حرف الميم / المَنَّان

           

قال ابن فارس: «الميم والنون أصلان ؛ أحدهما: يدل على قطع وانقطاع، والآخر: على اصطناع خير... تقول: مَنَّ يَمُنُّ مَنًّا؛ إذا صنع صُنْعًا جميلاً، ومن الباب المنّة، وهي القوة التي بها قوام الإنسان»[1].
والمَنَّان : (فعّال) من صيغ المبالغة، مأخوذ من المَنِّ الدال الصنع الجميل، يقال: مَنَّ يَمُنُّ منًّا فهو مانّ، ومنّان، إذا صنع صنعًا جميلاً، والمنّة: النّعمة الثقيلة، ويقال ذلك على وجهين ؛ أحدهما: أن يكون ذلك بالفعل، فيقال: منَّ فلان على فلان؛ إذا أثقله بالنعمة، وعلى ذلك قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 164] ، ونحوها، وذلك على الحقيقة لا يكون إلا لله تعالى. والثاني: أن يكون ذلك بالقول، وذلك مستقبح فيما بين الناس إلا عند كفران النعمة، ولقبح ذلك قيل: المنّة تهدم الصنيعة، ومنه: الامتنان؛ إذا امتنّ عليه، آذاه بمنه[2].


[1] مقاييس اللغة (2/485) [دار الكتب العلمية، 1420هـ].
[2] انظر: تهذيب اللغة (15/471، 472) [الدار المصرية، ط1، 1387هـ]، ومقاييس اللغة (962) [دار الفكر، ط2، 1418هـ]، والصحاح (6/2207) [دار العلم للملايين، ط4، 1990م]، ومفردات ألفاظ القرآن (777، 778) [دار القلم، ط2، 1418هـ]، والمعجم الوسيط (2/888، 889) [دار الدعوة، ط2، 1972م].


المنَّان : اسم الله عزّ وجل الدالِّ على عظيم عطائه وإنعامه على خلقه تفضلاً وكرمًا بلا فائدة تعود عليه، ولا جزاء من خلقه يرجوه؛ بل هو الجود والإحسان والكرم، فقد أنعم فأجزل وأسنى النعم، وأكثر العطايا والمنح، يبتدئ بالنوال قبل السؤال[1].


[1] انظر: المنهاج في شعب الإيمان (1/203) [دار الفكر، ط1، 1399هـ]، والأسماء والصفات (1/171) [مكتبة السوادي، ط1، 1413هـ].


يجب الإيمان بهذا الاسم: المنان، وما تضمنه من الصفة: المن؛ لدلالة القرآن والحديث عليها، ويجب إثبات ذلك لله تعالى كما يليق بجلاله وكبريائه وعظمته سبحانه، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تمثيل.



اسم المنان يدور حول معنيين:
الأول: العطاء دون عوض.
الثاني: التفاخر بالعطية من المعطي وتعديد ما صنعه.
وكلا المعنيين مما يصح إطلاقه في حق الله عزّ وجل، قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *} [الحُجُرات] ، فإن الله عزّ وجل لما كان هو الذي يدرّ العطاء على عباده منًّا عليهم بذلك وتفضلاً كانت له المنة في ذلك، وهو أمر مشهود للخليقة كلها، برّها وفاجرها من جزيل مواهبه، وسعة عطاياه وكريم أياديه، وجميل صنائعه، وسعة رحمته، وبره ولطفه، وإجابته لدعوات المضطرين، وكشف كربات المكروبين، وإغاثة الملهوفين، ودفع المحن والبلايا بعد انعقاد أسبابها، وصرفها بعد وقوعها، ولطفه تعالى في ذلك إلى ما لا تبلغه الآمال.
وقد حظر الله على عباده المنّ بالصنيعة واختص به صفة لنفسه؛ وذلك لعدة أمور:
ـ أن منَّ العباد تكدير وتعيير، ومنّ الله سبحانه وتعالى إفضال وتذكير.
ـ أن الله هو المنعم في نفس الأمر والعباد وسائط، فهو المنعم على عبده في الحقيقة.
ـ الامتنان استعباد وكسر وإذلال لمن يمن عليه، ولا تصلح العبودية والذل إلا لله.
ـ أن المنّة أن يشهد المعطي أنه هو رب الفضل والإنعام وأنه ولي النعمة ومسديها، وليس ذلك في الحقيقة إلا لله.
ـ أن المانّ بعطائه يشهد نفسه مترفعًا على الآخذ مستعليًا عليه، غنيًّا عنه عزيزًا، ويشهد ذل الآخذ وحاجته إليه وفاقته، ولا ينبغي ذلك للعبد.
ـ أن المعطي قد تولى الله ثوابه ورد عليه أضعاف ما أعطى، فبقي عوض ما أعطى عند الله، فأي حق بقي له على الآخذ، فإذا امتنّ عليه فقد ظلمه ظلمًا بينًا؛ لأنه قد أخذ حقه من قبل الله عزّ وجل، ومن هنا ـ والله أعلم ـ بطلت صدقته بالمنّ؛ فإنه لما كانت معاوضته ومعاملته مع الله وعوض تلك الصدقة عنده، فلم يرض المان بصدقته بذلك العوض، ولاحظ العوض من الآخذ، فمنَّ عليه بما أعطاه، فأبطل معاوضته مع الله ومعاملته له[1].


[1] انظر: اشتقاق أسماء الله (164)، وطريق الهجرتين (541) [دار ابن القيم، ط2، 1414هـ]، والأسنى في شرح أسماء الله الحسنى (1/259، 260) [دار الصحابة، ط1]، وفقه الأسماء الحسنى (299) [دار التوحيد، ط1، 1429هـ].


الأدلة على صفة المن كثيرة؛ منها: قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11] وقوله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *} [الحجرات] ، وقوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164] ، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ *} [الصافات] .
وعن عبد الله بن زيد بن عاصم قال: لما أفاء الله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم، ولم يعط الأنصار شيئًا، فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس، فخطبهم فقال: «يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضُلاّلاً فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألَّفكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟» كلما قال شيئًا قالوا: الله ورسوله أَمَنُّ. قال: «ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟» قال: كلما قال شيئًا قالوا: الله ورسوله أَمَنُّ. الحديث[1].
وعن أنس رضي الله عنه؛ أنه كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالسًا ورجل يصلي، ثم دعا: اللَّهُمَّ إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى»[2].


[1] أخرجه البخاري (كتاب المغازي، رقم 4330)، ومسلم (كتاب الزكاة، رقم 1061).
[2] أخرجه أبو داود (كتاب الصلاة، رقم 1495)، والترمذي (أبواب الدعوات، رقم 3544)، والنسائي (كتاب السهو، رقم 1300)، وابن ماجه (كتاب الدعاء، رقم 3858)، وابن حبان (كتاب الرقائق، رقم 893)، والحاكم (كتاب الدعاء، رقم 1856) وصححه، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (5/233) [مؤسسة غراس، ط1، 1423هـ].


قال ابن الأثير: «في أسماء الله تعالى (المنان) هو المنعم المعطي، من المن: العطاء لا من المنة، وكثيرًا ما يرد المن في كلامهم بمعنى الإحسان إلى من لا يستثيبه ولا يطلب الجزاء عليه، فالمنان من أبنية المبالغة كالوهاب»[1].
وقال ابن القيم معلقًا على حديث أنس السابق: «فهذا سؤال له وتوسل إليه وبحمده، وأنه الذي لا إله إلا هو المنان، فهو توسل إليه بأسمائه وصفاته، وما أحق ذلك بالإجابة وأعظمه موقعًا عند المسؤول، وهذا باب عظيم من أبواب التوحيد»[2].
وقال السفاريني: «ومن أسمائه المنان، وهو المنعم المعطي، من المن وهو العطاء»[3].


[1] النهاية في غريب الحديث والأثر (4/365) [المكتبة العلمية، بيروت].
[2] بدائع الفوائد (1/282) [دار عالم الفوائد، ط1].
[3] لوامع الأنوار البهية (2/257).


من عرف ربه سبحانه بهذا الاسم العظيم وأنه وحده وليّ المن والعطاء، صاحب الهبة والنعماء، أوجب له ذلك أن يحمد ربه على نعمائه، وأن يشكره على فضله وعطائه، {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} [الأحقاف: 15] .
وقد أمر الله عباده بالشكر ونهاهم عن ضده، وأثنى على عباده الشاكرين، ووعدهم بأحسن الجزاء، وجعل الشكر سببًا لمزيد الفضل والعطاء، وحارسًا وحافظًا للهبة والنعماء: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأََزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ *} [إبراهيم] ، وأوجب له كذلك ألا يستعمل نعمة الله ومنَّته سبحانه في معصيته، وألا يضيف النعمة إلا إلى المنعم وحده، وهو الله لا شريك له، خلاف من قال عنهم: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ *} [النحل] ؛ أي: بإضافة النعمة إلى غير المنعم»[1].


[1] فقه الأسماء الحسنى (299 ـ 301). وانظر: النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى (3/85 ـ 88) [مكتبة الذهبي، ط2، 1417هـ].


1 ـ «الأسماء والصفات»، للبيهقي.
2 ـ «الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى»، للقرطبي.
3 ـ «بدائع الفوائد» (ج1)، لابن القيم.
4 ـ «الحجة في بيان المحجة»، للأصبهاني.
5 ـ «شأن الدعاء»، للخطابي.
6 ـ «طريق الهجرتين وباب السعادتين»، لابن القيم.
7 ـ «فقه أسماء الله الحسنى»، لعبد الرزاق البدر.
8 ـ «معتقد أهل السُّنَّة والجماعة في أسماء الله الحسنى»، للتميمي.
9 ـ «النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى»، لحمود النجدي.
10 ـ «أسماء الله الحسنى: جلالها ولطائف اقترانها وثمراتها في ضوء الكتاب والسُّنَّة»، لماهر مقدم.