حرف الميم / الملائكة

           

الملائكة : جمع مَلَك، وهو تخفيف الملأك، اجتمعوا على حذف همزه، قال الكسائي: أصله مألك بتقديم الهمزة من الألوك وهي الرسالة، يقال: ألكني إليه؛ أي: أرسلني إليه، ثم قلبت وقدمت اللام فقيل: ملأك ثم تركت همزته لكثرة الاستعمال فقيل: ملك، فلما جمعوه ردوها إليه فقالوا: ملائكة وملائك[1]. ويأتي بمعنى المُلْك، قال ابن فارس: «الميم واللام والكاف أصل صحيح يدل على قوة في الشيء وصحة... والاسم الملْك؛ لأن يده فيه قوية صحيحة»[2].


[1] ينظر: لسان العرب (10/481) [دار صادر]، والقاموس المحيط (1229) [مؤسسة الرسالة، ط2].
[2] ينظر: مقاييس اللغة (5/351، 352).


الملائكة خلق من مخلوقات الله، حجبهم الله عنا، فلا نراهم، وربما كشفهم لبعض عباده، لهم أجسام نورانية لطيفة قادرة على التشكل والتمثل والتصور بالصور الكريمة، ولهم قوى عظيمة، وقدرة كبيرة على التنقل، وهم خلق كثير لا يعلم عددهم إلا الله، قد اختارهم الله واصطفاهم لعبادته والقيام بأمره، فلا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون[1].


[1] ينظر: تفسير اللباب (1/121) [دار الكتب العلمية]، وعمدة القاري شرح صحيح البخاري (15/123) [دار إحياء التراث العربي]، والقول المفيد على كتاب التوحيد (3/65).


معنى الملائكة في اللغة: هو الرسل، ولا شكَّ أن الملائكة عليهم السلام هم رسل الله تعالى إلى أنبيائه عليهم السلام، وإلى من شاء من خلقه جلّ جلاله، يدل عليه قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ} [فاطر: 1] ، وقوله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75] . وعلى القول بأنه مشتق من الملك، وهو الأخذ بقوة؛ فلأن الملائكة أولو قوة وشدة في القيام بأداء ما أوكل الله إليهم القيام به.



الإيمان بالملائكة واجب، وهو ركن من أركان الإيمان في الإسلام، لا يتحقق الإيمان إلا به.



خلق الله الملائكة عليهم السلام من نور، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خُلقت الملائكة من نور، وخُلق الجان من مارج من نار، وخُلق آدم مما وُصِفَ لكم» [1]. وخَلْقُ الملائكة كان قبل آدم عليه السلام قطعًا، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] ، وقال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ *} [الحجر] .


[1] أخرجه مسلم (كتاب الزهد والرقائق، رقم 2996).


الإيمان بالملائكة هو الركن الثاني من أركان الإيمان الستة التي لا يصح إيمان عبد إلا بتحقيقه.



يدل على أهمية هذا الركن أن القرآن الكريم مملوء بذكر الملائكة وأصنافهم ومراتبهم، والأمر بالإيمان بهم، والتحذير من الكفر بهم، وبيان أحوالهم مع الله تعالى ومع الناس، وبيان مراتبهم وأعمالهم، حتى أن بعض سور القرآن قد سميت باسمهم. والسُّنَّة مثل القرآن مليئة بأخبارهم وأحوالهم مبيِّنة لما أجمل من أحوالهم في القرآن، آمرة بالإيمان بهم، كما أمر بذلك القرآن[1].


[1] ينظر: معتقد فرق المسلمين واليهود والنصارى والفلاسفة والوثنيين في الملائكة المقربين (16، 17) [أضواء السلف، ط1، 1422هـ].


الأدلة على هذا الركن كثيرة، منها : قول الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] ، وقوله سبحانه: {لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177] .
وحكم بالكفر والضلال على من لم يؤمن بأركان الإيمان، ومنها الإيمان بالملائكة، فقال تبارك وتعالى : {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا *} [النساء] .
وبيَّن النبي صلّى الله عليه وسلّم لأمته أن الإيمان بالملائكة ركن من أركان الإيمان، يدل عليه حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حينما أتى جبريل عليه السلام النبي صلّى الله عليه وسلّم في صورة البشر، وفيه: «فقال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت»[1].


[1] أخرجه بهذا اللفظ: مسلم (كتاب الإيمان، رقم 8)، من حديث عمر رضي الله عنه. وهو بنحوه عند البخاري (كتاب الإيمان، رقم 50)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 9)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.


المسألة الأولى: يتضمن الإيمان بالملائكة عدة أمور لا بدَّ للعبد من تحقيقها حتى يتحقق له الإيمان بالملائكة وهي:
أ ـ الإقرار بوجودهم والتصديق بهم، كما دلَّت على ذلك النصوص المتقدمة من أن الإيمان بهم ركن من أركان الإيمان فلا يتحقق الإيمان إلا بذلك.
ب ـ الإقرار بتكريم الله لهم، كما تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ *} [الأنبياء] وقال: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ *كِرَامٍ بَرَرَةٍ *} [عبس] . فوصفهم بأنهم مكرمون منه سبحانه وتعالى.
ج ـ الإقرار بشرفهم عنده سبحانه وتعالى، فقد قال في حقهم: {فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ *} [فصلت] ، فوصفهم بأنهم عنده، وهذا تشريف لهم، ومن تشريف الله للملائكة أنه تعالى أقسم بهم في غير موضع من كتابه وهذا لشرفهم عنده، فقال: {وَالصَّآفَّاتِ صَفًّا *فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا *فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا *} [الصافات] ، وقال المولى : {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا *فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا *} [المرسلات] .
د ـ موالاتهم ومحبتهم، لقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] ، فدخل الملائكة في هذه الآية؛ لأنهم مؤمنون قائمون بطاعة ربهم، كما أخبر الله عنهم: {لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ *} [التحريم] ، وأخبر عن موالاة الملائكة لرسوله وللمؤمنين فقال: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ *} [التحريم] ، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ *نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ *} [فصلت] فوجبت موالاة الملائكة على المؤمنين؛ لموالاتهم لهم ونصرهم وتأييدهم واستغفارهم لهم.
هـ الحذر من بغضهم وعداوتهم، وذلك لأن عداوة الملائكة موجبة لعداوة الله وسخطه، فهم إنما يصدرون عن أمر الله وحكمه، فمن عاداهم فقد عادى ربه، قال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ *} [البقرة] .
و ـ أن لا يغلو المسلم في الملائكة فيصرف لهم شيئًا من أنواع العبادة، ولا يعتقد فيهم غير ما أمره الله به، من أنهم خلق من خلق الله لا شأن لهم في الخلق والتدبير وتصريف الأمور؛ بل هم جند من جنود الله يعملون بأمر الله، والله تعالى هو الذي بيده الأمر كله لا شريك له في ذلك. وقد حذر تعالى من اتخاذ الملائكة أربابًا من دون الله، فقال جلّ جلاله: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ *} [آل عمران] ، وردَّ على من قال: إن الملائكة بنات الله، وأنهم يشفعون من دون الله تعالى، فقال: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ *لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ *يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ *وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ *} [الأنبياء] . فهم مع إكرام الله لهم، ورفعه منزلتهم بين مخلوقاته؛ إلا أنه لم يأمر بعبادتهم ولم يتخذ منهم ولدًا كما زعم من كفر، بل هم له تعالى في غاية الطاعة قولاً وفعلاً، ولا يشفعون إلا بإذنه ورضاه.
ز ـ الإيمان المفصل بمن جاء التصريح بذكرهم من الملائكة على وجه الخصوص في الكتاب والسُّنَّة؛ كجبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وغيرهم ممن جاءت النصوص بتسميتهم. وكذلك من جاءت النصوص بالإخبار عنه بالوصف؛ كرقيب وعتيد، أو بذكر وظيفته؛ كملك الموت وملك الجبال، أو من جاءت النصوص بذكر وظائفهم في الجملة؛ كحملة العرش، والكرام الكاتبين وغيرهم، ممن أخبر الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم عنهم.
المسألة الثانية: صفاتهم:
اشتملت نصوص الكتاب والسُّنَّة على صفات كثيرة للملائكة عليهم السلام، منها:
أ ـ أنهم أحياء، قال تعالى: {وَتَرَى الْمَلاَئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الزمر: 75] ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] ، وقال تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ *} [المعارج] ، وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنْزِيلاً *} [الفرقان] ، فالتسبيح والصلاة، والعروج إلى السماء والنزول إلى الأرض، ومخاطبة الملائكة لربهم ولرسله ولمن شاء تعالى من خلقه، ومخاطبة الملائكة للكفار مما هو مذكور في القرآن، فيه الدلالة على حياة الملائكة.
ب ـ أنهم عقلاء، قال تعالى: {لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ *} [التحريم] ، وقال عزّ وجل: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ *كِرَامًا كَاتِبِينَ *} [الانفطار] . وقال تعالى في خطابه للملائكة: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ *} [البقرة] ، فأثبت الله عزّ وجل للملائكة علمًا واتباعًا للأوامر واجتنابًا للمعاصي، وهذا كله دلالة على كمال عقولهم.
ج ـ أنهم ينطقون، قال تعالى: {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ *} [سبأ] ، وقال تعالى على لسان الملائكة وهم يخاطبون الكفار في النار: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ *} [الأنعام] .
د ـ أنهم موصوفون بالقوة والشدة، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ} [التحريم: 6] . وقال تعالى في وصف جبريل عليه السلام الذي نزل بالوحي على محمد صلّى الله عليه وسلّم: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى *} [النجم] ؛ أي: ذو قوة، وقال تعالى في وصف جبريل أيضًا: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ *} [التكوير] ؛ أي: شديد الخَلْق، شديد البطش والفعل[1].
هـ عظم خلقهم: فهم موصوفون بعظم الأجسام والخلق، قال تعالى: {عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ} [التحريم: 6] ، وعن عائشة رضي الله عنها؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال عن جبريل: «لم أره على صورته التي خُلِق عليها غير مرتين، رأيته منهبطًا من السماء سادًّا عِظَمُ خلقه ما بين السماء إلى الأرض» [2]، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جبريل في صورته، له ستمائة جناح»[3]، وروى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام»[4].
و ـ العلم، فقد أثبت الله للملائكة علمًا وأثبت لنفسه علمًا لا يعلمونه، وذلك في قوله تعالى مخاطبًا الملائكة: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ *} [البقرة] ، وقال تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى *} [النجم] ؛ أي: أن الذي عَلَّمه هو جبريل عليه السلام[5]، وهذا متضمن وصف جبريل بالعلم والتعليم.
ز ـ أنهم كرام أبرار، قال تعالى: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ *كِرَامٍ بَرَرَةٍ *} [عبس] ، وقال عزّ وجل: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ *كِرَامًا كَاتِبِينَ *} [الانفطار] .
ح ـ ومن صفاتهم: الحياء؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم في حق عثمان رضي الله عنه: «ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة»[6].
ط ـ ومن صفاتهم: الحسن والجمال، فالملائكة خلقوا على أجمل صورة، قال تعالى في حق جبريل عليه السلام: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى *ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى *} [النجم] قال ابن عباس رضي الله عنهما: {ذُو مِرَّةٍ}: «ذو منظر حسن»[7]. وقال تعالى حال النسوة اللاتي رأين يوسف عليه السلام: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ *} [يوسف] وإنما قلن ذلك لما هو مقرر عند البشر من وصف الملائكة بالجمال والحسن.
المسألة الثالثة: خصائصهم:
اختص الله الملائكة بخصائص اختصوا بها عن سائر المخلوقات، منها:
أ ـ سكن الملائكة هو السماء، فمنازلهم هي السماء، قال تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الشورى: 5] ، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «أطَّت السماء، وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا عليه ملك ساجد» [8]. وإنما ينزل الملائكة إلى الأرض تنفيذًا لأمر الله في الخلق وما أسند إليهم من تصريف شؤونهم. قال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2] .
ب ـ تفاوتهم في الخلق، فمنهم من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة، ومنهم من له ستمائة جناح، قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر: 1] .
ج ـ لا يوصف الملائكة بالأنوثة، قال تعالى منكرًا على الكفار قولهم: إن الملائكة بنات الله: {وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَانِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ *} [الزخرف] ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى *وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا *} [النجم] ، وقال تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ *أَمْ خَلَقْنَا الْمَلاَئِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ *أَلاَ إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ *وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ *أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينِ *مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ *} [الصافات] .
د ـ الملائكة باقون على أصل خلقتهم، لا يتوالدون ولا يتزاوجون، وهذا يدل عليه ظاهر الآيات السابقة.
هـ أنهم لا يأكلون ولا يشربون، قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ *إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ *فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ *فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ *فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ *} [الذاريات] ، وقال تعالى: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ *} [هود] .
و ـ قدرتهم على التشكل، فقد جاؤوا إبراهيم في صورة بشر فلم يعرف أنهم ملائكة، قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ *إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ *} [الذاريات] ، وجبريل حين أتى مريم في صورة بشرية: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيًّا *فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا *} [مريم] ، وحديث الأقرع والأبرص والأعمى حينما أتاهم ملَك في صورة رجل ليختبرهم[9]. وحديث جبريل حينما أتى في صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، فأخذ يسأل النبي عن أركان الإسلام والإيمان والإحسان، والنبي صلّى الله عليه وسلّم يجيبه[10].
ز ـ أنهم لا يعصون الله في شيء، ولا تصدر منهم الذنوب، بل طبعهم الله على طاعته، والقيام بأمره، كما قال تعالى في وصفهم: {لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ *} [التحريم] .
ح ـ أنهم لا يتعبون ولا يملُّون عن عبادة الله تعالى، قال : {فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ *} [فصلت] ، وقال تعالى: {...وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ *} [الأنبياء] .
ط ـ مبادرتهم إلى امتثال أمر الله تعظيمًا له، يدل عليه قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ *} [الحجر] . وهم لا يفعلون شيئًا إلا بوحيه وأمره يدل عليه قوله تعالى: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ *} [الأنبياء] .
ي ـ جعل الله الملائكة فرقانًا بين الحق والباطل، فهي تنزل بأمر الله تعالى على الرسل، تفرق به بين الحق والباطل، والهدى والغي، والحلال والحرام، وتلقي إلى الرسل وحيًا فيه إعذار إلى الخلق، وإنذارٌ لهم عقاب الله إن خالفوا أمره، قال : {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا *فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا *عُذْرًا أَوْ نُذْرًا *} [المرسلات] .
ك ـ أنهم منظمون في عباداتهم وكل شؤونهم، وقد حثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الاقتداء بهم، يدل عليه حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها تبارك وتعالى ؟ قال: قلنا: يا رسول الله وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمِّمون الصفوف الأولى ويتراصون في الصف»[11] ، وفي يوم القيامة: يأتون صفوفًا منتظمة: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *} [الفجر] ويقفون بين يدي الله تعالى صفًا: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفًّا لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَقَالَ صَوَابًا *} [النبأ] .
ل ـ أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب أو صورة، فعن أبي طلحة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يقول: «لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة تماثيل»[12].
المسألة الرابعة: عددهم:
عدد الملائكة لا يحصى ولا يعد، فلا يعلم عدد الملائكة عليهم السلام إلا الله تعالى، قال : {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ *} [المدثر] . وفي حديث البيت المعمور، قال صلّى الله عليه وسلّم: «يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا منه لم يعودوا فيه آخر ما عليهم» [13]، قال ابن حجر رحمه الله: «استدل به على أن الملائكة أكثر المخلوقات؛ لأنه لا يعرف من جميع العوالم من يتجدد جنسه في كل يوم سبعون ألفًا، غير ما ثبت عن الملائكة في هذا الخبر»[14]، وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها» [15]، كما أن ما ورد في النصوص عن وجود ملائكة تقوم على الإنسان: فهناك ملك موكول بالنطفة، وملكان لكتابة الأعمال، وملائكة لحفظه، وملائكة سيَّاحة تبحث عن مجالس العلم، وملائكة تتعاقب على البشر، دلالة على أعدادهم الكثيرة التي لا يعلم بها إلا الله.
المسألة الخامسة: تفاضلهم:
تفاضل الملائكة وعدم تساويهم في الفضل والمنزلة عند الله، دلَّت عليه النصوص الشرعية، قال تعالى على لسان الملائكة: {ومَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ *} [الصافات] ، وقال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75] . وقال عزّ وجل: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172] فأخبر أن منهم مصطفين بالرسالة ومقربين، فدلَّ على فضلهم على غيرهم. وقال عن جبريل عليه السلام: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ *} [التكوير] ؛ أي: له مكانة ومنزلة عالية رفيعة عند الله تعالى. وأفضل الملائكة: المقربون مع حملة العرش، وأفضل المقربين الملائكة الثلاثة الوارد ذكرهم في دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي كان يفتتح به صلاة الليل فيقول: «اللَّهُمَّ رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة» [16]، وأفضل الملائكة في الجملة من شهد منهم معركة بدر، فعن رفاعة بن رافع رضي الله عنه؛ أن جبريل جاء للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ما تعدون أهل بدرٍ فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين، أو كلمة نحوها، قال: وكذلك من شهد بدرًا من الملائكة»[17].
المسألة السادسة: عصمتهم:
دلت نصوص القرآن والسُّنَّة على عصمة كل الملائكة عن جميع الذنوب؛ فمنها:
قوله تعالى: {لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ *} [التحريم] ، وقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ *} [النحل] ، فقوله: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ *} يتناول فعل جميع المأمورات وترك المنهيات؛ لأن المنهي عن الشيء مأمور بتركه. ومنها قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ *لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ *} [الأنبياء] . فهذا صريح في براءتهم عن المعاصي وكونهم متوقفين في كل الأمور إلا بمقتضى الأمر والوحي.
وعن حنظلة الأسيدي رضي الله عنه قال: «دخلنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: نافق حنظلة يا رسول الله. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله! نكون عندك، تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيرًا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فُرشكم وفي طرقكم؛ ولكن يا حنظلة ساعة وساعة، ثلاث مرات »[18].
ووجه الدلالة هنا : أن من كان منزهًا عن الوقوع في الغفلة، وكان ملازمًا لذكر الله وعبادته في كل وقته كان شبيهًا بالملائكة. أيضًا فإن الله تعالى حكى عن الملائكة أنهم طعنوا في البشر بالمعصية، ولو كانوا من العصاة، لما حسن منهم ذلك الطعن. أيضًا حكى تعالى عنهم أنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ومن كان كذلك امتنع صدور المعصية منه[19].
المسألة السابعة: أسماء الملائكة:
للملائكة أسماء عامة مثل: الرسل، قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ} [فاطر: 1] ، وقال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75] . والسَّفَرة، قال تعالى: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ *كِرَامٍ بَرَرَةٍ *} [عبس] . والجند، قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31] . والملأ الأعلى، قال تعالى: {مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإَِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ *} [ص] ، وقال: {لاَ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإَِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ *} [الصافات] . والأشهاد، قال عزّ وجل: {وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [هود: 18] .
كذلك للملائكة أسماء خاصة؛ منها: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، يدل عليه قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ *} [البقرة] ، وقد ذكرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله: «اللَّهُمَّ رب جبريل وميكائيل وإسرافيل» [20]. ومنهم: مالك خازن النار، قال تعالى: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ *} [الزخرف] . ومنهم: منكر ونكير، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا قبر الميت ـ أو قال: أحدكم ـ أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما: المنكر والآخر: النكير، فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل» [21]، الحديث. ومنهم: ملك الموت، قال تعالى: {قُلْ يَتَوفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ *} [السجدة] . ومنهم: هاروت وماروت، قال تعالى: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة: 102] .
المسألة الثامنة: عبادة الملائكة:
ورد في القرآن الكريم وسُنَّة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، عبادات متعددة للملائكة، منها:
أ ـ التسبيح ، قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر: 7] ، وقال تعالى: {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ *} [فصلت] .
ب ـ الصلاة ، وشاهده قول النبي صلّى الله عليه وسلّم للصحابة قبل دخوله في الصلاة: «ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها تبارك وتعالى ؟ قال: قلنا: يا رسول الله وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمِّمون الصفوف الأولى ويتراصُّون في الصف» [22]، وفي حديث الإسراء: «فرُفع لي البيت المعمور، فسألتُ جبريل فقال: هذا البيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم»[23].
ج ـ السجود ، دلَّ عليه حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع أصحابه إذ قال لهم: «هل تسمعون ما أسمع؟ قالوا: ما نسمع من شيء يا رسول الله! قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إني لأسمع أطيط السماء، وما تلام أن تئط، وما فيها موضع قدم إلا وعليه ملك إما ساجدٌ وإما قائمٌ»[24].
د ـ الحج ، ودليله ما جاء في حديث الإسراء الطويل، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «فرُفع لي البيت المعمور، فسألتُ جبريل فقال: هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا منه لم يعودوا فيه آخر ما عليهم»[25].
هـ الخشية والخوف ، ولا شك أن الملائكة من أكثر المخلوقات خشية لله سبحانه وتعالى وخوفًا منه، قال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ *} [النحل] .
و ـ المحبة ، فالملائكة تحب الله تعالى وتحب من يحبه الله تعالى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلانًا فأحببه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض»[26].
المسألة التاسعة: وظائف الملائكة:
للملائكة وظائف وأعمال كلَّفهم الله تعالى بها، وأعطاهم القدرة على تأديتها الوجه الأكمل. وهم بحسب ما يقومون به من وظائف وأعمال، كما يلي:
ـ تبليغ وحي الله جلّ جلاله إلى رسله عليهم السلام، والموكل بالوحي هو جبريل، قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ *بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ *} [الشعراء] ، وقال: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ *} [النحل] ، وقد وصف الله جبريلَ عليه السلام بالقوة والأمانة على تأدية مهمته، فقال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ *مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ *} [التكوير] .
ـ إنزال القطر من السماء، والموكل به هو ميكائيل عليه السلام لما ثبت في حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سأل جبريل على أي شيء ميكائيل فقال: «على النبات والقطر» [27]. وقد ورد ذكر ميكائيل عليه السلام في القرآن، قال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ *} [البقرة] . وهناك ملائكة تزجر السحاب وتسوقه، كما دلَّ عليه قوله تعالى: {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا *} [الصافات] ، وعلى ذلك فإنهم من أتباع ميكائيل عليه السلام.
ـ النفخ في الصور، والصور: هو القرن الذي ينفخ فيه، كما ورد في المسند عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال أعرابي: يا رسول الله، ما الصور؟ قال: «قرن ينفخ فيه» [28]. والذي ينفخ في الصور ملك من الملائكة لم يثبت في تسميته حديث صحيح؛ بل الثابت ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنى جبهته وأصغى سمعه، ينظر متى يؤمر» ، قال المسلمون: يا رسول الله فما نقول؟ قال: «قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا»[29].
ـ قبض أرواح العباد، والموكل بقبضها ملك الموت، قال تعالى: {قُلْ يَتَوفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ *} [السجدة] ، ولملك الموت أعوان من الملائكة، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ *} [الأنعام] .
ـ ومن الأعمال التي يقومون بها ما يقوم به الملك الموكل بالجبال، وقد ورد ذكره في حديث خروج النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل الطائف، وفيه: «فناداني ملك الجبال، فسلم عليّ ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين . فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا»[30].
ـ ومنها ما يقوم به الملك الموكل بالرحم، على ما دلَّ عليه حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله عزّ وجل قد وكَّل بالرحم ملكًا يقول: يا ربِّ! نطفة. يا ربِّ! علقة. يا ربِّ مضغة. فإذا أراد الله أن يقضي خلقًا، قال الملك: أي رب! ذكر أو أنثى؟ شقي أو سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه»[31].
ـ ومن أعمالهم حمل العرش، قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 7] . وقال تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ *} [الحاقة] .
ـ ومنهم خزنة الجنة، قال سبحانه وتعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ *} [الزمر] . وقال تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ *} [الرعد] .
ـ ومنهم خزنة النار وهم الزبانية، ورؤساؤهم تسعة عشر، قال عزّ وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ *} [غافر] ، وقال تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ *سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ *} [العلق] ، وقال تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ * وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [المدثر] .
ـ ومنهم زوار البيت المعمور، سبعون ألف ملك يدخلون فيه ثم لا يعودون إليه، كما ورد في حديث الإسراء الطويل؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «فرُفع لي البيت المعمور، فسألتُ جبريل فقال: هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا منه لم يعودوا فيه آخر ما عليهم»[32].
ـ ومنهم ملائكة سياحون يتتبعون مجالس الذكر، لما ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله، تنادوا: هلموا إلى حاجتكم. قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، قال: فيسألهم ربهم وهو أعلم منهم: ما يقول عبادي؟ قالوا: يقولون: يسبحونك، ويكبرونك ويحمدونك، ويمجدونك»[33].
ـ ومن الملائكة من يتعاقبون على المسلمين في صلاة العصر وصلاة الفجر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الملائكة يتعاقبون؛ ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم فيقول: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم يصلون وأتيناهم يصلون»[34].
ـ ومنهم من يبلِّغون النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو في قبره السلام من أمته، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن لله عزّ وجل ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام»[35].
ـ ومنهم من يقفون على أبواب المساجد يوم الجمعة، يكتبون الأول فالأول، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد الملائكة يكتبون الأول فالأول فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاؤوا يستمعون الذكر»[36].
ـ ومن أعمال الملائكة: الدعاء للمؤمنين، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *} [الأحزاب] . وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يُحدِث، تقول: اللَّهُمَّ اغفر له، اللَّهُمَّ ارحمه»[37].
ـ ومنها الاستغفار للمؤمنين، قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ *} [غافر] .
ـ ومنها أنها تصلي مع المصلين خلف الإمام، لما ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده فقولوا: اللَّهُمَّ ربنا لك الحمد فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه»[38].
ـ ومنها كتابة أعمال العباد وإحصاؤها عليهم، والذي يقوم بها هم الكرام الكاتبون، قال تعالى: {...عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ *} [ق] ، وقال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ *كِرَامًا كَاتِبِينَ *يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ *} [الانفطار] .
ـ ومنها سؤال العباد في قبورهم، ودليله حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه ـ إنه ليسمع قرع نعالهم ـ أتاه ملكان، فيقعدانه فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل ـ لمحمد صلّى الله عليه وسلّم ـ؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله. فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدًا من الجنة فيراهما جميعًا»[39].
ـ ومنها حراسة المدينة من الدجال، لما روى البخاري عن أنس وأبي بكرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «تحرس الملائكة المدينة من الدجال»[40].
المسألة العاشرة: موت الملائكة:
ظاهر النصوص تدلُّ على بقاء الملائكة أحياء ـ كلهم أو بعضهم ـ إلى حين النفخ في الصور، وإنما وقع الخلاف بين العلماء عند النفخ في الصور، فهل يشمل ذلك الملائكة أو لا؟ والذي ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هو أن الملائكة تصعق عند النفخ في الصور مثلها مثل سائر المخلوقات. قال ابن تيمية: «الذي عليه أكثر الناس، أن جميع الخلق يموتون حتى الملائكة وحتى عزرائيل ملك الموت»[41]. ويشهد لهذا قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ *} [سبأ] ، قال ابن كثير رحمه الله: «إنه تعالى إذا تكلم بالوحي، سمع أهل السماوات كلامه، أرْعدوا من الهيبة حتى يلحقهم مثل الغشي»[42]. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا تكلم الله بالوحي، سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا، فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، حتى إذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم، قال: فيقولون: يا جبريل ماذا قال ربك؟ فيقول: الحق، فيقولون: الحق الحق» [43]. قال ابن تيمية: «فقد أخبر أنهم يصعقون صعق الغشي، فإذا جاز عليهم صعق الغشي؛ جاز صعق الموت»[44]. أما الاستثناء في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68] ، فهو متناول لمن في الجنة، فإن الجنة ليس فيها موت[45]، والله أعلم.


[1] ينظر: تفسير ابن كثير (7/444، 8/338) [دار طيبة، ط4، 1428هـ].
[2] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 177).
[3] أخرجه البخاري (كتاب بدء الخلق، رقم 3232)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 174).
[4] أخرجه أبو داود (كتاب السُّنَّة، رقم 4727)، وصححه الذهبي في العلو (رقم 234)، والألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 151).
[5] ينظر: تفسير ابن كثير (7/444).
[6] أخرجه مسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2401).
[7] أخرجه الطبري في التفسير (22/499) [مؤسسة الرسالة، ط1].
[8] أخرجه الترمذي (أبواب الزهد، رقم 2312) وحسنه، وأحمد (35/405) [مؤسسة الرسالة، ط2، 1428هـ] واللفظ له، والحاكم (كتاب التفسير، رقم 3883) وصححه، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (رقم 3380) [مكتبة المعارف، ط5].
[9] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3464)، ومسلم (كتاب الزهد والرقائق، رقم 2964).
[10] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 50)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 9)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 8)، من حديث عمر رضي الله عنه، واللفظ له.
[11] أخرجه مسلم (كتاب الصلاة، رقم 430).
[12] أخرجه البخاري (كتاب بدء الخلق، رقم 3225)، ومسلم (كتاب اللباس والزينة، رقم 2106).
[13] أخرجه البخاري (كتاب بدء الخلق، رقم 3207)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 164)، واللفظ له.
[14] فتح الباري (7/255) [دار المعرفة، 1379هـ].
[15] أخرجه مسلم (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم 2842).
[16] أخرجه مسلم (كتاب صلاة المسافرين وقصرها، رقم 770).
[17] أخرجه البخاري (كتاب المغازي، رقم 3992).
[18] أخرجه مسلم (كتاب التوبة، رقم 2750).
[19] ينظر: تفسير الفخر الرازي (2/166) [دار إحياء التراث العربي، ط3].
[20] تقدم تخريجه.
[21] أخرجه الترمذي (أبواب الجنائز، رقم 1071) وحسنه، وابن حبان (كتاب الجنائز، رقم 3117)، وجوَّد إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 1391).
[22] تقدم تخريجه.
[23] تقدم تخريجه.
[24] أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1/422) [دار الراية، ط1]، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (3/167) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 852).
[25] تقدم تخريجه.
[26] أخرجه البخاري (كتاب بدء الخلق، رقم 3209)، ومسلم (كتاب البر والصلة والآداب، رقم 2637).
[27] أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب العرش (462) [مكتبة الرشد، ط1]، والطبراني في الكبير (11/379) [مكتبة ابن تيمية، ط2]، وقال الهيثمي في المجمع (9/19) [مكتبة القدسي]: فيه محمد بن أبي ليلى، وقد وثقه جماعة، ولكنه سيِّئ الحفظ، وبقية رجاله ثقات.
[28] أخرجه أبو داود (كتاب السُّنَّة، رقم 4742)، والترمذي (أبواب صفة القيامة والرقائق والورع، رقم 2430) وحسنه، وأحمد (11/53) [مؤسسة الرسالة، ط1] واللفظ له، والدارمي (كتاب الرقاق، رقم 2840)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 1080).
[29] أخرجه الترمذي (كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، رقم 2431) وحسنه، وأحمد (17/89) [مؤسسة الرسالة، ط1] واللفظ له، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (رقم 3569) [مكتبة المعارف، ط5].
[30] أخرجه البخاري (كتاب بدء الخلق، رقم 3231) واللفظ له، ومسلم (كتاب الجهاد والسير، رقم 1795).
[31] أخرجه البخاري (كتاب الحيض، رقم 318)، ومسلم (كتاب القدر، رقم 2646) واللفظ له.
[32] تقدم تخريجه.
[33] أخرجه البخاري (كتاب الدعوات، رقم 6408) وهذا لفظه، ومسلم (كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، رقم 2689).
[34] أخرجه البخاري (كتاب بدء الخلق، رقم 3223) واللفظ له، ومسلم (كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم 632).
[35] أخرجه النسائي (كتاب صفة الصلاة، رقم 1282)، وأحمد (1/387، 441، 452) [مؤسسة قرطبة، مصر (مصورة عن الطبعة الميمنية)]، والدارمي (كتاب الرقاق، رقم 2816)، وابن حبَّان في صحيحه (كتاب الرقائق، رقم 914)، والحاكم في مستدركه (كتاب التفسير، رقم 3576) وصححه، وصحَّحه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 2853).
[36] أخرجه البخاري (كتاب بدء الخلق، رقم 3211). ومسلم (كتاب الجمعة، رقم 850).
[37] أخرجه البخاري (كتاب الصلاة، رقم 445)، ومسلم (كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم 649).
[38] أخرجه البخاري (كتاب بدء الخلق، رقم 3228)، ومسلم (كتاب الصلاة، رقم 409).
[39] أخرجه البخاري (كتاب الجنائز، رقم 1374) وهذا لفظه، ومسلم (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم 2870).
[40] أخرجه البخاري معلقًا مجزومًا به (كتاب بدء الخلق، رقم 3239)، ووصل حديث أنس في (كتاب الحج، رقم 1881)، ووصل حديث أبي بكرة في (كتاب الفتن، رقم 7125). وأخرج حديث أنس أيضًا: مسلم (كتاب الفتن وأشراط الساعة، رقم 2943).
[41] ينظر: مجموع الفتاوى (4/259) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1416هـ].
[42] تفسير ابن كثير (6/514).
[43] أخرجه أبو داود (كتاب السُّنَّة، رقم 4738)، وابن حبان في صحيحه (كتاب الوحي، رقم 37) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وقال ابن القيم: (هذا الإسناد كلهم أئمة ثقات). مختصر الصواعق (488) [دار الحديث، ط1]، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 1293) [مكتبة المعارف، ط1، 1415هـ].
[44] مجموع الفتاوى (4/260).
[45] ينظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية (4/260).


للإيمان بالملائكة آثار عظيمة، منها: العلم بعظمة الخالق عزّ وجل وكمال قدرته وسلطانه. ومنها: شكر الله تعالى على لطفه وعنايته بعباده حيث وكل بهم من هؤلاء الملائكة من يقوم بحفظهم وكتابة أعمالهم، وغير ذلك مما تتحقق به مصالحهم في الدنيا والآخرة. ومنها: محبة الملائكة على ما هداهم الله إليه من تحقيق عبادة الله على الوجه الأكمل. ومنها: الحرص على ارتياد الأماكن التي تحبها الملائكة؛ كالمساجد وحِلَقِ العلم، ومنها: الاقتداء بالملائكة في إتقان الأعمال، والقيام بها على الوجه الأكمل. ومنها: عدم استكثار ما يقوم به العبد من العمل الصالح، إذا قارنه بما تقوم به الملائكة دون تذمر أو ملل منها. ومنها: أن يحرص العبد كل الحرص على أن يبتعد عن المعاصي والذنوب إذا علم أن الله قد وكل به ملك يكتب أقواله وأفعاله.



ذهبت طوائف من الإسماعيلية إلى أن الملائكة هم دعاة الإسماعيلية، يقول النعمان القاضي الإسماعيلي: «الملائكة هم الحجج، وأرباب دعوته القائمون بها، وهم الدعاة الآخذون عهده على المستجيبين لهم»[1]، ويقول أحمد الكرماني: «الملائكة هم حدود الدعوة»[2]، في حين ذهب آخرون إلى أن الملائكة جواهر روحانية وقوى عقلية بحتة لا صلة لها بعالم الأجسام، يقول الداعي الإسماعيلي شمس الدين الطيبي عن المقربين من الملائكة: «وأما الملائكة المقربون فهم القوى العالمة في العوالم العالية والسافلة»[3]. وقول الطيبي الإسماعيلي قريب من قول الفلاسفة الذين زعموا أن الملائكة عقول مجردة، ونفوس مدبرة لهذا العالم[4].
وممن أنكر الملائكة إلايجا محمد زعيم منظمة أمة الإسلام في أمريكا، حيث إن من الأصول التي بنى عليها مذهبه: الإيمان بما هو محسوس ومشاهد فقط، وبما أن الملائكة محجوبون عن البشر، فالإيمان بهم غير وارد لديه[5].
أيضًا فإن بعضًا ممن ينتسب إلى الإسلام ممن تأثر بالمنهج العقلي في تناول النصوص: أنكر وجود الملائكة، بزعمه أن الإيمان بالملائكة مخالف للحس، وغير واقعي، ولا يقبله كل الناس[6]. في حين زعم آخرون أن الملائكة أرواح مجردة، ونفوا أن تتمثل الملائكة بصوت أو صورة حقيقيين، وإنما هو إشراق يقع في نفس النبي فيحصل له شيء من العلم الإلهي[7].
ولا شك في أن الأقوال السابقة كلها مخالفة للقرآن والسُّنَّة وإجماع السلف الصالح، فحاشا أن تكون الملائكة دعاة بدعة وضلالة كما زعمت الإسماعيلية، بل هذا تكذيب منهم للقرآن الذي نفى أن تكون الملائكة بشرًا، كما هو ظاهر قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنْظَرُونَ *وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ *} [الأنعام] . قال القرطبي في تفسيره: «قال ابن عباس: لو رأوا الملك على صورته لماتوا؛ إذ لا يطيقون رؤيته. وقال مجاهد وعكرمة: لقامت الساعة. وقال الحسن وقتادة: لأهلكوا بعذاب الاستئصال؛ لأن الله أجرى سُنَّته بأن من طلب آية فأظهرت له فلم يؤمن؛ أهلكه الله في الحال، ولو جعل الله تعالى الرسول إلى البشر ملكًا؛ لنفروا من مقاربته، ولما أنسوا به، ولداخلهم من الرعب من كلامه والاتقاء له ما يكفهم عن كلامه، ويمنعهم عن سؤاله، فلا تعم المصلحة، ولو نقله عن صورة الملائكة إلى مثل صورتهم ليأنسوا به وليسكنوا إليه لقالوا: لست ملكًا وإنما أنت بشر فلا نؤمن بك وعادوا إلى مثل حالهم»[8].
وليست الملائكة عليهم السلام جواهر عقلية أو أرواحًا مجردة كما زعم من زعم من الفلاسفة ومن تأثر بهم في هذا العصر؛ بل الملائكة خلق من خلق الله، لهم أجسام حقيقية، وأصل مادة خلقهم هي النور كما مر معنا، خصهم الله بعدم قدرة البشر على رؤيتهم إلا من استثناه الله تعالى، ومنهم النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم حيث رأى جبريل عليه السلام في صورته الحقيقية، كما ثبت من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جبريل في صورته، وله ستمائة جناح»[9].


[1] الرسالة المذهبة، للقاضي النعمان (84) [ضمن خمس رسائل إسماعيلية، دار الإنصاف، 1375هـ].
[2] راحة العقل للداعي أحمد حميد الدين الكرماني (582) [دار الأندلس، ط3، 1983م].
[3] الدستور ودعوة المؤمنين للحضور، للداعي الإسماعيلي شمس الدين بن أحمد بن يعقوب الطيبي (68) [ضمن أربع رسائل إسماعيلية، دار مكتبة الحياة، ط2، 1978م].
[4] ينظر: فصوص الحكم للفارابي (73) [انتشارات بيدار، ط2، 1405هـ]، ورسالة في الحدود لابن سينا (74) [ضمن تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات، ط1، 1406هـ].
[5] ينظر: منظمة إلايجا محمد الأمريكية دراسة وتحليل، لعبد الوهاب أبو سليمان (71) [دار الشروق، ط1، 1399هـ].
[6] ينظر: قضايا معاصرة في فكرنا المعاصر لحسن حنفي (93) [دار الفكر العربي، ط3، 1987م].
[7] ينظر: رسالة التوحيد لمحمد عبده (105، 106) [دار إحياء العلوم، ط4، 1402هـ].
[8] الجامع لأحكام القرآن (8/327، 328) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1427هـ].
[9] تقدم تخريجه.


1 ـ «أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسُّنَّة»، لنخبة من العلماء.
2 ـ «البداية والنهاية» (ج1)، لابن كثير.
3 ـ «تفسير اللباب» (ج1)، لابن عادل الحنبلي.
4 ـ «الجامع لشعب الإيمان» (ج1)، للبيهقي.
5 ـ «الحبائك في أخبار الملائك»، للسيوطي.
6 ـ «شرح العقيدة الطحاوية»، لابن أبي العز الحنفي.
7 ـ «عالم الملائكة الأبرار»، لعمر بن سليمان الأشقر.
8 ـ «عمدة القاري» (ج15)، للعيني.
9 ـ «القول المفيد على كتاب التوحيد» (ج3)، لابن عثيمين.
10 ـ «لوامع الأنوار البهية»، للسفاريني.
11 ـ «معارج القبول»، لحافظ بن أحمد الحكمي.
12 ـ «معتقد فرق المسلمين واليهود والنصارى والفلاسفة والوثنيين في الملائكة المقربين»، لمحمد بن عبد الوهاب العقيل.
13 ـ «المنهاج في شعب الإيمان» (ج1)، للحليمي.