إثبات هذه الصفة مختلف فيه بين أهل العلم، كما سيأتي في نقل أقوالهم، «والذي يترجح في هذه المسألة ـ والله تعالى أعلم بالصواب ـ هو إثبات صفة الملل لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته، مع نفي توهم النقص في حقه تعالى، بأي وجه من الوجوه. فشأن هذه الصفة شأن بقية الصفات التي تثبت لله تعالى على وجه الكمال، وإن كانت في حق المخلوقين ليست كمالاً كالاستهزاء والمكر والخداع، ويكون المعنى: إن الله تعالى لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل، لكن لا يوصف الله تعالى بهذه الصفة على وجه الإطلاق، وإنما يوصف بها بالقيد المذكور في الحديث، فهو لا يمل إلا إذا ملوا، كما أنه لا يخدع إلا المخادعين، ولا يمكر إلا بالماكرين، ولا يستهزئ إلا بالمستهزئين، ولا يسخر إلا بالساخرين، فهذه الصفات لا يجوز أن يوصف الله تعالى بها على وجه الإطلاق»[1].
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة: «الواجب هو إمرار هذا الحديث كما جاء، مع الإيمان بالصفة، وأنها حق على الوجه الذي يليق بالله، من غير مشابهة لخلقه ولا تكييف؛ كالمكر والخداع والكيد الواردة في كتاب الله عزّ وجل، وكلها صفات حق تليق بالله سبحانه وتعالى على حد قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *} [الشورى] »[2].
[1] أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين (229، 230) [مكتبة دار المنهاج، الرياض، ط1، 1427هـ].
[2] فتاوى اللجنة الدائمة (2/403).
أ ـ ما كان بلفظ الملل: عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعندي امرأة، فقال: «من هذه؟» فقلت: امرأة، لا تنام، تصلي، قال: «عليكم من العمل ما تطيقون، فوالله لا يملّ الله حتى تملّوا»[1].
ب ـ ما كان بلفظ السآمة: عن عائشة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ أن الحولاء بنت تويت بن حبيب بن أسد بن عبد العزى مرت بها وعندها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: هذه الحولاء بنت تويت، وزعموا أنها لا تنام الليل. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تنام الليل! خذوا من العمل ما تطيقون، فوالله، لا يسأم الله حتى تسأموا»[2].
[1] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 43)، ومسلم (كتاب صلاة المسافرين وقصرها، رقم785)، واللفظ له.
[2] أخرجه مسلم في الموضع السابق نفسه.
أقوال أهل العلم في نسبة الملل إلى الله عزّ وجل ووصفه سبحانه به مختلفة، فمنهم من يرى أن هذه صفة من صفات الله تبارك وتعالى ، وفيما يلي ذكر أقوالهم:
قال ابن عبد البر: «وقد بلغني عن ابن القاسم أنه لم ير بأسًا برواية الحديث أن الله ضحك، وذلك لأن الضحك من الله والتنزُّل والملالة والتعجب منه ليس على جهة ما يكون من عباده»[1].
وقال محمد بن إبراهيم آل الشيخ: « «فإنَّ الله لا يَمَلُّ حتى تملُّوا» من نصوص الصفات، وهذا على وجه يليق بالباري، لا نقص فيه؛ كنصوص الاستهزاء والخداع فيما يتبادر»[2].
وقد سئل ابن عثيمين: هل نستطيع أن نثبت صفة الملل والهرولة لله تعالى؟ فأجاب: «جاء في الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قوله: «فإنَّ الله لا يَمَلُّ حتى تملوا».
فمن العلماء من قال: إنَّ هذا دليل على إثبات الملل لله، لكن ملل الله ليس كملل المخلوق؛ إذ إنَّ ملل المخلوق نقص؛ لأنه يدل على سأمه وضجره من هذا الشيء، أما ملل الله؛ فهو كمال وليس فيه نقص، ويجري هذا كسائر الصفات التي نثبتها لله على وجه الكمال وإن كانت في حق المخلوق ليست كمالاً.
ومن العلماء من يقول: إنَّ قوله: «لا يَمَلُّ حتى تملوا» ؛ يراد به بيان أنه مهما عملت من عمل؛ فإنَّ الله يجازيك عليه؛ فاعمل ما بدا لك؛ فإنَّ الله لا يمل من ثوابك حتى تمل من العمل، وعلى هذا، فيكون المراد بالملل لازم الملل.
ومنهم من قال: إنَّ هذا الحديث لا يدل على صفة الملل لله إطلاقًا؛ لأنَّ قول القائل: لا أقوم حتى تقوم؛ لا يستلزم قيام الثاني، وهذا أيضًا: «لا يمل حتى تملوا» ؛ لا يستلزم ثبوت الملل لله عزّ وجل.
وعلى كل حال يجب علينا أن نعتقد أنَّ الله تعالى مُنَزَّه عن كل صفة نقص من الملل وغيره، وإذا ثبت أنَّ هذا الحديث دليل على الملل؛ فالمراد به ملل ليس كملل المخلوق»[3].
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة: «الواجب هو إمرار هذا الحديث كما جاء، مع الإيمان بالصفة، وأنها حق على الوجه الذي يليق بالله، من غير مشابهة لخلقه ولا تكييف؛ كالمكر والخداع والكيد الواردة في كتاب الله عزّ وجل، وكلها صفات حق تليق بالله سبحانه وتعالى على حد قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *} [الشورى] »[4].
والقول الثاني: هو قول من يرى أن الله تبارك وتعالى لا يوصف بالملل، وأن الحديث ليس من أحاديث الصفات.
قال ابن قتيبة في الردِّ على من ينسب الملل إلى الله تعالى استدلالاً بهذا الحديث: «قالوا: رويتم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله تعالى لا يمل حتى تملوا» ، فجعلتم الله تعالى يمل إذا ملوا، والله تعالى لا يمل على كل حال ولا يكل. قال أبو محمد: ونحن نقول: إن التأويل لو كان على ما ذهبوا إليه كان عظيمًا من الخطأ فاحشًا، ولكنه أراد فإن الله سبحانه لا يمل إذا مللتم، ومثال هذا قولك في الكلام: هذا الفرس لا يفتر حتى تفتر الخيل، لا تريد بذلك أنه يفتر إذا فترت، ولو كان هذا هو المراد ما كان له فضل عليها؛ لأنه يفتر معها فأية فضيلة له، وإنما تريد أنه لا يفتر إذا فترت، وكذلك تقول في الرجل البليغ في كلامه والمكثار الغزير: فلان لا ينقطع حتى تنقطع خصومه، تريد: أنه لا ينقطع إذا انقطعوا، ولو أردت أنه ينقطع إذا انقطعوا لم يكن له في هذا القول فضل على غيره، ولا وجبت له به مدحة، وقد جاء مثل هذا بعينه في الشعر المنسوب إلى ابن أخت تأبط شرًّا، ويقال: إنه لخلف الأحمر:
صَلِيت منّي هذيلٌ بخِرقٍ
لا يملّ الشرَّ حتّى يملّوا
لم يرد أنه يمل الشر إذا ملوه، ولو أراد ذلك ما كان فيه مدح له؛ لأنه بمنزلتهم، وإنما أراد أنهم يملون الشر وهو لا يمله»[5].
وقال ابن عبد البر: «قوله: «إن الله لا يمل حتى تملوا» فلفظ مخرَّج على مثال لفظ، ومعلوم أن الله عزّ وجل لا يمل، سواء مل الناس أو لم يملوا، ولا يدخله ملال في شيء من الأشياء، جلَّ وتعالى علوًّا كبيرًا، وإنما جاء لفظ هذا الحديث على المعروف من لغة العرب، بأنهم كانوا إذا وضعوا لفظًا بإزاء لفظ وقبالته، جوابًا له وجزاءً ذكروه بمثل لفظه، وإن كان مخالفًا له في معناه، ألا ترى إلى قوله عزّ وجل: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ، والجزاء لا يكون سيئة، والقصاص لا يكون اعتداء؛ لأنه حق وجب، وكذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله لا يمل حتى تملوا» ؛ أي: إن من ملَّ من عمل يعمله قطع عنه جزاؤه، فأخرج لفظ قطع الجزاء بلفظ الملال؛ إذ كان بحذائه وجوابًا له»[6].
وقال ابن رجب: «الملل والسآمة للعمل يوجب قطعه وتركه، فإذا سأم العبد من العمل ومله قطعه وتركه فقطع الله عنه ثواب ذلك العمل؛ فإن العبد إنما يجازى بعمله، فمن ترك عمله انقطع عنه ثوابه وأجره إذا كان قطعه لغير عذر من مرض أو سفر أو هرم، وسمي هذا المنع من الله مللاً وسآمة مقابلة للعبد على مَلَلهِ وسآمته، كما قال تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] فسمى إهمالهم وتركهم نسيانًا مقابلة لنسيانهم له. هذا أظهر ما قيل في هذا»[7].
[1] التمهيد (7/152) [وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المملكة المغربية، 1399هـ].
[2] الفتاوى والرسائل (1/209).
[3] مجموعة دروس وفتاوى الحرم المكي (1/152) [دار اليقين، المنصورة، ودار طيبة الرياض].
[4] فتاوى اللجنة الدائمة (2/403).
[5] تأويل مختلف الحديث (486، 487) [المكتب الإسلامي، بيروت، ومؤسسة الإشراق، الدوحة، ط2، 1419هـ].
[6] التمهيد (1/195، 196).
[7] فتح الباري لابن رجب (1/151، 152) [دار ابن الجوزي، الدمام، ط2، 1422هـ].
1 ـ «إبطال التأويلات لأخبار الصفات» (ج2)، للقاضي أبي يعلى الفراء.
2 ـ «أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين»، لسليمان بن محمد الدبيخي.
3 ـ «تأويل مختلف الحديث»، لابن قتيبة.
4 ـ «التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد» (ج7)، لابن عبد البر.
5 ـ «صفات الله عزّ وجل الواردة في الكتاب والسُّنَّة»، لعلوي بن عبد القادر السقاف.
6 ـ «فتاوى ورسائل» (ج1)، لمحمد بن إبراهيم آل الشيخ.
7 ـ «فتح الباري» (ج1)، لابن رجب.
8 ـ «مجموعة دروس وفتاوى الحرم المكي» (ج1)، لابن عثيمين.
9 ـ «معجم ألفاظ العقيدة»، لعالم عبد الله فالح.
10 ـ «النفي في باب صفات الله عزّ وجل بين أهل السُّنَّة والجماعة والمعطلة»، لأرزقي بن محمد سعيداني.