صفة فعلية ثابتة لله تعالى في مقابل مكر الماكرين، وردّ كيد الكائدين، يتصف الله بها على وجه الكمال تقتضي مدحًا للموصوف.
وهي بمعنى: إيصال الشيء إلى الغير بطريق خفي، والتوصل بالأسباب الخفية إلى الإيقاع بالخصم، وهي في محلها صفة كمال يحمد عليها[1].
ولذلك فوصف الله تعالى بها جاء مقيدًا بما يفيد الكمال والعظمة، والعدل والحكمة.
[1] انظر: إعلام الموقعين (3/229)، وشرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين (1/335)، والقول المفيد لابن عثيمين (2/64)، وراجع: مجموع الفتاوى (7/111).
لما كانت صفة المكر من الصفات المنقسمة التي تقبل المدح وتقبل الذم، جاء وصف الله تعالى بها مقيدًا بما يدل على المدح والكمال المطلق. فالمكر حين يتعلق بمن يستحق المكر وفي المواقف الموجبة له يعد مدحًا لدى كل عاقل.
قال ابن تيمية ـ في تسمية فعل الله سبحانه بالماكرين والكائدين والمستهزئين مكرًا وكيدًا واستهزاء ـ: «بل تسميته مكرًا وكيدًا واستهزاءً وسيئة وعقوبة على بابه؛ فإن المكر إيصال الشيء إلى الغير بطريق خفي، وكذلك الكيد، فإن كان ذلك الغير يستحق ذلك الشر كان مكرًا حسنًا، وإلا كان مكرًا سيئًا، بل إن كان ذلك الشر الواصل حقًّا لمظلوم كان ذلك المكر واجبًا في الشرع على الخلق، وواجبًا من الله بحكم الوعد، إن لم يعف المستحق، والله سبحانه إنما يمكر ويستهزئ بمن يستوجب ذلك فيأخذه من حيث لا يحتسب»[1].
[1] الفتاوى الكبرى (6/129).
قال ابن جرير الطبري: «وأما الذين زعموا أن قول الله تعالى ذكره: {اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ}، إنما هو على وجه الجواب، وأنه لم يكن من الله استهزاء ولا مكرٌ ولا خديعة، فنافُون عن الله عزّ وجل ما قد أثبته الله عزّ وجل لنفسه، وأوجبه لها»[1].
وقال أبو إسحاق الحربي: «والكيد من الله خلافه من الناس، كما المكر منه خلافه من الناس»[2].
وقال ابن تيمية: «وهكذا وصف نفسه بالمَكْر والكيد، كما وصف عبده بذلك، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال: 30] ، وقال: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا *وَأَكِيدُ كَيْدًا *} [الطارق] ، وليس المَكْر كالمَكْر ولا الكيد كالكيد»[3].
وقال ابن القيم: «وكذلك المكر ينقسم إلى محمود ومذموم فإن حقيقته إظهار أمر وإخفاء خلافه ليتوصل به إلى مراده، فمن المحمود: مكره تعالى بأهل المكر مقابلة لهم بفعلهم وجزاء لهم»[4].
[1] تفسير الطبري (1/306).
[2] غريب الحديث للحربي (1/94) [جامعة أم القرى، ط1، 1405هـ].
[3] التدمرية (26).
[4] إغاثة اللهفان (1/388).
إذا كانت الصفة كمالاً في حال، ونقصًا في حال، لم تكن جائزة في حق الله، ولا ممتنعة على سبيل الإطلاق، فلا تُثْبَت له إثباتًا مطلقًا، ولا تُنْفَى عنه نفيًا مطلقًا، بل لا بد من التفصيل، فتجوز في الحال التي تكون كمالاً، وتمتنع في الحال التي تكون نقصًا، وذلك كالمكر، والكيد، والخداع، ونحوها، فهذه الصفات تكون كمالاً إذا كانت في مقابلة من يعاملون الفاعل بمثلها؛ لأنها حينئذٍ تدل على أن فاعلها قادر على مقابلة عدوه بمثل فعله، أو أشد، وتكون نقصًا في غير هذه الحال، ولهذا لم يذكرها الله تعالى من صفاته على سبيل الإطلاق، وإنما ذكرها في مقابلة من يعاملونه ورسله بمثلها، كقوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ *} [آل عمران] [1].
[1] انظر: القواعد المثلى (29) [مكتبة السُّنَّة، ط2].
1 ـ التعبد لله تعالى بالخوف منه، وعدم أمن مكره وكيده، مع رجائه وحسن الظن به.
2 ـ التجاء المؤمن إلى ربه عزّ وجل في ردٍّ مكر الماكرين، وصرف أذى المبطلين.
3 ـ الحذر من المكر المؤدي إلى إحقاق باطل، أو إبطال حق؛ فمن مكر للباطل مكر الله به للحق.
4 ـ يقين المؤمنين بنصر الله تعالى؛ فهو جاعل العاقبة للمتقين، يمكر لهم لا عليهم في ردٍّ مكر كل مبطل.
5 ـ قيام ما خلق الله تعالى بالعدل والحكمة؛ فمن مكر ظلمًا وعدوانًا لا يدوم له مكر وإن فرح به زمنًا؛ فالله تعالى لا يهدي كيد الخائنين، ومبطل بمكره مكر المبطلين.
6 ـ ما يكون لرسل الله وأنبيائه وأوليائه من النصر والعاقبة الحسنة، مع قلة ذات اليد لديهم؛ لكنه نصر الله تعالى الذي يكيد لهم ويمكر لهم.
7 ـ ما يقع على الظالمين من العقوبة والعذاب، فهم وإن فرحوا بمكرهم واعتدائهم زمانًا، إلا أن المآل القريب هلاك وخسران، فهم يكيدون كيدًا، والله يكيد كيدًا، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ *} [الأنفال] .
خالف عموم المتكلمين من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة في إثبات هذه الصفة، وهذا بناء على ما أصَّلوه في نفي الصفات.
فمخالفة الجهمية بناء على أصلهم الفاسد في أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه[1].
ومخالفة المعتزلة بناء على أصلهم في نفي الصفات؛ لاستلزامها التشبيه، ولأن تعدد الصفات يلزم منه تعدد القدماء[2]، فيثبتون المكر باعتبار أثره، ويجعلونه استعارة لأخذ العبد من حيث لا يحتسب[3].
ومخالفة الأشاعرة بناء على أصلهم في نفي الصفات الفعلية؛ لأن إثباتها يستلزم حلول الحوادث في ذات الله تعالى، وكذلك توهم النقص في إثبات هذه الصفة نظرًا لجانب النقص الذي يحتمله إثباتها، فأوَّلوها إلى صفة الإرادة التي يثبتونها ضمن الصفات العقلية السبع التي يثبتونها، فتكون الصفة عندهم بمعنى إرادة العقوبة، أو بمعنى العقوبة الواقع على الممكور به[4]..
[1] الفرق بين الفرق للبغدادي (221) [دار التراث]، والملل والنحل للشهرستاني (1/98) [دار المعرفة، ط2].
[2] شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار المعتزلي (162) [مكتبة وهبة، ط3، 1416هـ].
[3] انظر: الكشاف للزمخشري (3/377).
[4] انظر: مفاتيح الغيب للرازي (1/129، 14/151).
1 ـ بنفي ما أحدثوه من لوازم باطلة، فإثبات الصفات لا يلزم منه تعدد القدماء، ولا التشبيه، ولا أيًّا من اللوازم الباطلة التي يجعلها النفاة مانعة لإثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه، وأثبته له رسوله صلّى الله عليه وسلّم من الأسماء والصفات.
فالله تعالى أثبت لنفسه صفات، وأثبتها لخلقه؛ كالعلم، والقدرة، والإرادة، والعظمة، ومن ذلك صفة مكره بالماكرين، ولم يلزم من هذا الإثبات أي معنى للتشبيه والتنقص الذي يزعمه هؤلاء النفاة، بل المتقرر شرعًا وعقلاً ما أخبر به تعالى عن نفسه بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *} [الشورى] .
2 ـ وأهل السُّنَّة والجماعة في إثباتهم لجميع ما أثبته الله تعالى لنفسه وما أثبته له رسوله صلّى الله عليه وسلّم يقررون هذا الأصل الجامع لكل الصفات، المانع من أي ظن كاذب أو لازم باطل، ومنها صفة المكر.
3 ـ ثم إن إثبات الصفات الفعلية لا يلزم منه أن تكون ذاته محلًّا لحوادث مخلوقة، فهو لم يزل ولا يزال فعالاً لما يريد، والنصوص الدالة على تعدد أفعاله وتنوعها لا تكاد تحصى، وليس في شيء منها ما يدل على أن شيئًا من المخلوقات يحل في ذاته[1].
4 ـ يقال لمنكر صفة الاستهزاء والمكر: إن الله جلّ جلاله أخبرنا أنه مكر بقوم مضوا قبلنا لم نرهم، وأخبر عن آخرين أنه خسف بهم، وعن آخرين أنه أغرقهم، فصدّقنا الله تعالى ذكره فيما أخبرنا به من ذلك، ولم نفرق بين شيء منه.
فما برهانك على تفريقك ما فرقت بينه بزعمك أنه قد أغرق وخسف بمن أخبر أنه أغرق وخسف به، ولم يمكر بمن أخبر أنه قد مكر به؟ ثم نعكس القول عليه في ذلك، فلن يقول في أحدهما شيئًا إلا ألزم في الآخر مثله.
فإن لجأ إلى أن يقول: إن الاستهزاء عبث ولعب، وذلك عن الله عزّ وجل منفي. قيل له: إن كان الأمر عندك على ما وصفت من معنى الاستهزاء، أفلست تقول: (الله يستهزئ بهم) و(سخر الله منهم) و(مكر الله بهم) وإن لم يكن من الله عندك هزء ولا سخرية؟ فإن قال: لا. كذّب بالقرآن، وخرج عن ملة الإسلام. وإن قال: بلى. قيل له: أفتقول من الوجه الذي قلت: (الله يستهزئ بهم) و(سخر الله منهم): يلعب الله بهم ويعبث؟ ـ ولا لعب من الله ولا عبث ـ. فإن قال: نعم؛ وصف الله بما قد أجمع المسلمون على نفيه عنه، وعلى تخطئة واصفه به، وأضاف إليه ما قد قامت الحجة من العقول على ضلال مضيفه إليه. وإن قال: لا أقول: يلعب الله بهم ولا يعبث، وقد أقول: (يستهزئ بهم) و(يسخر منهم). قيل: فقد فرقت بين معنى اللعب والعبث، والهزء والسخرية، والمكر والخديعة. ومن الوجه الذي جاز قيل هذا، ولم يجز قيل هذا، افترق معنياهما. فعلم أن لكل واحد منهما معنى غير معنى الآخر[2].
[1] انظر: رسالة في الصفات الاختيارية لابن تيمية ضمن جامع الرسائل (2/57) [دار العطاء، ط1، 1422هـ].
[2] انظر: تفسير الطبري (1/306).
1 ـ «إعلام الموقعين عن ربِّ العالمين»، لابن القيم.
2 ـ «إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان»، لابن القيم.
3 ـ «جامع الرسائل»، لابن تيمية.
4 ـ «الرسالة التدمرية»، لابن تيمية.
5 ـ «شرح العقيدة الواسطية»، لابن عثيمين.
6 ـ «صفات الله عزّ وجل الواردة في الكتاب والسُّنَّة»، لعلوي السقاف.
7 ـ «الفتاوى الكبرى»، لابن تيمية.
8 ـ «القواعد المثلى»، لابن عثيمين.
9 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.