حرف الميم / موسى عليه السلام

           

موسى : هو ابن عمران، قيل: ابن قاهث بن عازر بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم[1]. وقيل: إن عمران هو ابن يصهر بن قاهث...إلخ[2].


[1] المعارف لابن قتيبة (1/43) [الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط2، 1992م]، والمنتظم في التاريخ (1/331) [دار الكتب العلمية، ط1، 1412هـ]، والبداية والنهاية لابن كثير (2/31) [دار هجر، ط1، 1418هـ].
[2] انظر: المنتظم في التاريخ (1/331).


موسى : اسم أعجمي معرب، أصله بالعبرانية: (موشا)، مركب من: (مو) وهو الماء، و(شا) وهو الشجر؛ لأنه وجد بين الماء والشجر[1]. وقال الأزهري: «قال الليث: أما موسى النبي صلّى الله عليه وسلّم فيقال: إن اشتقاقه من الماء والساج، فـ(المو): ماء، و(سا): شجر لحال التابوت في الماء»[2].
وقيل: إن أصله من اللغة القبطية، وهو مركب إما من: ( mo ) وهو الماء، و( use ) وهو بمعنى: أنقذ، وإما من: ( mes ) أو ( meso ) وهو بمعنى الطفل أو الابن[3].


[1] انظر: المعرَّب للجواليقي (567) [دار القلم، ط1، 1410هـ].
[2] تهذيب اللغة (13/81) [دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 2001م].
[3] انظر: المعرَّب للجواليقي (567).


ولد موسى عليه السلام في العام الذي كان فرعون يذبح فيه الذكور ويستبقي فيه الإناث، لما بلغه من أن هلاكه سيكون على يد رجل من بني إسرائيل سيولد قريبًا[1]، ولذا خافت أمه لما حملت به، فألهمها الله بأن تضعه بعد الولادة في التابوت، ثم تقذفه في البحر؛ ليسلم من القتل، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى *إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى *أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي *} [طه] ، وقال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ *} [القصص] .
وبعد ولادة موسى عليه السلام نفذت أمه الوحي الإلهي، فأدخلت ابنها في التابوت، ورمته في البحر المتلاطم الأمواج، اعتمادًا على الله، وثقة بوعده، فأنجاه الله وحماه من كل سوء، وسخَّر له عدوه فرعون؛ إذ التقطه جنوده من اليم وأتوا به إليه، وإذا بزوجه تشير عليه بأن يتخذوه ولدًا لهم، فوافق فرعون، وأخذوا يبحثوا عمن يرضعه لهم بالأجرة، فحرم الله المراضع على الطفل؛ ولذا لم يقبل إلا ثدي أمه، فأعاده الله إليها من حيث لا يشعر فرعون وأعوانه بذلك، قال الله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ *وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ *وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ *وَقَالَتْ لأُِخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ *وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ *فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ *} [القصص] . وهكذا أعاد الله موسى إلى أمه فأرضعته حتى الفطام بمقابل مادي، وهكذا نشأ موسى تحت رعاية فرعون إلى أن صار شابًّا قويًّا، ويدل عليه ما حكاه الله عزّ وجل من قول فرعون لموسى لما جاءه رسولاً يدعوه إلى الله: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ *} [الشعراء] .


[1] انظر: فبهداهم اقتده: قراءة تأصيلية في سير وقصص الأنبياء عليهم السلام لعثمان الخميس (329) [دار إيلاف الدولية، ط1، 1431هـ].


دلت النصوص الشرعية على نبوة موسى عليه السلام؛ منها: قول الله تعالى: {إِذْ قَالَ مُوسَى لأَِهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ *فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *يَامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *} [النمل] ، وقوله : {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا *وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا *} [مريم] ، وقوله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ *} [الأعراف] ، وقوله عزّ وجل: {قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ *} [الأعراف] ، وقوله : {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ *} [المؤمنون] .
وكانت نبوته قبل أيوب وبعد آل يعقوب[1]. وقيل: إنه كان بينه وبين إبراهيم ألف سنة[2].


[1] المعارف لابن قتيبة (1/43).
[2] انظر: المنتظم في التاريخ (1/331).


أرسل الله نبيَّه موسى عليه السلام إلى أكفر أهل الأرض في زمانه، وهو فرعون، وأيده بتسع آيات بيِّنات تدل على صحة نبوته، وصدق رسالته، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأََظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا *قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاَءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأََظُنُّك يافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا *} [الإسراء] . واختلف في تحديد هذه المعجزات[1]؛ وهي على ما ذهب إليه بعض أهل العلم كابن عباس ـ في رواية ـ ومجاهد وعكرمة والشعبي وقتادة: نقص الثمرات، والطوفان، والبحر، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وتحويل العصا إلى حية تسعى، وخروج اليد من الجيب[2] بيضاء، ورجحه ابن كثير بقوله: «وهذا القول ظاهر جلي حسن قوي»[3].
ويدل على هذه الأمور النصوص التالية:
قول الله تعالى: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ *إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ *وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ *} [النمل] ، قال ابن كثير: «أي: هاتان ثنتان من تسع آيات أؤيدك بهن، وأجعلهن برهانًا لك إلى فرعون وقومه»[4].
وقوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى *قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى *قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى *فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هَيَ حَيَّةٌ تَسْعَى *قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُوْلَى *وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى *لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى *} [طه] .
وقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ *} [الأعراف] .
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ *} [الأعراف] .
وقوله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ *} [الشعراء] .


[1] انظر: تفسير الطبري (18/21، 22) [دار هجر، ط1، 1422هـ]، وأحكام القرآن لابن عربي (3/216) [دار الكتب العلمية، ط3، 1424هـ]، وتفسير القرطبي (2/30، و10/335) [دار عالم الكتب، الرياض، المملكة العربية السعودية، 1423هـ]، وتفسير ابن كثير (6/180).
[2] الجيب هو الشق الذي يدخل منه الرأس، وكان موسى إذا أدخل يده تحت إبطه يتحول لون كفه من غير برص إلى بياض قوي له شعاع يبهر الناظرين. انظر: تفسير الطبري (18/19، 20)، وتفسير القرطبي (7/257)، وتفسير السعدي (600)، ومجموع فتاوى ورسائل ابن باز (5/46).
[3] انظر: تفسير ابن كثير (5/124) [دار طيبة، ط2].
[4] تفسير ابن كثير (6/180).


أنزل الله على نبيِّه موسى عليه السلام التوراة كما قال الله عزّ وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ *} [المؤمنون] ، والمراد بالكتاب هنا التوراة[1]، وقال الله تعالى في شأن التوراة: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة: 44] ، وقال الله تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ *} [الأعراف] ، وقال سبحانه: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ *} [الأعراف] .
وقد جاء في السُّنَّة تحديد وقت نزول التوراة، فعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «نزلت صحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة مضت من رمضان، وأنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان»[2].
ومن فضائل التوراة: أن الله كتبها بيده، لما ثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنه قال: «احتج آدم وموسى، فقال له موسى: يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة، قال له آدم: يا موسى اصطفاك الله بكلامه، وخط لك بيده، أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ فحج آدمُ موسى، فحج آدمُ موسى، ثلاثًا» [3]. وفي رواية لمسلم: «كتب لك التوراة بيده»[4].


[1] انظر: تفسير ابن كثير (1/321).
[2] أخرجه أحمد (28/191) [مؤسسة الرسالة، ط2]، والطبراني في المعجم الأوسط (4/111) [دار الحرمين، القاهرة، 1415هـ] واللفظ له، وقال الهيثمي في المجمع (1/197) [مكتبة القدسي]: (فيه عمران بن داور القطان، ضعفه يحيى، ووثقه ابن حبان، وقال أحمد: أرجو أن يكون صالح الحديث، وبقية رجاله ثقات)، وحسَّنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/104، رقم 1575) [مكتبة المعارف، ط1].
[3] أخرجه البخاري (كتاب القدر، رقم 6614)، ومسلم (كتاب القدر، رقم 2652).
[4] أخرجه مسلم في الموضع السابق.


كان موسى عليه السلام يدعو إلى توحيد الله، والخضوع والإخلاص له، وإفراده بالربوبية وجميع خصائصه، ونبذ الكفر والشرك الذي كان يعلنه فرعون، ويفرضه على الأتباع بالقوة، كما قال الله تعالى: {فَحَشَرَ فَنَادَى *فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى *} [النازعات] ، وقال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلأَُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] ، فأمر الله موسى وهارون عليهما السلام أن يدعُوَا هذا الطاغوت الكبير إلى الإيمان بالله وتوحيده، وفك بني إسرائيل من قبضته، وإرسالهم معهما وترك تعذيبهم، وأن يقولا له قولاً لينًا كما قال تعالى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي *اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى *فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى *قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى *قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى *فَأْتِيَاهُ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى *إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى *} [طه] .
وقال تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ *قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلاَ يَتَّقُونَ *قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ *وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ *وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ *قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ *فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ *أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ *} [الشعراء] .



قوم موسى وهارون هم فرعون وقومه وبنو إسرائيل الذين تسلَّط عليهم فرعون وأذلَّهم، قال الله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ *إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ *} [المؤمنون] ، وقال تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا} [يونس: 75] . وقد قص الله علينا في مواطن عديدة من كتابه الكريم مواقف فرعون وملئه من دعوة موسى وهارون من جهة، وموقف بني إسرائيل منهما من جهة أخرى:
أما فرعون وأتباعه فقد كفروا بهما وبدعوتهما، وسلكوا لتسويغ ذلك مسالك عدة، يمكن بيانها على النحو التالي:
الأول: مسلك التكذيب والاتهام بالجنون والتشكيك في صحة وجود الرب والإله الحق، كما قال الله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأََظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر] .
وقال تعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى *قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى *قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى *قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنْسَى *} [طه] .
ولمّا جاء موسى وهارون إلى فرعون وأخبراه بأنهما رسولا رب العالمين، قال مستنكرًا كما حكاه الله عنه: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ *قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ *قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ *قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ *قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ *قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ *} [الشعراء] .
ولمّا عجز فرعون عن مواجهة هذه الحجج الدامغة لجأ إلى التخويف، كما في قوله تعالى: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ *} [الشعراء] .
الثاني: مسلك التطاول على موسى، واحتقاره والحط من مكانته، والتلبيس على الأتباع، قال الله تعالى: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ *أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ *فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلاَئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ *فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ *} [الزخرف] .
الثالث: رميهما بالسحر وإنكار المعجزات بعد مشاهدتها، قال الله تعالى فيما حكاه عن فرعون: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ *قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ *قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ *فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ *وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ *قَالَ لِلْمَلإَِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ *} [الشعراء] .
وقال الله تعالى: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى *فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى *} [طه] .
الرابع: السعي إلى حشد السحرة المهرة المنتشرين في المدائن، لمبارزة موسى على مرأى ومسمع من الناس ومحاولة مغالبتهم إياه، قال تعالى: {قَالَ الْمَلأَُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ *يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ *قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ *يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ *وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ *قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ *قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ *قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ *} [الأعراف] .
وبينما هم في هذا المشهد الرهيب الذي يظنون أنهم هم الغالبون المنصورون فيه، فإذا بالأمر ينقلب رأسًا على عقب، وتصير هذه الأحلام هباء منثورًا، بعد أن أمر الله موسى بأن يلقي عصاه لتبتلع أكاذيب السحرة الدجالين، كما قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ *فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ *وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ *قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ *رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ *} [الأعراف] . ولما أفلس فرعون في ميدان المناظرة، انتقل إلى التنديد والتهديد بالقتل والصلب للمؤمنين، كما حكاه الله عنه بقوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ *لأَُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأَُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ *قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ *وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ *} [الأعراف] ، فأوحى الله إلى نبيِّه موسى بأن يسري بالمؤمنين كما قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ *} [الشعراء] .
وأرسل فرعون الشُّرطَ في مدائن مصر حاشرين؛ للقضاء على موسى وأتباعه المؤمنين، كما قال تعالى: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ *إِنَّ هَؤُلاَءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ *وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ *وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ *} [الشعراء] .
فأهلك الله فرعون وجنوده في اليم، وأورث أرضهم بني إسرائيل، كما قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ *وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ *كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ *فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ *فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ *قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ *فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ *وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ *وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ *ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ *} [الشعراء] .
وأما موقف بني إسرائيل من موسى وهارون فيمكن إجماله في الآتي:
الأول: أذيتهم إياه بزعمهم أنه آدر، والأدرة نفخة في الخصية[1].
لقد قام بنو إسرائيل بأذية موسى عليه السلام أذية بالغة، ومن ذلك وصفهم إياه بأنه آدر، فبرّأه ربه من ذلك، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى صلّى الله عليه وسلّم يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر، فذهب مرة يغتسل، فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، فخرج موسى في إثره، يقول: ثوبي يا حجر، حتى نظرت بنو إسرائيل إلى موسى، فقالوا: والله ما بموسى من بأس، وأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربًا»[2].
الثاني: عبادتهم العجل بعد ذهابه لمناجاة ربه:
لما أراد نبي الله موسى عليه السلام أن يذهب إلى مناجاة ربه، استخلف على قومه أخاه هارون، فبرز من بينهم رجل يقال له: هارون السامري، فعمد إلى ما كانوا استعاروه من الحلي من الأقباط، فصاغ منه عجلاً، فكان يخور كما يخور العجل الحقيقي، وكانت الريح إذا دخلت من دبره خرجت من فيه فيخور كما تخور البقرة، فيرقصون حوله ويفرحون، {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ *} [طه] [3].
ونهاهم هارون عن هذا الشرك، ولكنهم أصروا على هذا العمل حتى أتاهم موسى، كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْل ياقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَانُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي *قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى *} [طه] .
وأبلغ الله نبيَّه موسى بضلال قومه من بعده، فرجع وهو في حال غضب شديد ووبخ قومه على صنيعهم، كما قال تعالى: {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَال ياقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُّمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي *قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ *} [طه] .
وعاتب موسى أخاه هارون عليه السلام على وجه الخصوص عتابًا شديدًا، فأخبره هارون بأنه نهاهم عن ذلك ولكنهم عصوه، وكادوا يقتلونه، فتركهم انتظارًا لمجيء موسى عليه السلام، حتى لا يكون سببًا في تفرقتهم، كما حكاه الله عنه بقوله: {قَال ياهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا *أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي *قَالَ يَابْنَأُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي *} [طه] ، وقال تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ *} [الأعراف] .
ثم اتجه موسى عليه السلام إلى السامري، ووبخه على إضلاله للناس، ونسفَ عجله في اليم، وقد ذكر الله تعالى ما جرى بينهما بقوله: {قَالَ فَمَا خَطْبُك ياسَامِرِيُّ *قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي *قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا *إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا *} [طه] .
الثالث: نكول بني إسرائيل عن قتال الكفار لفتح بيت المقدس:
أمر الله بني إسرائيل أن يفتحوا الأرض المقدسة، فامتنعوا عن دخولها؛ خوفًا وهلعًا من الكفار، وقالوا لنبي الله موسى عليه السلام: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، فعاقبهم الله بالتيه أربعين سنة، قال تعالى: {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ *قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ *قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ *قَالَ رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ *قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ *} [المائدة] .


[1] انظر: فتح الباري لابن حجر (1/386).
[2] أخرجه البخاري (كتاب الغسل، رقم 278)، ومسلم (كتاب الحيض، رقم 339).
[3] انظر: تفسير ابن كثير (3/475)، وصحيح (قصص الأنبياء لابن كثير) لسليم الهلالي (325، 326) [دار غراس، ط1، 1422هـ].


ورد ذكر وفاة نبي الله موسى عليه السلام في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «جاء ملك الموت إلى موسى عليه السلام فقال له: أجب ربك، قال: فلطم موسى عليه السلام عينَ ملك الموت ففقأها، قال: فرجع الملك إلى الله تعالى فقال: إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت، وقد فقأ عيني، قال: فرد الله إليه عينه، وقال: ارجع إلى عبدي فقل: الحياةَ تريدُ؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور، فما توارت يدك من شعرة فإنك تعيش بها سنة، قال: ثم مه؟ قال: ثم تموت، قال: فالآن من قريب، رب أمتني من الأرض المقدسة رمية بحجر ، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: والله لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر »[1]. وكانت وفاته بعد وفاة هارون بثلاث سنين[2].


[1] أخرجه البخاري (كتاب الجنائز، رقم 1339)، ومسلم (كتاب الفضائل، رقم 2372).
[2] انظر: تفسير ابن كثير (3/79).


المسألة الأولى: ما فضَّله الله به من التكليم:
لقد كلَّم الله نبيَّه موسى عليه السلام من غير واسطة، كما قال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا *} [النساء] ، وهذا تفضيل وتكريم لنبيِّه موسى عليه السلام بهذه الفضيلة، كما قال سبحانه: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253] .
وقال تعالى ممتنًّا على موسى بوجه خاص: {قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ *} [الأعراف] . وقد شاركه في هذه الفضيلة من أنبياء الله: آدم ومحمد، عليهما الصلاة والسلام.
أما آدم فلِمَا صحَّ من حديث أبي أُمامة؛ أن رجلاً قال: «يا رسول الله أنبي كان آدم؟ قال: نعم؛ مكلَّم ، قال: فكم كان بينه وبين نوح؟ قال: عشرة قرون »[1].
وأما نبيُّنا محمد فلما ثبت في ليلة المعراج، حيث جاء في حديث المعراج الطويل: «ثم فرضت علي الصلوات خمسين صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى، فقال: بما أُمرت؟ قال: أُمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى، فقال: مثله، فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت... فرجعت، فأُمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى، فقال: بم أمرت؟ قلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، قال: سألت ربي حتى استحييت، ولكني أرضى وأسلم، قال: فلما جاوزت نادى مناد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي»[2].
المسألة الثانية: قصة موسى مع الخضر:
هذه القصة طويلة وخلاصتها: أن نبي الله موسى عليه السلام قام خطيبًا في بني إسرائيل فسُئِل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا. فعتب الله عليه ذلك؛ إذ لم يرد العلم إليه، وأخبره تعالى بأن هناك من هو أعلم منه، فرغب موسى في التعلم منه، وسأل ربه عن مكانه فأخبره بأنه سيجده عند مجمع البحرين، فتجهز موسى للسفر وانطلق مع فتاه يوشع، ولما التقى بالخضر أخبره بالأمر، فاشترط عليه الخضر الصبر، وعدم السؤال عما يفعل حتى يخبره بنفسه، فوعده موسى بالصبر، ولكنه لما رأى بعض الأمور، التي ظاهرها مخالفة الشريعة؛ كقتله الغلام، وخرقه سفينة المساكين، وإصلاح الجدار الموجود في القرية التي أبى أهلها أن يضيفوهما ـ ولا شك أن إكرام الضيف من الإيمان وتركه مخالف للشريعة ـ لم يصبر معه كثيرًا، حيث أخذ يسأله عما يفعل ويستنكر عليه، وبعد المرة الثالثة فارقه الخضر، وشرح له حقيقة ما فعل، وأنه لم يفعل إلا ما أمره الله به. وقصته مبسوطة في الكتاب والسُّنَّة؛ أما الكتاب ففي قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا *فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا *} [الكهف] .
ثم عثر عليه وبدأ الحوار بينهما، كما قال تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا *قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا *قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا *وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا *قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا *قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا *} [الكهف] .
وبعد أن تم الاتفاق بينهما انطلقا على بركة الله، وبدأ الخضر يعمل ما أُمر به من خرق السفينة وقتل الغلام، وإصلاح الجدار الذي على وشك السقوط، وفي كل واحدة من هذه الأعمال سأله موسى واعترض عليه فيها، ولم يصبر معه، وفي آخرها فارقه الخضر كما أخبرنا الله تعالى بقوله: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا *قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا *قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا *فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا *قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا *قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا *فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا *قَالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا *} [الكهف] .
وبعد أن أعلن الخضر مفارقة موسى، بدأ يشرح له حقيقة ما خفي عليه في الأمور الثلاثة، كما قال تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا *وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤُمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْرًا *فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا *وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا *} [الكهف] .
وأما السُّنَّة فقد روى الشيخان القصة في حديث طويل من رواية أُبيّ بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أن موسى قام خطيبًا في بني إسرائيل، فسُئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه؛ إذ لم يرد العلم إليه، فقال له: بلى؛ لي عبد بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال: أي رب ومن لي به؟ ـ وربما قال سفيان: أي رب وكيف لي به؟ ـ قال: تأخذ حوتًا فتجعله في مكتل، حيثما فقدت الحوت فهو ثَمَّ ـ وربما قال: فهو ثَمّة ـ، وأخذ حوتًا فجعله في مكتل، ثم انطلق هو وفتاه يوشع بن نون حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما، فرقد موسى واضطرب الحوت فخرج فسقط في البحر {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا *} [الكهف] ، فأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار مثل الطاق[3] ـ فقال: هكذا مثل الطاق ـ، فانطلقا يمشيان بقية ليلتهما ويومهما، حتى إذا كان من الغد {قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا *}، ولم يجد موسى النصب حتى جاوز حيث أمره الله قال له فتاه: {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا *} [الكهف] ، فكان للحوت سربًا، ولهما عجبًا، قال له موسى: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا *} [الكهف] ، رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى بثوب، فسلم موسى فرد عليه، فقال: وأنى بأرضك السلام، قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم؛ أتيتك لتعلمني {مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا *} [الكهف] ، قال: يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علَّمكه الله لا أعلمه، قال: هل أتبعك {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا *وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا *} إلى قوله: {أَمْرًا *}، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهما سفينة كلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نَول[4]، فلما ركبا في السفينة، جاء عصفور فوقع على حرف السفينة، فنقر في البحر نقرة أو نقرتين، قال له الخضر: يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر. إذ أخذ الفأس فنزع لوحًا، قال: فلم يفجأ موسى إلا وقد قلع لوحًا بالقَدُّوم[5]، فقال له موسى: ما صنعت؟ قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا *قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا *قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا *}، فكانت الأولى من موسى نسيانًا، فلما خرجا من البحر، مروا بغلام يلعب مع الصبيان، فأخذ الخضر برأسه فقلعه بيده هكذا ـ وأومأ سفيان بأطراف أصابعه، كأنه يقطف شيئًا ـ فقال له موسى: {...أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا *قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا *فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا *} [الكهف] مائلاً ـ أومأ بيده هكذا وأشار سفيان كأنه يمسح شيئًا إلى فوق، فلم أسمع سفيان يذكر مائلاً إلا مرة ـ، قال: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا عمدت إلى حائطهم {لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا *} [الكهف] ، {قَالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا *}...»[6].
المسألة الثالثة: خروج موسى إلى مدين:
نشأ موسى في بيت فرعون حتى شب وقوي، وذات يوم خرج إلى المدينة على حين غفلة من أهلها، فوجد رجلين يقتتلان؛ أحدهما: من الفراعنة والآخر: من بني إسرائيل، فاستغاثه هذا الأخير على الأول فهبَّ موسى لنصرة المستغيث ووكز الرجل فمات، وندم موسى على ما فعل، واشتكى أهل الميت إلى فرعون، فأخذوا يبحثون عن القاتل، وفي اليوم التالي خرج موسى فوجد نفس الرجل الذي نصره بالأمس يقاتل قبطيًّا آخر، ويستغيثه عليه من جديد، فغضب موسى وقال له: إنك كثير الغواية والضلال، ومد يده ليبطش بالقبطي فظن الإسرائيلي أنه المراد بالبطش، فقال لموسى: تريد أن تقتلني كما قتلت نفسًا بالأمس، فسمع الفرعوني هذا الكلام وذهب مسرعًا وأبلغ قومه، فانطلقوا وأبلغوا فرعون بالأمر، فأرسل فرعون بمن يمسك بموسى، فسمع بالخبر شخص فذهب إلى موسى وسبقهم إليه وأخبره الخبر، ونصحه بالخروج الفوري، فخرج موسى من مصر متجهًا نحو مدين وهي البلاد الواقعة حول خليج العقبة من عند نهايته الشمالية وشمال الحجاز وجنوب فلسطين[7]، وقد قصَّ الله علينا قصته، فقال: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ *قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ *قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ *فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ *فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَامُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ *وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ *فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِنِّي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ *} [القصص] . فنجاه الله كما قال تعالى ممتنًا عليه بذلك: {وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} [طه: 40] .
ولما ورد ماء مدين، وجد قومًا من الناس يسقون بهائمهم، ووجد امرأتين حابستين غنمهما عن الورد، فسألهما موسى عن سبب وقوفهما بعيدًا عن الحوض، فأخبرتاه بأنهما ينتظران حتى يسقي الرعاة الأقوياء مواشيهم ويخلو المكان؛ لضعفهما وكبر سن والدهما[8]، قال الله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ *} [القصص] .
فسقى لهما وذهب إلى الظل كما قال تعالى: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ *} [القصص] .
ولما رجعتا إلى أبيهما أخبرتاه بقوة الرجل وأمانته، وبإحسانه إليهما، ورغبتا في استئجاره، فطلب أبوهما بإحضاره، {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ *قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ *قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِي حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدَكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ *قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ *} [القصص] ، وبقي كل هذه السنين في مدين، وبعد تمام المدة زوّجه الرجل إحدى ابنتيه[9]، فاتجه موسى قافلاً إلى بلده، كما قال تعالى: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى *} [طه] ، وفي أثناء العودة أوحي إليه، كما قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَِهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ *فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِيءِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ *} [القصص] .
المسألة الرابعة: احتجاج آدم وموسى عليهما السلام:
هذه المحاجة وقعت عند الله بين أبي البشر آدم وموسى عليهما السلام، وهي من القصص الغيبية التي أخبرنا بها نبيِّنا صلّى الله عليه وسلّم، فيجب التسليم بها وتصديقه فيها، فقد ثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «احتج آدم وموسى؛ فقال له موسى: أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، ثم تلومني على أمر قدر علي قبل أن أخلق؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فحج آدم موسى مرتين»[10].
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «احتج آدم وموسى عليه السلام عند ربهما، فحج آدمُ موسى، قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك في جنته، ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض، فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء، وقرّبك نجيًّا، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى: بأربعين عامًا، قال آدم: فهل وجدت فيها {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى *} [طه] ، قال: نعم، قال: أفتلومني على أن عملت عملاً كتبه الله علي أن أعمله، قبل أن يخلقني بأربعين سنة، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فحجَّ آدمُ موسى»[11].
وفي هذا الحديث ضلَّت طائفتان؛ إحداهما: أنكرت الحديث؛ لظنها أنه يقتضي رفع اللوم والعقاب عن العاصي لأجل القدر، وطائفة: احتجت بالقدر على المعاصي والكفر والذنوب، والحديث لا يدل على هذا ولا على ذاك، وإنما في الحديث الاحتجاج بالقدر على المصائب لا على المعايب، فآدم لم يحتج على المعصية، وإنما احتج على المصيبة نفسها وهي الخروج من الجنة.
وهناك وجه آخر: وهو أن آدم احتج بالقدر بعد أن مضى وتاب من فعله وهذا جائز، وهذا بخلاف حال المحتجين بالقدر للبقاء على الشرك والمعاصي[12].
المسألة الخامسة: مكان موسى في السماوات ونصحه النبي صلّى الله عليه وسلّم بطلب تخفيف الصلوات على أمته:
فقد ثبت من حديث مالك بن صعصعة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفيه: «ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: من معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه، قال: نعم، قال: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا موسى، قال: هذا موسى، فسلَّم عليه فسلَّمت عليه فرد، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، فلما تجاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي؛ لأن غلامًا بُعث بعدي، يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي، ثم صعد بي... ثم فرضت علي الصلوات خمسين صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى، فقال: بما أُمرت؟ قال: أُمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى، فقال: مثله، فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى، فقال: مثله، فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى، فقال: مثله، فرجعت، فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت، فقال: مثله، فرجعت، فأُمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى، فقال: بم أمرت؟ قلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، قال: سألت ربي حتى استحييت، ولكني أرضى وأسلم، قال: فلما جاوزت نادى مناد: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي»[13].
المسألة السادسة: تجلي الله للجبل حين طلب موسى رؤية الله:
لما ذهب موسى عليه السلام لميقات ربه، وكلَّمه الله طلب من ربه رؤيته تعالى، كما حكاه الله عنه بقوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ *} [الأعراف] ، وعن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «قرأ هذه الآية: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143] ـ قال حماد: هكذا وأمسك سليمان بطرف إبهامه على أنملة إصبعه اليمنى ـ قال: فساخ الجبل {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143] »[14].
والمقصود بهذا وأمثاله من الأدلة: أن رؤية الله في الدنيا لا تقع لأحد من الخلق؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت» [15]. وليس المراد نفي رؤية الله في الدارين.
المسألة السابعة: الصحف والألواح، أوهي التوراة أم شيء آخر؟:
اختلف في كون صحف موسى هي التوراة أم بينهما فرق؟ على قولين[16]:
القول الأول: أنهما شيء واحد، قال الشنقيطي: ({وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيْسَى} [البقرة: 136] لم يبيِّن هنا ما أوتيه موسى وعيسى، ولكنه بيَّنه في مواضع أخر، فذكر أن ما أوتيه موسى هو التوراة المعبَّر عنها بالصحف في قوله: {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى *} [الأعلى] ، وذلك كقوله: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الأنعام: 154] ، وهو التوراة بالإجماع»[17]
وجاء عن ابن باز ما يدل على أنها التوراة من إجابته على السؤال التالي: « س : المعروف أن الكتب السماوية المنزلة هي أربعة: التوراة، الزبور، الإنجيل، القرآن. فماذا عن صحف إبراهيم وموسى التي جاء ذكرها في القرآن الكريم الآيتان رقم (18 و19) من سورة الأعلى. أرجو إعطائي نبذة وتعريفًا عن هذه الصحف المطهرة؟
ج : قد أخبر الله سبحانه أنه أرسل رسله بالبينات والزبر، كما قال عزّ وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل] والزبر هي الكتب. وقال سبحانه في سورة الحديد: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] ، ونصَّ سبحانه على صحف إبراهيم وموسى في سورة: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *} وبيَّن سبحانه من هذه الكتب والصحف: التوراة المنزلة على موسى، والزبور المنزل على داود، والإنجيل المنزل على عيسى، والقرآن المنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم، وليس للعباد من العلم إلا ما علَّمهم الله إياه في كتابه أو على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلّم، والله ولي التوفيق»[18].
وأما ابن عثيمين فقد توقف في الأمر لما سئل قائلاً: «يحتمل أنها التوراة، ويحتمل غيرها، ولم يتبين لي فيها شيء»[19].
القول الثاني: بل كل منهما مختلف عن الآخر. ولعل دليل هذا القول حديث أبي ذر الطويل، وفيه: «وأنزل على موسى ـ قبل التوراة ـ عشر صحائف»[20] ، وهو ضعيف جدًّا.
أما الألواح فهي التوراة كما سماها الله تعالى بقوله: {وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف: 150] [21].


[1] أخرجه ابن حبان في صحيحه (كتاب التاريخ، رقم6190) [الرسالة، ط2]، والحاكم (كتاب التفسير، رقم 3039) [دار الكتب العلمية، ط1]، وصححه الحاكم وابن كثير على شرط مسلم. انظر: البداية والنهاية (1/237) [دار هجر، ط1]، وصححه الألباني أيضًا في السلسة الصحيحة (6/359) [مكتبة المعارف، ط1].
[2] أخرجه البخاري (كتاب مناقب الأنصار، رقم 3887)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 162).
[3] مثل الطاق: أي كالكوة. انظر: فتح الباري لابن حجر (1/151)، والمقصود: أن مكان دخوله في البحر بقي كالفتحة والشق ولم يتلاءم الماء كما كان.
[4] النول: هو الأجر والجُعل والعطية. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (5/129).
[5] القَدُّوم هي: الحديدة التي يُنحت بها. انظر: مقاييس اللغة لابن فارس (5/66).
[6] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3401)، ومسلم (كتاب الفضائل، رقم 2380).
[7] انظر: تفسير ابن كثير (5/287 ـ 288)، وقصص الأنبياء للنجار (163، 164) [دار إحياء التراث العربي، ط3].
[8] انظر: تفسير ابن كثير (5/288).
[9] انظر: تفسير البغوي (6/202) [دار طيبة، ط4].
[10] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3409)، ومسلم (كتاب القدر، رقم 2652).
[11] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3409)، ومسلم (كتاب القدر، رقم 2652)، واللفظ له.
[12] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/258، 259) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1416هـ]، والقول المفيد على كتاب التوحيد لابن عثيمين (2/374، 375) [دار ابن الجوزي، الدمام، ط2، محرم 1424هـ].
[13] أخرجه البخاري (كتاب مناقب الأنصار، رقم 3887) واللفظ له، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 164).
[14] أخرجه الترمذي (أبواب تفسير القرآن، رقم 3074) وقال: «حسن صحيح»، والحاكم (كتاب الإيمان، رقم 67) وصححه، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (3/238، 239) [مكتبة المعارف، الطبعة الأولى للطبعة الجديدة 1420هـ].
[15] أخرجه مسلم (كتاب الفتن وأشراط الساعة، رقم 169).
[16] انظر: مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (8/50) [دار الوطن، 1413هـ].
[17] أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/45).
[18] مجموع فتاوى ورسائل ابن باز (9/305).
[19] الكنز الثمين في سؤالات ابن سنيد لابن عثيمين (5).
[20] أخرجه ابن حبان في صحيحه (كتاب البر والإحسان، رقم 361)، قال الهيثمي في موارد الظمآن (1/54) [دار الكتب العلمية، بيروت]: «فيه إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني؛ قال أبو حاتم وغيره: كذَّاب»، وحكم عليه الألباني بالضعف الشديد في ضعيف الترغيب والترهيب رقم 1352 [مكتبة المعارف بالرياض، ط1، 1421هـ].
[21] انظر: لقاء الباب المفتوح (16) [ترقيم المكتبة الشاملة].


1 ـ «المعارف»، لابن قتيبة.
2 ـ «المعرب»، للجواليقي.
3 ـ «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم» (ج1)، لابن الجوزي.
4 ـ «مجموع الفتاوى» (ج11)، لابن تيمية.
5 ـ «البداية والنهاية» (ج2)، لابن كثير.
6 ـ «تفسير ابن كثير» (ج5).
7 ـ «صحيح (قصص الأنبياء لابن كثير)»، لسليم الهلالي.
8 ـ «الأحاديث الصحيحة من أخبار وقصص الأنبياء»، لإبراهيم بن محمد العلي.
9 ـ «قصص الأنبياء»، للنجار.
10 ـ «فبهداهم اقتده: قراءة تأصيلية في سير وقصص الأنبياء عليهم السلام»، لعثمان الخميس.