ذهاب القوة من الشيء، قال ابن فارس: «الميم والواو والتاء أصل صحيح يدل على ذهاب القوة من الشيء، ومنه الموت خلاف الحياة»[1].
فالموت إذن: ضد الحياة وخلافها[2].
[1] انظر: معجم مقاييس اللغه (5/283) [دار الجيل، ط2، 1420هـ].
[2] انظر: القاموس المحيط للفيروزآبادي (206)، والمصباح المنير للفيومي (2/584) [دار الكتب العلمية].
الموت، والحتف، والمنون، والسام، والحِمام، والرَّدى، والحين، والوفاة، والهلاك[1]، ويسمَّى: الساعة الصغرى، والقيامة الصغرى[2].
[1] انظر: الألفاظ المختلفة في المعاني المؤتلفة (1/232) [دار الجيل، ط1، 1411هـ]، ومقاييس اللغة (2/135) [دار الجيل، ط2، 1420هـ]، وتهذيب اللغة (4/257) [دار إحياء التراث العربي، ط1، 2001م].
[2] انظر: إحياء علوم الدين (4/64) [دار المعرفة]، وتفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان (6/404) [دار الكتب العلمية، ط1، 1416هـ]، ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (9/533) [دار الكتب العلمية، ط1، 1422هـ]، وروح المعاني (7/141) [دار إحياء التراث العربي].
الاعتقاد الجازم بأن الموت أمر وجودي يقابل الحياة، واعتقاد أن الموت الشرعي مفارقة الروح الجسد مع بقائها بعده، وأنها لا تفنى ولا تبلى بفنائه، والتصديق بكل ما جاءت به النصوص من الأمور المتعلقة به.
قال القرطبي: «قال العلماء: الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته، وحيلولة بينهما، وتبدل حال وانتقال من دار إلى دار، والحياة عكس ذلك»[1].
وقال الحافظ ابن حجر: «ولا يلزم من قبض الروح الموت، فالموت انقطاع تعلق الروح بالبدن ظاهرًا وباطنًا، والنوم انقطاعه عن ظاهره فقط»[2].
[1] الجامع لأحكام القرآن (7/377) [دار الشعب].
[2] فتح الباري (2/67) [دار المعرفة].
دلَّ على الموت كأمر وجودي مخلوق قول الحق تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ *} [الملك] .
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد: يا أهل الجنة...، فيذبح» الحديث[1]، والناس يعرفونه يوم القيامة، وموطن ذبحه الصراط؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «يؤتى بالموت يوم القيامة فيوقف على الصراط، فيقال: يا أهل الجنة، فيطلعون خائفين وجلين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه، فيقال: هل تعرفون هذا؟ قالوا: نعم ربنا، هذا الموت، ثم يقال: يا أهل النار، فيطلعون فرحين مستبشرين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه، فيقال: هل تعرفون هذا؟ قالوا: نعم، هذا الموت، فيؤمر به فيذبح على الصراط، ثم يقال للفريقين كليهما: خلود فيما تجدون لا موت فيه أبدًا»[2].
وفي الموت الذي تفارق فيه الروح الجسد قال تعالى: {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} [البقرة: 259] ، وقال تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ *} [عبس] .
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «اللَّهُمَّ من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان»[3].
وفي الموت الذي هو بمعنى النوم قال صلّى الله عليه وسلّم: «الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور»[4].
وقد جاء الجمع بين الموتتين في قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ *} [الزمر] .
وفي قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أوى أحدكم إلى فراشه... ثم يقول: باسمك ربِّ وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين»[5].
فالإمساك في الموتة الكبرى والإرسال في الصغرى.
[1] أخرجه البخاري (كتاب تفسير القرآن، رقم 4730)، ومسلم (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم 2849).
[2] أخرجه ابن ماجه (كتاب الزهد، رقم 4327)، وأحمد (3/77) [دار الكتاب العربي، 1407هـ]، وجوَّد المنذري إسناده في الترغيب والترهيب (4/317) [دار الكتب العلمية، ط1]، وأورده الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (3/407) [مكتبة المعارف، ط1، 1417هـ] وقال: «حسن صحيح».
[3] أخرجه أبو داود (كتاب الجنائز، رقم 3201)، والترمذي (أبواب الجنائز، رقم 1024)، وابن ماجه (كتاب الجنائز، رقم 1498)، وأحمد (14/406) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والحاكم (كتاب الجنائز، رقم 1326) وصححه، وصححه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح (1/527) [المكتب الإسلامي، ط3، 1405هـ].
[4] أخرجه البخاري (كتاب الدعوات، رقم 6312).
[5] أخرجه البخاري (كتاب الدعوات، رقم 6320)، ومسلم (كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، رقم 2714).
ينقسم الموت باعتبار مفارقة الروح الجسد إلى قسمين:
الأول: موت كلي : وهو الوفاة الكبرى التي تفارق فيه الروح الجسد وتنفصل عنه بالكلية فيما نسميه الموت.
والثاني: موت جزئي : وهو الوفاة الصغرى التي تفارق فيه الروح الجسد وتنفصل عنه انفصالاً جزئيًّا فيما نسميه النوم وما أشبه ذلك.
وعليه فحقيقة الموت هنا، مفارقة الروح الجسد كليًّا بالموت أو جزئيًّا بالنوم[1].
[1] انظر: موسوعة الروح (1/116).
المسألة الأولى: الموت مخلوق وجودي يذبح يوم القيامة بعد استقرار أهل الدارين في داريهما.
قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ *} [الملك] ، قال ابن كثير: «استدل بهذه الآية من قال: إن الموت أمر وجودي؛ لأنه مخلوق»[1].
وتقدم أنه يؤتى به يوم القيامة على صورة كبش ويذبح.
وقد فسَّر الفزع الأكبر في قوله تعالى: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} [الأنبياء: 103] بتفاسير؛ أحدها: أنه ساعة ذبح الموت[2].
وكذا فسر يوم الحسرة في قوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ *} [مريم] ، بأنه ساعة ذبح الموت على رأي الجمهور[3].
المسألة الثانية: هل الموت للروح والبدن؟
ذكر بعض أهل العلم أن الموت للروح والبدن سواء، وذهب آخرون إلى أن الموت للبدن والروح باقية، وذكر ابن القيم رحمه الله: أن موت النفوس إن أريد به مفارقتها لأجسادها وخروجها منه، فالأرواح ذائقة الموت، وإن أريد أن الروح تعدم وتضمحل وتصير عدمًا محضًا فهي لا تموت بهذا الاعتبار، بل هي باقية في البرزخ إما في نعيم وإما في عذاب[4].
ومما يدل على ذلك كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أحدكم إذا مات عُرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيُقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة»[5].
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما نسمة المسلم طير تعلق[6] في شجر الجنة، حتى يرجعها الله عزّ وجل إلى جسده يوم القيامة»[7].
قال ابن تيمية: «الذي عليه الأنبياء وأتباعهم وجمهور العقلاء أن الروح تفارق البدن وتبقى بعد فراق البدن»[8] في مقرها المعد لها.
أما الجسد فيفنى بالموت ويبلى إلا عَجْب الذَّنَب؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس من الإنسان شيء إلا يبلى، إلا عظمًا واحدًا وهو عَجْب الذَّنَب، ومنه يركّب الخلق يوم القيامة» [9]، ويستثنى من ذلك أجساد الأنبياء لورود النص بأن أجسادهم محرمة على الأرض، كما في الحديث: «أكثروا عليّ من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة؛ فإن صلاتكم معروضة علي» . قالوا: كيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرِمت؟ أي: بليت. فقال: «إن الله تعالى حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء»[10].
المسألة الثالثة: علامات الموت:
جعل الفقهاء للموت علامات يعرف بها، ومنها: انقطاع نفس الميت، وانخساف صدغيه، وميل أنفه، وامتداد جلدة وجهه، وانفصال كفيه، واسترخاء رجليه[11].
المسألة الرابعة: الموت علامة انتهاء الأجل:
لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً} [آل عمران: 145] ، قال ابن كثير: «أي: لا يموت أحد إلا بقدر الله، وحتى يستوفي المدة التي ضربها الله له»[12].
وقال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ *} [الزمر] .
وقال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ *} [النحل] .
فكل من مات فموته بسبب انتهاء أجله ليس غير.
والآيات الآنفة تبطل زعم المعتزلة أن الأجل يتقدم ويتأخر، وأن من قتل فإنما يهلك قبل أجله، وكذلك كلما ذبح من الحيوان كان هلاكه قبل أجله؛ لأنه يجب على القاتل الضمان والدية[13].
المسألة الخامسة: كراهة الموت فطرية:
فإنه لما قال صلّى الله عليه وسلّم: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» . قالت عائشة أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت، قال: «ليس ذاك، ولكنَّ المؤمن إذا حضره الموت بُشِّر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضر بُشِّر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه، فكره لقاء الله وكره الله لقاءه»[14].
والمؤمن غالبًا لا يكره الموت إلا خوفًا من تقصير يؤاخذ به، أو طمعًا في خير يزداد منه، ومثل هذا يعذر صاحبه، بخلاف من كرهه لأجل متع الحياة وإيثارها على نعيم الآخرة فمذموم، قال التبريزي: «من كره الموت إيثارًا للحياة على ما بعد الموت من نعيم الآخرة كان مذمومًا، ومن كرهه خشية أن يفضي إلى المؤاخذة، كأن يكون مقصرًا في العمل لم يستعد له بالأهبة بأن يتخلص من التبعات، ويقوم بأمر الله كما يجب، فهو معذور، لكن ينبغي لمن وجد ذلك أن يبادر إلى أخذ الأهبة، حتى إذا حضره الموت لا يكرهه؛ بل يحبه لما يرجو بعده من لقاء الله»[15].
المسألة السادسة: تمني الموت يجوز في حال دون حال:
فيجوز تمني الموت في حال خوف الفتنة؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «اللَّهُمَّ إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون»[16].
ويدخل في ذلك: الخوف من الفتنة الدينية، ومثله ما جاء في تمني مريم عليها السلام الموت خوف قذفها بالفاحشة.
كما يجوز تمني الموت شهيدًا؛ لحديث: «من سأل الله الشهادة بصدق، بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه»[17].
ولا يجوز تمني الموت في حال الضر؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بدَّ متمنيًا فليقل: اللَّهُمَّ أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي» [18]، لما في ذلك من منافاة للصبر والرضا بالقدر.
وأما قول يوسف عليه السلام: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ *} [يوسف] ، فليس فيه تمني الموت؛ وإنما هو دعاء بالموت على الإسلام، لا بمطلق الموت ولا الموت الآن[19].
ومثله قول السحرة بعد أن آمنوا لمّا أرادهم فرعون عن دينهم وهددهم بالقتل: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ *} [الأعراف] .
المسألة السابعة: الاحتضار:
الاحتضار : هو الساعة التي يكون فيها العبد في إقبال من الآخرة وإدبار من الدنيا، وهو وقت حضور الموت، وقرب مفارقة الروح البدن.
وهو أحد مفردات الإيمان باليوم الآخر، التي تسبق الموت، وفيه تكون السكرات، والبشارات، وحضور الملائكة الموكلة باستلام الروح قبل نزعها.
وقد دلَّت النصوص الكثيرة عليه؛ منها: قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ *لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ *} [المؤمنون] .
وهذا «حين تنقطع الدنيا، ويعاين الآخرة، قبل أن يذوق الموت»[20].
وقد دلَّت السُّنَّة على ذلك، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر. وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر»[21].
المسألة الثامنة: أقسام الناس عند الاحتضار وتمايزهم في قبض الروح وخروجها:
جاء تقسيم الناس عند الاحتضار كما في آخر سورة الواقعة إلى ثلاثة أقسام: مقرَّبين، وأصحاب يمين، ومكذَّبين ضالين، كما قال تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ *فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ *وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ *فَسَلاَمٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ *وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّآلِّينَ *فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ *} [الواقعة] .
قال ابن سعدي: «ذكر الله تعالى أحوال الطوائف الثلاث: المقربين، وأصحاب اليمين، والمكذبين الضالين في أول السورة في دار القرار، ثم ذكر أحوالهم في آخرها، عند الاحتضار والموت»[22]، ثم ساق الآيات بتفسيرها.
وعليه؛ فيختلف قبض الأرواح وانتزاعها، وكيفية خروجها، وما ينالها بعد ذلك.
قال صلّى الله عليه وسلّم: «نفس المؤمن تخرج رشحًا، ونفس الكافر تخرج من شدقه كما تخرج نفس الحمار»[23].
وقد جاءت السُّنَّة بالتفريق بين نزع روح المؤمن وروح الكافر وما يعقب ذلك، كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ العبد المؤمن إذا كان في انقطاعٍ من الدّنيا وإقبالٍ من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السّماء بيض الوجوه، كأنّ وجوههم الشّمس، معهم كفن من أكفان الجنّة، وحنوط من حنوط الجنّة، حتّى يجلسوا منه مدّ البصر، ثمّ يجيء ملك الموت عليه السلام حتّى يجلس عند رأسه، فيقول: أيّتها النّفس الطّيّبة، اخرجي إلى مغفرةٍ من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السّقاء. وإنّ العبد الكافر، إذا كان في انقطاع من الدّنيا، وإقبالٍ من الآخرة، نزل إليه من السّماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مدّ البصر، ثمّ يجيء ملك الموت، حتّى يجلس عند رأسه، فيقول: أيّتها النّفس الخبيثة اخرجي إلى سخطٍ من الله وغضب، قال: فتفرّق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السّفّود من الصّوف المبلول»[24].
المسألة التاسعة: إحسان الظن بالله تعالى عند الاحتضار، وسؤال المغفرة والرحمة:
يتفكر المحتضر في سعة رحمة الله ومغفرته وعفوه؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عزّ وجل» [25]، ففيه تغليب جانب الرجاء.
وفي هذا تحذير من القنوط، وحث على الرجاء عند الخاتمة، وقد جاء في الحديث الآخر قوله سبحانه وتعالى: «أنا عند ظن عبدي بي» [26]، قال العلماء: معنى «حسن الظن بالله تعالى: أن يظن أنه يرحمه ويعفو عنه.
قالوا: وفي حالة الصحة يكون خائفًا راجيًا، ويكونان سواء، وقيل: يكون الخوف أرجح، فإذا دنت أمارات الموت غلب الرجاء أو محضه؛ لأن مقصود الخوف: الانكفاف عن المعاصي والقبائح، والحرص على الإكثار من الطاعات والأعمال، وقد تعذر ذلك أو معظمه في هذا الحال، فاستحب إحسان الظن المتضمن للافتقار إلى الله تعالى، والإذعان له[27].
ولا منافاة بين الحديث الآنف وحديث امتزاج الرجاء بالخوف الذي رواه أنس وفيه قال: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل على شاب وهو بالموت، فقال: «كيف تجدك؟» قال: والله يا رسول الله إني أرجو الله، وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن، إلا أعطاه الله ما يرجو، وأمنه مما يخاف»»[28].
فإن الحديث الأول فيه الحث الأكيد على إحسان الظن بالربِّ تعالى عند الموت، وهو يتضمن تغليب جانب الرجاء على الخوف عند الاحتضار، والله أعلم.
وقد استحسن بعض العلماء أن يُذكَّر المريض بسعة رحمة الله ولطفه وبرّه، ليحسن ظنه بربه؛ وكذا تلقينه محاسن عمله عند موته، لكي يحسن ظنه بربه[29]، كما فعل ابن عباس مع عائشة رضي الله عنهم عند موتها[30].
ومن إحسان الظن بالله تعالى عند الاحتضار الدعاء بالمغفرة والرحمة تأسيًا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، فإنه كان يقول في ساعة الاحتضار: «اللَّهُمَّ اغفر لي، وارحمني، وألحقني بالرفيق»[31].
المسألة العاشرة: تقبل توبة المحتضر ما لم يغرغر:
لقوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا *} [النساء] .
والتوبة من قريب هي التوبة قبل حضور الموت أي قبل الغرغرة[32]، وسيأتي التفريق بين الغرغرة والاحتضار.
ويمكن القول: إن الغرغرة تكون آخر وقت الاحتضار بعد رؤية الملك وانتزاعه الروح، وفي الحديث: «إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» [33]؛ أي: ما لم تبلغ روحه حلقومه[34].
ويدلُّ على قبول التوبة حال الاحتضار وقبل المعاينة والنزع: ما ثبت في «الصحيحين» من دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم عمه أبا طالب إلى التوحيد وهو في حال الاحتضار[35]، قال ابن مفلح مفسرًا لحضور الوفاة: «المراد: قربت وفاته وحضرت دلائلها، وذلك قبل المعاينة والنزع، ولو كان في حال المعاينة والنزع لما نفعه الإيمان؛ لقوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [النساء: 18] ، ويدل على أنه قبل المعاينة محاورته للنبي صلّى الله عليه وسلّم مع كفار قريش»[36].
ولما ثبت في «الصحيحين» من دعوته صلّى الله عليه وسلّم للغلام اليهودي ـ الذي عاده في مرض موته ـ إلى التوحيد[37]، فأسلم ومات عليه، فكان من الناجين، ومن الصحابة المرضيين.
أما ساعة معاينة ملك الموت ونزع الروح فإن التوبة لا تقبل؛ للحديث المتقدم في الغرغرة؛ ولقوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [النساء: 18] ، فهذا هو المعاين الذي لا تقبل توبته؛ كتوبة فرعون لما رأى الملائكة وأدركه الغرق قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ *} [يونس] ، فكان الجواب: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ *} [يونس] .
فالتوبة مبسوطة للعبد حتى يعاين قابض الأرواح، وذلك عند غرغرته بالروح، وإنما يغرغر به إذا قطع الوتين، فشخص من الصدر إلى الحلقوم، فعندها المعاينة، وعندها حضور الموت، فيجب على الإنسان أن يتوب قبل المعاينة والغرغرة، وهو معنى قوله تعالى: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء: 17] [38].
المسألة الحادية عشرة: تمني الكافر والمفرط استئناف الحياة عند الاحتضار:
وذلك لإصلاح ما قد أفسد؛ لأنه في تلك الساعة ينكشف له الغطاء عما ينتظره من عذاب؛ لسوء عمله، فيحاول تدارك ذلك بالعودة إلى الحياة مرة ثانية، وإعادة التجربة مرة أخرى، ولكن هيهات، فقد فات الآوان، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ *لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ *} [المؤمنزن] .
قال ابن كثير مفسرًا: «يخبر تعالى عن حال المحتضر عند الموت من الكافرين أو المفرطين في أمر الله تعالى، وقيلهم عند ذلك، وسؤالهم الرجعة إلى الدنيا؛ ليصلح ما كان أفسده في مدة حياته»[39].
المسألة الثانية عشرة: سكرات الموت عامة، وهي على الكفار والعصاة أشد:
سكرات الموت كرباته وغمراته وشدته نتيجة الألم، وهي عامة للمؤمن والكافر.
وقد ذكر الحق تعالى السكرات في قوله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ *} [ق] .
وهي المرادة بقوله تعالى في الغشي: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً *أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا *} [الأحزاب] .
والذي يغشى عليه من الموت، هو المحتضر يغمى عليه لما يعاني من سكرات الموت[40].
وفي «صحيح البخاري» أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء، فيمسح بهما وجهه، ويقول: «لا إله إلا الله، إن للموت سكرات» ثم نصب يده، فجعل يقول: «في الرفيق الأعلى» حتى قبض، ومالت يده، قال أبو عبد الله: العلبة من الخشب والركوة من الأدم[41].
وقد تقدم ذكر الفرق والاختلاف بين المؤمن والكافر حال الاحتضار والبشارة ونزع الروح، وكون الكافر يكون أكثر ألمًا، وقد وصف القرآن الكريم حال الظالمين في السكرات وشدة الملائكة عليهم، فقال: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ *} [الأنعام] .
وإن كانت المعاناة عامة ومتفاوتة المقدار، إلا أن الشهيد يخفف عليه كما دلَّ عليه ظاهر قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الشهيد لا يجد ألم القتل إلا كما يجد أحدكم ألم القرصة»[42].
المسألة الثالثة عشرة: قول الخير عند المحتضر والدعاء له بالمغفرة إذا قبض:
عن أم سلمة رضي الله عنها مرفوعًا: «إذا حضرتم الميت فقولوا خيرًا، فإن الملائكة تؤمن على ما تقولون» ، قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: يا رسول الله ما أقول؟ قال: «قولي: اللَّهُمَّ اغفر له، وأعقبنا عقبى صالحة» ، قالت: فأعقبني الله محمدًا صلّى الله عليه وسلّم[43].
المسألة الرابعة عشرة: عرض الإسلام على المُحتَضَر الكافر:
فعن سعيد بن المسيب، عن أبيه، قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم وعنده أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أي عم، قل: لا إله إلا الله، أحاج لك بها عند الله» ، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك» ، فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ *} [التوبة] [44].
وعن أنس رضي الله عنه قال: كان غلام يهودي يخدم النبي صلّى الله عليه وسلّم فمرض، فأتاه النبي صلّى الله عليه وسلّم يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: «أسلم» فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم صلّى الله عليه وسلّم، فأسلم، فخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول: «الحمد لله الذي أنقذه من النار»[45].
المسألة الخامسة عشرة: التلقين المشروع للميت يكون وقت الاحتضار:
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله»[46] . قال النووي: «معناه: من حضره الموت، والمراد: ذكِّروه لا إله إلا الله؛ لتكون آخر كلامه كما في الحديث: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة»[47]»[48].
وهل الأمر بالتلقين للاستحباب أم للوجوب؟ وهل يكرر على المحتضَر؟
ذكر بعض أهل العلم أن الأمر بهذا التلقين أمر ندب، وأجمع العلماء على هذا التلقين، وكرهوا الإكثار عليه والموالاة؛ لئلا يضجر بضيق حاله وشدة كربه؛ فيكره ذلك بقلبه ويتكلم بما لا يليق، قالوا: وإذا قاله مرة لا يكرر عليه إلا أن يتكلم بعده بكلام آخر، فيعاد التعريض به؛ ليكون آخر كلامه[49].
المسألة السادسة عشرة: التخيير بتأخير الموت عند الاحتضار خاص بالأنبياء:
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من نبي يمرض إلا خُيِّر بين الدنيا والآخرة» [50]؛ أي: «بين الإقامة في الدنيا والرحلة إلى الآخرة؛ لتكون وفادته على الله وفادة محب مخلص مبادر»[51].
وفي تخيير موسى عليه السلام قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «جاء ملك الموت إلى موسى، فقال له: أجب ربك، قال: فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها، قال: فرجع الملك إلى الله عزّ وجل، فقال: إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت، وقد فقأ عيني، قال: فرد إليه عينه، قال: ارجع إلى عبدي فقل له: الحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة، فضع يدك على متن ثور، فما وارت يدك من شعرة فإنك تعيش بها سنة، قال: ثم مه؟ قال: ثم تموت، قال: فالآن من قريب، قال: رب أدنني من الأرض المقدسة رمية بحجر» ، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو أني عنده لأريتك مقبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر»[52].
وفي تخيير محمد صلّى الله عليه وسلّم قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول وهو صحيح: «لن يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يخير» فلما نزل به ورأسه على فخذي غشي عليه ساعة، ثم أفاق، فأشخص بصره إلى السقف، ثم قال: «اللَّهُمَّ الرفيق الأعلى» قلت: إذًا لا يختارنا، وعلمت أنه الحديث الذي كان يحدثنا وهو صحيح، قالت: فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها: «اللَّهُمَّ الرفيق الأعلى»[53].
فإن قال قائل: ما وجه التخيير بعد أن يرى مقعده من الجنة، ولو أن أحدنا رأى مكانه من الجنة لم يتخير الدنيا عليه؟ فالجواب: أن التخيير يكون إكرامًا له؛ ليكون قبض روحه عن أمره، فيجوز أن يختار تعجيل معاناة الموت لما يصير إليه، ويجوز أن يختار تأخير الموت عنه مع علمه بمنزلته إيثارًا لطاعة الله على حظ النفس[54].
المسألة السابعة عشرة: وصاة الأنبياء عليهم السلام بالتوحيد عند الاحتضار وتحذيرهم من الشرك:
التوصية هي التقدم إلى الغير بفعل فيه صلاح وقربة، سواء كان حالة الاحتضار أو لا، وسواء كان ذلك التقدم بالقول أو الدلالة، وإن كان الشائع في العرف استعمالها في القول المخصوص حالة الاحتضار[55].
والتوصية عند الموت تكون بأعظم المهمات التي تشغل البال، ومن أعظم ما يوصى به التوحيد، وقد ذكر تعالى وصاة إبراهيم الخليل عليه السلام لبنيه بالتوحيد، وكذا يعقوب عليه السلام، قال الله سبحانه: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ *إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ *وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ *أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ *} [البقرة] .
ولكون الشرك مما يقدح في التوحيد، فقد حذَّر منه خاتم النبيين صلّى الله عليه وسلّم في ساعة الاحتضار، قالت عائشة وابن عباس رضي الله عنهم: لما نزل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر ما صنعوا[56]؛ أي: لسد ذريعة الشرك المؤدية إلى عبادة من فيها.
المسألة الثامنة عشرة: حضور الشيطان ساعة الاحتضار للإفساد على المحتضَر:
دلَّ على ذلك ظاهر قوله تعالى: {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ *} [المؤمنون] ، قال الشنقيطي: «والظاهر أن المعنى: أعوذ بك أن يحضرني الشيطان في أمر من أموري كائنًا ما كان، سواء كان ذلك وقت تلاوة القرآن أو عند حضور الموت، أو غير ذلك من جميع الشؤون في جميع الأوقات»[57].
وكان من دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من التردي، والهدم، والغرق، والحريق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرًا، وأعوذ بك أن أموت لديغًا»[58].
وتخبط الشيطان للمحتضَر يكون بإفساد دينه أو عقله[59]، وذلك بأن يستولي عليه الشيطان عند مفارقته الدنيا فيضله، ويحول بينه وبين التوبة، أو يعوقه عن إصلاح شأنه والخروج من مظلمة تكون قبله، أو يؤيسه من رحمة الله تعالى، أو يكره له الموت ويؤسفه على حياة الدنيا، فلا يرضى بما قضاه الله من الفناء والنقلة إلى دار الآخرة، فيختم له بسوء، ويلقى الله وهو ساخط عليه[60].
المسألة التاسعة عشرة: حضور الملائكة عند الاحتضار وبشارتها المتوفى بالمصير والمآل:
تحضر الملائكة الموكلة بقبض الأرواح العبد حال الاحتضار، وتبشره بما ينتظره من رحمة أو عذاب، وبما هو صائر إليه من خير أو شر.
فأما السعداء فقال تعالى يصف حالهم ومآلهم: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ *نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ *نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ *} [فصلت] ، فيبشرون حال احتضارهم بالخيرات وحصول المسرات[61].
وقال تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلاَمٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ *} [النحل] .
فهذا خبر عن السعداء أخبر تعالى عن حالهم عند الاحتضار أنهم طيبون؛ أي: مخلصون من الشرك والدنس وكل سوء، وأن الملائكة تسلم عليهم وتبشرهم بالجنة[62].
وأما الأشقياء فقال تعالى يصف حالهم ومآلهم: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا *} [الفرقان] ، والمعنى: «أي: هم لا يرون الملائكة في يوم خير لهم؛ بل يوم يرونهم لا بشرى يومئذ لهم، وذلك يصدق على وقت الاحتضار حين تبشرهم الملائكة بالنار والغضب من الجبار»[63].
وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ *} [الأنعام] .
[1] تفسير ابن كثير (4/397) [دار الفكر، 1401هـ].
[2] انظر: النكت والعيون (3/473) [دار الكتب العلمية]، وتفسير العز بن عبد السلام (2/339) [دار ابن حزم، ط1، 1416هـ].
[3] انظر: تفسير ابن عطية (4/17) [دار الكتب العلمية، ط1، 1413هـ]، وعمدة القاري (19/283) [دار إحياء التراث العربي].
[4] انظر: الروح (34) [دار الكتب العلمية، 1395هـ].
[5] أخرجه البخاري (كتاب الجنائز، رقم 1379)، ومسلم (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم 2866).
[6] تعلق: تأكل. انظر: النهاية (3/289).
[7] أخرجه النسائي (كتاب الجنائز، رقم 2073)، وابن ماجه (كتاب الزهد، رقم 4271)، وأحمد (25/55) [مؤسسة الرسالة، ط1] واللفظ له، ومالك في الموطأ (كتاب الجنائز، رقم 49) [دار الحديث، ط2، 1413هـ]، وابن حبان (كتاب السير، رقم 4657)، وصححه ابن كثير في تفسيره (2/164) [دار طيبة، ط2]، وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة (2/694)، وقال عن إسناد أحمد: «وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين».
[8] الجواب الصحيح (3/268).
[9] أخرجه البخاري (كتاب التفسير، رقم 4935)، ومسلم (كتاب الفتن وأشراط الساعة، رقم 2955).
[10] أخرجه أبو داود (كتاب الصلاة، رقم 1047)، والنسائي (كتاب الجمعة، رقم 1374)، وابن ماجه (كتاب إقامة الصلاة والسُّنَّة فيها، رقم 1085)، وأحمد (26/84) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والدارمي (كتاب الصلاة، رقم 1613)، وصححه النووي في الأذكار (115) [دار الفكر، 1414هـ]، والألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 1527).
[11] انظر: الأم (1/274) [دار المعرفة، ط2، 1393هـ]، والمغني في فقه الإمام أحمد (2/162) [دار الفكر، ط1، 1405هـ]، وشرح منتهى الإرادات (1/343) [عالم الكتب، ط2، 1996م]، والخرشي على مختصر سيدي خليل (2/122) [دار الفكر].
[12] تفسير ابن كثير (2/129) [دار طيبة، ط2].
[13] انظر: الجامع لأحكام القرآن (4/227) [دار إحياء التراث العربي].
[14] أخرجه البخاري (كتاب الرقاق، رقم 6507)، ومسلم (كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، رقم 2683).
[15] مشكاة المصابيح (5/587).
[16] أخرجه الترمذي (أبواب تفسير القرآن، رقم 3235)، وأحمد (36/422) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وقال البخاري والترمذي: حسن صحيح، كما ذكر الترمذي عقب إخراجه للحديث.
[17] أخرجه مسلم (كتاب الإمارة، رقم 1909).
[18] أخرجه البخاري (كتاب الدعوات، رقم 6351)، ومسلم (كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، رقم 2680).
[19] انظر: شرح الطحاوية (369) [المكتب الإسلامي، ط4].
[20] تفسير الطبري (19/69)، [مؤسسة الرسالة، ط1]. وانظر: تفسير ابن كثير (5/439)، [دار طيبة، ط2].
[21] أخرجه أبو داود (كتاب السُّنَّة، رقم 4753)، وابن ماجه (كتاب الزهد، رقم 4269) مختصرًا، وأحمد (30/499) [مؤسسة الرسالة، ط1] واللفظ له، وصححه ابن القيم في إعلام الموقعين (1/137) [دار الكتب العلمية، ط1]، والألباني في صحيح سنن أبي داود (2/619) و(3/901) [المكتب الإسلامي، 1409هـ].
[22] تفسير السعدي (836).
[23] أخرجه الطبراني في الكبير (10/233) [مكتبة ابن تيمية، ط2]، وحسّنه الهيثمي في مجمع الزوائد (2/323) [مكتبة القدسي]، والألباني في السلسلة الصحيحة (5/184).
[24] تقدم تخريجه.
[25] أخرجه مسلم (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم 2877).
[26] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7405)، ومسلم (كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، رقم 2675).
[27] انظر: شرح النووي على مسلم (9/256).
[28] أخرجه الترمذي (أبواب الجنائز، رقم 983)، وابن ماجه (كتاب الزهد، رقم 4261)، وحسنه المنذري في الترغيب والترهيب (4/135) [دار الكتب العلمية، ط1]، والألباني في أحكام الجنائز (3) [المكتب الإسلامي، ط4].
[29] انظر: سبل السلام (2/90) [مكتبة مصطفى البابي الحلبي، ط4، 1379هـ].
[30] أخرجه البخاري (كتاب تفسير القرآن، رقم 4753).
[31] أخرجه البخاري (كتاب المرضى، رقم 5674)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2444).
[32] انظر: روح البيان (2/143) [دار إحياء التراث العربي].
[33] أخرجه الترمذي (أبواب الدعوات، رقم 3537) وحسَّنه، وابن ماجه (كتاب الزهد، رقم 4253)، وأحمد (2/132) [عالم الكتب، ط1]، وابن حبان (كتاب الرقاق، رقم 628)، وحسّنه الألباني في صحيح الجامع (1/386) [المكتب الإسلامي].
[34] انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (3/665) [المكتبة العلمية، 1399هـ].
[35] أخرجه البخاري (كتاب الجنائز، رقم 1360)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 24).
[36] الآداب الشرعية والمنح المرعية (1/62) [مؤسسة الرسالة، ط2، 1417هـ].
[37] أخرجه البخاري (كتاب الجنائز، رقم 1356).
[38] انظر: التذكرة للقرطبي (1/52) [دار قباء للنشر].
[39] تفسير ابن كثير (3/256) [دار الفكر].
[40] أيسر التفاسير (3/279) [مكتبة العلوم والحكم، ط5، 1424هـ]، وانظر: بيان المعاني (6/28) [مطبعة الترقي، ط1382هـ]، والوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/933) [دار الكتب العلمية، ط1، 1413هـ].
[41] أخرجه البخاري (كتاب الرقائق، رقم 6510).
[42] أخرجه الترمذي (أبواب فضائل الجهاد، رقم 1668) وقال: حسن صحيح، والنسائي (كتاب الجهاد، رقم 3161)، وابن ماجه (كتاب الجهاد، رقم 2802)، وأحمد (13/334) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والدارمي (كتاب الجهاد، رقم 2452)، وحسّنه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 960).
[43] أخرجه بهذا السياق: أبو داود (كتاب الجنائز، رقم 3115)، والترمذي (أبواب الجنائز، رقم 977) وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (كتاب الجنائز، رقم 1447)، وأحمد (44/101) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وابن حبان (كتاب الجنائز، رقم 3005)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (رقم 491). وأصله في صحيح مسلم (كتاب الجنائز، رقم 920).
[44] أخرجه البخاري (كتاب التفسير، رقم 4675)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 24).
[45] تقدم تخريجه.
[46] أخرجه مسلم (كتاب الجنائز، رقم 916).
[47] أخرجه أبو داود (كتاب الجنائز، رقم 3116)، وأحمد (36/363) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والحاكم (كتاب الجنائز، رقم 1299) وصححه، وصححه الألباني في الإرواء (رقم 687).
[48] شرح صحيح مسلم للنووي (6/219) [دار إحياء التراث العربي، ط2، 1392هـ].
[49] انظر: شرح صحيح مسلم للنووي (6/219)، وبداية المجتهد لابن رشد (1/164) [دار الفكر]، وشرح فتح القدير (2/104) [دار الفكر، ط2].
[50] أخرجه البخاري (كتاب التفسير، رقم 4586) واللفظ له، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2444).
[51] التيسير بشرح الجامع الصغير (2/713) [مكتبة الإمام الشافعي، ط3، 1408هـ].
[52] أخرجه البخاري (كتاب الجنائز، رقم 1339)، ومسلم (كتاب الفضائل، رقم 2372).
[53] أخرجه البخاري (كتاب المغازي، رقم 4437)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2444).
[54] انظر: كشف المشكل من حديث الصحيحين لابن الجوزي (2/540) [دار الوطن، ط1418هـ].
[55] روح المعاني (1/386) [دار الكتب العلمية، 1415هـ].
[56] أخرجه البخاري (كتاب بدء الوحي، رقم 5816)، ومسلم (كتاب المساجد، رقم 1215).
[57] أضواء البيان (5/353) [دار الفكر، ط 1415هـ].
[58] أخرجه أبو داود (كتاب الصلاة، رقم 1552)، والنسائي (كتاب الاستعاذة، رقم 5531)، وأحمد (24/281) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والحاكم (كتاب الدعاء، رقم 1948) وصححه، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (5/274) [مؤسسة غراس، ط1، 1423هـ].
[59] انظر: التيسير بشرح الجامع الصغير (1/488) [مكتبة الإمام الشافعي، ط3، 1408هـ].
[60] انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود (4/287) [دارالكتب العلمية، ط2، 1415هـ].
[61] انظر: ابن كثير (3/314).
[62] انظر: المرجع نفسه (2/562).
[63] انظر: المرجع نفسه (3/314).
الفرق بين الغرغرة والاحتضار:
الغرغرة ليست هي الاحتضار؛ بل هي الحشرجة عند الموت وتردد النفس[1]، ولا يمنع أن تكون بعضه، ويدل على الفرق قبول التوبة حال الاحتضار لا حال الغرغرة كما تقدم بيانه.
وأما غمرات الموت في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} [الأنعام: 93] ، فهي شدائده وسكراته وكُرُباته[2]، وسميت بذلك؛ لأن أهوالها يغمرن من يقعن به[3].
[1] انظر: الصحاح (2/329) [دار العلم للملايين، ط4، 1990م]، وتاج العروس (5/483) [دار الهداية]، والقاموس المحيط (235) [مؤسسة الرسالة، ط2].
[2] انظر: تفسير ابن كثير (3/302).
[3] زاد المسير (3/87) [المكتب الإسلامي، ط3].
الاحتضار وما يصحبه من سكرات هو من المصائب والشدائد والأهوال التي تصيب المؤمن؛ فتكفر به سيئاته، وتزاد حسناته، وترفع درجاته.
وقد كان السلف رحمهم الله يستشعرون هذا المعنى، قال عمر بن عبد العزيز: «ما أحب أن تهون عليَّ سكرات الموت؛ إنه لآخر ما يكفر به عن المؤمن»[1].
[1] جامع العلوم والحكم (370) [دار المعرفة، ط1، 1408هـ].
خالف طائفة من المعتزلة والقدرية والفلاسفة فزعموا أن الموت أمر عرضي أو عدمي[1]؛ أي: أنه ليس جسمًا وجوديًّا.
قال السفاريني: «ذهب جمعٌ إلى أن الموت عرض ومعنى، والأعراض لا تنقلب أجسامًا؛ بل زعم بعضهم أن الموت عدم محض، وبه قال الزمخشري»[2].
وقال ابن تيمية: «وكثير من النزاع في ذلك يكون لفظيًّا، فإنه قد يكون عدم الشيء مستلزمًا لأمر وجودي، مثل الحياة مثلاً فإن عدم حياة البدن مثلاً مستلزم لأعراض وجودية، والناس تنازعوا في الموت: هل هو عدمي أو وجودي؟ ومن قال: إنه وجودي احتج بقوله تعالى: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 2] ، فأخبر أنه خلق الموت، كما خلق الحياة.
ومنازعه يقول: العدم الطارئ يخلق كما يخلق الوجود، أو يقول: الموت المخلوق هو الأمور الوجودية اللازمة لعدم الحياة وحينئذ فالنزاع لفظي»[3].
وقد رد ابن القيم على المخالفين بما يأتي:
1 ـ هذا الكبش والإضجاع والذبح ومعاينة الفريقين ذلك حقيقة لا خيال ولا تمثيل كما أخطأ فيه بعض الناس خطأً قبيحًا، وقال: الموت عرض والعرض لا يتجسم فضلاً عن أن يذبح، وهذا لا يصح.
2 ـ أن الله سبحانه ينشئ من الموت صورة كبش يذبح، كما ينشئ من الأعمال صورًا معاينة يثاب بها ويعاقب، والله تعالى ينشئ من الأعراض أجسامًا تكون الأعراض مادة لها، وينشئ من الأجسام أعراضًا، كما ينشئ سبحانه وتعالى من الأعراض أعراضًا ومن الأجسام أجسامًا، فالأقسام الأربعة ممكنة مقدورة للربِّ تعالى، ولا يستلزم جمعًا بين النقيضين ولا شيئًا من المحال.
3 ـ لا حاجة إلى تكلف من قال: إن الذبح لملك الموت، فهذا كله من الاستدراك الفاسد على الله ورسوله، والتأويل الباطل الذي لا يوجبه عقل ولا نقل، وسببه قلة الفهم لمراد الرسول صلّى الله عليه وسلّم وكلامه، فظن هذا القائل أن لفظ الحديث يدل على أن نفس العرض يذبح، وظن غالط آخر أن العرض يعدم ويزول ويصير مكانه جسم يذبح، ولم يهتد الفريقان إلى هذا القول الذي ذكرناه. وأن الله سبحانه ينشئ من الأعراض أجسامًا ويجعلها مادة لها[4].
[1] الحاوي للفتاوي (2/283) [دار الكتب العلمية، ط1، 1421هـ]، وتوضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم (2/591) [المكتب الإسلامي، ط3، 1406هـ]، وأضواء البيان (8/115) [دار الفكر، 1415هـ]، ومقالات الإسلاميين واختلاف المصلين (424) [دار إحياء التراث العربي، ط3].
[2] لوامع الأنوار البهية (2/237).
[3] درء تعارض العقل والنقل (2/383).
[4] انظر: حادي الأرواح لابن القيم (283) فما بعدها.
1 ـ «شرح الصدور في أحوال الموتى والقبور»، للسيوطي.
2 ـ «حادي الأرواح»، لابن القيم.
3 ـ «فيض القدير شرح الجامع الصغير» (ج2)، للمناوي.
4 ـ «مجلة مجمع الفقه الإسلامي التابع» لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة (ج2، 3).
5 ـ «الموت في الفكر الإسلامي»، للفرماوي.
6 ـ «الآداب الشرعية والمنح المرعية» (ج1)، لابن مفلح.
7 ـ «الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع» (ج1)، للشربيني.
8 ـ «التذكرة في أحوال الموتى والآخرة» (ج1)، للقرطبي.
9 ـ «سبل السلام» (ج2)، للصنعاني.
10 ـ «القيامة الصغرى»، للأشقر.