أبدأ بما بدأ الله به» ، وبدأ في العيد بالصلاة ثم جعل النحر بعدها، وأخبر أن من ذبح قبلها فلا نسك له؛ تقديمًا لما بدأ الله به في قوله: {فَصَلِّ لِرَّبِكَ وَانْحَرْ *} [الكوثر] ، وبدأ في أعضاء الوضوء بالوجه، ثم اليدين، ثم الرأس، ثم الرجلين؛ تقديمًا لما قدَّمه الله، وتأخيرًا لما أخَّره، وتوسيطًا لما وسطه، وقَدَّمَ زكاة الفطر على صلاة العيد تقديمًا لما قَدَّمه في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى *وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى *} [الأعلى] ، ونظائره كثيرة»[6].
وهكذا كان شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم في جميع أمور الدين، فقد كان يقدم ما قدمه الله ويؤخر ما أخره الله، ولنا جميعًا في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسوة حسنة، فيجب على كل مسلم أن يقدم شرع الله وسُنَّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم ومنهج حياته على كل منهج ودستور وقانون، وأن لا يقدم عليه عقله وهواه، وأن يراعي ما قدمه الله وما أخره في أحكامه وتشريعاته، وأن يطبق هذا التقديم والتأخير في جميع شؤونه وفي كل شُعَب حياته، والله ولي التوفيق.
[1] انظر: درء تعارض العقل والنقل (4/10) [جامعة الإمام محمد بن سعود، ط2، 1411هـ].
[2] انظر: الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى (1/375)، وفقه الأسماء الحسنى (281، 282)، والنهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى (3/61، 62).
[3] انظر: فقه الأسماء الحسنى (281).
[4] أخرجه مسلم (كتاب الحج، رقم 1218).
[5] بدائع الفوائد (2/685).
[6] زاد المعاد (2/351) [مؤسسة الرسالة، ط26، 1412هـ].
1 ـ «الأسماء والصفات»، للبيهقي.
2 ـ «الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى»، للقرطبي.
3 ـ «تفسير أسماء الله الحسنى»، للزجاج.
4 ـ «تفسير أسماء الله الحسنى»، للسعدي.
5 ـ «درء تعارض العقل والنقل»، لابن تيمية.
6 ـ «شأن الدعاء»، للخطابي.
7 ـ «فقه الأسماء الحسنى»، لعبد الرزاق البدر.
8 ـ «معتقد أهل السُّنَّة والجماعة في أسماء الله الحسنى»، للتميمي.
9 ـ «مفردات ألفاظ القرآن»، للراغب.
10 ـ «المنهاج في شعب الإيمان»، للحليمي.
11 ـ «النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى»، لحمود النجدي.