المِلَّة ـ بكسر الميم ـ هي في اللغة: السُّنَّة والطريقة، تقول: هذا طريق مُمَلٌّ؛ أي: لحِبٌ مسلوك، واختلف في أصل المِلة في اللغة، فقيل: أصلها من الملّ، قال أبو هلال العسكري: «وأصل الملة في العربية من الملّ، وهو أن يعدوَ الذئب على شيء ضربًا من العدو، فسمِّيت الملة ملة لاستمرار أهلها عليها»[1].
وقيل: أصلها من أمللت، يقال: أمللت الكتاب؛ أي: أمليته، قال الراغب الأصفهاني: «وأصل الملة من: أمللت الكتاب، قال تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: 282] »[2].
والمَلَّة بالفتح: الرماد الحار، والجمر، ومنه قولهم: خبز مَلةٍ، وذلك أنه إذا دفن فيه الخبز وغيره تكرر عليه الحمي حتى ينضج[3].
[1] الفروق اللغوية (220) [دار العلم والثقافة]، وانظر: لسان العرب (11/631) [دار الفكر، ط1، 1410هـ].
[2] المفردات للراغب (773) [دار القلم، ط2، 1418هـ]. وانظر: المصباح المنير (474).
[3] انظر: الصحاح (5/1821) [دار الملايين، ط3]، والقاموس المحيط (1367) [مؤسسة الرسالة ط2].
الملة اصطلاحًا : قيل: هي الدين والشريعة، وكل ما جاء عن طريق الرسل عليهم السلام، كملة الإسلام والنصرانية واليهودية[1]، قال الراغب الأصفهاني: «الملة كالدين، وهي اسم لما شرعه الله تعالى لعباده على لسان الأنبياء»[2].
وقال ابن القيم: «الملة: هي الدين، وهي مجموعة أقوال وأفعال واعتقاد ودخول الأعمال في الملة كدخول الإيمان»[3].
وقيل: هي الديانة التي يدين بها جنس من البشر، سواء كانت صحيحة أم غير صحيحة، وهذا القول هو الراجح لشموله جميع الديانات، بخلاف التعريف الأول فلا يشمل إلا الديانات الصحيحة.
وقول ابن القيم رحمه الله كأنه أراد بذلك بيان المراد بملة إبراهيم عليه السلام التي أمرنا الله باتّباعها، ولم يرد تعريف الملة على وجه العموم.
وقد ورد إطلاق لفظ الملة في القرآن بهذا المعنى، فجاء إطلاقها على دين إبراهيم عليه السلام كما في قوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] ، كما ورد إطلاقها على ديانة من لا يؤمن بالله تعالى، كما في قوله تعالى: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [يوسف: 37] [4].
[1] انظر: الصحاح (5/1821)، والنهاية في غريب الحديث والأثر (4/360).
[2] المفردات، للراغب الأصفهاني (773).
[3] تحفة المودود بأحكام المولود، لابن القيم (123).
[4] انظر: المفردات، للراغب (773)، وعلم الملل ومناهج العلماء فيه (10، 11) [دار الفضيلة، ط1، 1425هـ].
اختلف في سبب تسمية الملة بهذا الاسم، على أقوال:
1 ـ قيل: سميت الملة بهذا الاسم؛ لأن الملك يملي الوحي على الأنبياء عليهم السلام، فسمِّيت ملة من الإملاء، قال أبو المظفر السمعاني ـ في كلامه على الملة ـ: «قيل: هي عبارة عما يُمله الملك على النبي صلّى الله عليه وسلّم من الوحي»[1].
2 ـ وقيل: إنما سمِّيت بذلك لاستمرار أهلها عليها، قاله أبو هلال العسكري كما تقدم.
3 ـ وقيل: إنما سمِّيت بذلك لتكرار ذلك عليهم، ذكر ذلك أبو هلال العسكري فقال: «وقيل: أصلها التكرار من قولك: طريق مليل إذا تكرر سلوكه حتى توطأ، ومنه الملل وهو تكرار الشيء على النفس حتى تضجر»[2].
[1] تفسير السمعاني (2/201).
[2] الفروق اللغوية (220).
1 ـ الملة الصحيحة:
والملة الصحيحة هي ملة الأنبياء عليهم السلام وهي: اسم لما شرعه الله لعباده عن طريق الأنبياء عليهم السلام؛ ليتوصلوا به إلى السعادة في الدنيا والآخرة، وملة الأنبياء هي التوحيد ومجانبة الشرك، قال الله تعالى عن يوسف عليه السلام: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ *} [يوسف] .
وأفضل الملل والشرائع ملة نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، قال ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى: {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [آل عمران: 95] ، قال: «أي: اتبعوا ملة إبراهيم التي شرعها الله في القرآن على لسان محمد صلّى الله عليه وسلّم وهي الطريقة التي لم يأت نبي بأكمل منها ولا أبين ولا أوضح ولا أتم»[1].
2 ـ الملة الباطلة:
والملة الباطلة: هي كل ملة خارجة عن ملة الأنبياء عليهم السلام، ويدخل في ذلك جميع ملل الكفر، قال تعالى: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [يوسف: 37] ، ومن أمثلة ذلك، الأديان الوثنية كالهندوسية، والبوذية وغيرهما، ويدخل في ذلك الأديان المحرفة كالنصرانية واليهودية.
المسائل المتعلقة:
المسألة الأولى: نسخ جميع الملل بدين الإسلام:
نسخ الله تعالى جميع ملل الأنبياء وأديانهم بملة محمد صلّى الله عليه وسلّم وهو دين الإسلام، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ *} [آل عمران] .
وقد بعث الله نبيّنا محمدًا صلّى الله عليه وسلّم للناس عامة، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ *} [سبأ] ، وقال تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] .
قال ابن كثير رحمه الله: «يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم: {قُلْ} يا محمد: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} وهذا خطاب للأحمر والأسود، والعربي والعجمي، {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} أي: جميعكم، وهذا من شرفه وعظمته أنه خاتم النبيين، وأنه مبعوث إلى الناس كافة، كما قال تعالى: {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] ، وقال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود: 17] ، وقال تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ} [آل عمران: 20] ، والآيات في هذا كثيرة، كما أن الأحاديث في هذا أكثر من أن تحصر، وهو معلوم من دين الإسلام ضرورة أنه صلوات الله وسلامه عليه رسول الله إلى الناس كلهم»[2].
المسألة الثانية: الدعوة إلى وحدة الملل والأديان:
هذه الدعوة، هي دعوة كفرية خبيثة، هدفها زعزعة المسلمين عن دينهم، وصدهم عن عقيدتهم.
وقد نشأت هذه الدعوة بين النصارى الغربيين، وتبناها مجلس الكنائس العالمي، واستجاب لها نفر قليل من المسلمين، ممن نشأ في بلاد الغرب وتربى على الثقافات الغربية[3].
وقد تصدى لهذه الدعوة كثير من العلماء، وبيَّنوا خطرها على المسلمين.
وتوالت الفتاوى من الهيئات الشرعية، والمجامع الفقهية في بيان حقيقتها، وحكم الدعوة إليها أو اعتقاد صحتها، فمن ذلك:
ما ورد في فتوى اللجنة الدائمة حول هذه الدعوة من قولهم: «إن الدعوة إلى وحدة الأديان، إن صدرت من مسلم فهي تعتبر ردة عن دين الإسلام؛ لأنها تصطدم مع أصول الاعتقاد، فترضى بالكفر بالله عزّ وجل، وتبطل صدق القرآن، ونسخه لجميع ما قبله من الكتب، وتبطل نسخ الإسلام لجميع ما قبله من الشرائع والأديان، وبناء على ذلك فهي فكرة مرفوضة شرعًا، محرمة قطعًا بجميع أدلة التشريع في الإسلام، من قرآن وسُنَّة وإجماع»[4].
وقال الشيخ بكر أبو زيد، في الرد على من ينادي بطبع القرآن الكريم، مع أسفار وإصحاحات اليهود والنصارى المحرفة: «كيف لا يستحي من المنتسبين إلى الإسلام من يدعو إلى طبع هذه الأسفار والإصحاحات المحرفة المفترى فيها، مع كتاب الله المعصوم (القرآن الكريم)؟ إن هذا من أعظم المحرمات، وأنكى الجنايات، ومن اعتقده صحيحًا فهو مرتد عن الإسلام»[5].
[1] تفسير ابن كثير (1/410) [دار المعرفة، ط1].
[2] تفسير ابن كثير (2/283).
[3] انظر: دعوة التقريب بين الأديان لأحمد القاضي [دار ابن الجوزي، ط1، 1422هـ].
[4] فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، رقم (19402)، وتاريخ: 25/1/1418هـ.
[5] الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان لبكر أبي زيد [دار العاصمة، ط1، 1417هـ].
ـ الفرق بين الملة والدين:
1 ـ أن الملة لا تضاف إلا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي تسند إليه، نحو قوله تعالى: {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 95] ، وقوله: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي} [يوسف: 38] ، ولا تكاد توجد مضافة إلى الله تعالى، ولا إلى آحاد أمة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلا يقال: ملة الله، ولا يقال: ملتي وملة زيد، بخلاف الدين فيقال: دين الله ودين زيد.
2 ـ لا تستعمل الملة إلا في جملة الشرائع دون آحادها، ولا يقال: الصلاة ملة الله، بخلاف الدين.
3 ـ تقال الملة اعتبارًا بالشيء الذي شرعه الله، وأما الدين فيقال اعتبارًا بمن يقيمه؛ إذ كان معناه الطاعة.
وهناك من العلماء من ذهب إلى أن الملة والدين في الأصل بمعنى واحد، لا سيما في إطلاق كلٍّ منهما على جملة الشريعة، سواء كانت باطلة أم صحيحة[1].
ـ الفرق بين الملة والنِّحلة:
المشهور عند علماء المِلل والنِّحَل، إطلاق لفظ (النِّحلة) على العقائد والآراء الباطلة التي تنتحلها بعض الفرق المنحرفة، فعلى هذا تكون الملة أعم من النحلة، حيث تطلق على الديانات سواء كانت صحيحة أو باطلة[2].
وذهب ابن حزم إلى إطلاق هذا اللفظ على معنى (الفرقة) سواء كانت معتقداتها وآرائها صحيحة أم منحرفة، وعلى هذا تكون النحلة مرادفة للملة، لكن القول الأول هو المشهور عند أهل هذا الفن وهو الأقرب في ذلك[3].
[1] انظر: الفروق اللغوية للعسكري (220)، والمفردات للراغب (773).
[2] انظر: علم الملل ومناهج العلماء فيه (19).
[3] انظر: الفصل لابن حزم (2/88) [مكتبة السلام].
1 ـ «الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان»، لبكر أبي زيد.
2 ـ «تفسير ابن كثير».
3 ـ «تفسير السمعاني».
4 ـ «الجامع لأحكام القرآن»، للقرطبي.
5 ـ «دعوة التقريب بين الأديان»، لأحمد القاضي.
6 ـ «علم الملل ومناهج العلماء فيه»، لأحمد جود.
7 ـ «الفروق اللغوية»، لأبي هلال العسكري.
8 ـ «كتاب التعريفات الاعتقادية»، لسعد آل عبد اللطيف. 9 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
10 ـ «مفردات ألفاظ القرآن»، للراغب الأصفهاني.