الألفاظ : جمع لفظ، قال ابن فارس رحمه الله: «اللام والفاء والظاء كلمةٌ صحيحة تدل على طرح الشَّيء»[1]. تقول: «لَفَظَ بالكلام يَلفِظ لَفظًا. ولفظتُ الشّيءَ من فمي. ولَفَظَ بالكلام وتَلَفَّظَ به: تكلم به، واللَّفْظُ واحد الألْفاظِ وهو في الأصل مصدر»[2]، واللفظ قد يرد بمعنى المصدر وقد يرد بمعنى المفعول، فيراد به الملفوظ نفسه.
المجملة : قال ابن فارس رحمه الله: «الجيم والميم واللام أصلان: أحدهما تجمُّع وعِظَم الخَلْق، والآخر حُسْنٌ. فالأوّل قولك أجْمَلْتُ الشّيءَ، وهذه جُمْلة الشّيء. وأجمَلْتُه حصّلته»[3]. والمجمل: ما جعل جملة واحدة، لا ينفرد بعض آحادها عن بعض.
قال الجوهري: «وقد أجملت الحساب: إذا رددته إلى الجملة[4].
[1] مقاييس اللغة (5/259) [دار الفكر، ط1399هـ].
[2] لسان العرب (7/461) [دار صادر، ط3]، ومختار الصحاح (283) [المكتبة العصرية، ط5].
[3] مقاييس اللغة (1/481).
[4] انظر: الصحاح (4/1662).
هي الألفاظ المحدثة التي تحتمل حقًّا وباطلاً، مثل: الجسم والجهة والحيز[1].
[1] انظر: روضة الناظر لابن قدامة (1/516) [مؤسسة الريان، ط2]، وشرح مختصر الروضة (2/647) [مؤسسة الرسالة، ط1]. وانظر أيضًا: موقف ابن تيمية وابن القيم من الألفاظ المجملة المتعلقة بأبواب التوحيد والقضاء والقدر (48) [رسالة ماجستير مقدمة لقسم العقيدة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، عام 1428هـ].
حقيقة هذه المسألة: أن يعلم أن الألفاظ نوعان:
1 ـ ما جاء في الكتاب والسُّنَّة، فهذا يجب الإقرار به، فيثبت ما أثبته الله ورسوله، وينفي ما نفاه الله ورسوله.
2 ـ ألفاظ ليست في الكتاب والسُّنَّة ولا اتفق السلف على نفيها أو إثباتها؛ فالأصل في حكم إطلاقها هو المنع، لكن إذا دعت الحاجة إلى ذلك، ونظر في مقصود قائلها وكانت المعاني صحيحة، جاز إطلاقها. أما في حال عدم الحاجة إلى إطلاقها فإن السلف كرهوا التكلم بها[1].
[1] انظر: مجموع الفتاوى (3/306) (12/113 ـ 114).
أولاً: نصوص عامة:
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ *} [الأنعام] ، فالقرآن نزل مفصلاً حتى يتميز طريق الحق من طريق المجرمين، والتفصيل هو خلاف الإجمال. قال السعدي رحمه الله: «{وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ}؛ أي: نوضحها ونبينها، ونميز بين طريق الهدى من الضلال، والغي والرشاد، ليهتدي بذلك المهتدون، ويتبين الحق الذي ينبغي سلوكه. {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ *} الموصلة إلى سخط الله وعذابه، فإن سبيل المجرمين إذا استبانت واتضحت، أمكن اجتنابها، والبعد منها، بخلاف ما لو كانت مشتبهة ملتبسة، فإنه لا يحصل هذا المقصود الجليل»[1].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ *} [الأعراف] . فهو سبحانه بيَّنه وأنزله على عباده بعلم ليس كمن يتكلم بلا علم.
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104] ، فكلمة (راعنا) لفظ مجمل، أراد منه اليهود معنى باطلاً، ألا وهو تنقص النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأمرنا القرآن أن نبتعد عن الإجمال، وأن نستخدم ألفاظًا واضحة، بقوله: {وَقُولُوا انْظُرْنَا}.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضئ ربك، اسق ربك، وليقل: سيدي ومولاي. ولا يقل أحدكم: عبدي، أمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي» [2]. فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يعدل عن اللفظ المجمل إلى لفظ غير مجمل؛ لأن العبودية والربوبية ألفاظ يفهم منها معنى صحيح ومعنى باطل. فاستخدام الألفاظ الواضحة غير المشتبهة هو الواجب.
[1] تفسير السعدي (258) [مؤسسة الرسالة، ط1].
[2] أخرجه البخاري (كتاب العتق، رقم 2552)، ومسلم (كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، رقم 2249).
سئل الإمام الأوزاعي رحمه الله عن الجبر فقال: «ما أعرف للجبر أصلاً من القرآن ولا السُّنَّة، فأهاب أن أقول ذلك، ولكن: القضاء والقدر والخلق والجبل، فهذا يعرف في القرآن والحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم»[1].
وقال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله: «وأما الألفاظ التي لم يرد نفيها ولا إثباتها فلا تطلق حتى ينظر في مقصود قائلها؛ فإن كان معنى صحيحًا قبل، لكن ينبغي التعبير عنه بألفاظ النصوص، دون الألفاظ المجملة، إلا عند الحاجة، مع قرائن تبين المراد»[2].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «وأما الألفاظ التي ليست في الكتاب والسُّنَّة ولا اتفق السلف على نفيها أو إثباتها، فهذه ليس على أحد أن يوافق من نفاها أو أثبتها حتى يستفسر عن مراده؛ فإن أراد بها معنى يوافق خبر الرسول أقر به، وإن أراد بها معنى يخالف خبر الرسول أنكره. ثم التعبير عن تلك المعاني إن كان في ألفاظه اشتباه أو إجمال عبَّر بغيرها أو بيَّن مراده بها، بحيث يحصل تعريف الحق بالوجه الشرعي؛ فإن كثيرًا من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة مبتدعة ومعان مشتبهة»[3].
[1] أخرجه الخلال في السُّنَّة (3/555) [دار الراية، ط2].
[2] شرح الطحاوية (189 ـ 190) [وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف، ط1]. وانظر: مجموع الفتاوى (3/41).
[3] مجموع الفتاوى (12/114).
ـ حكم استعمال: (بائن من خلقه)، (كلام الله غير مخلوق)، (الحد):
1 ـ قولهم: «بائن من خلقه»: هذا اللفظ من الألفاظ المعروفة التي بينت معانيها، وهي من الألفاظ التي أثرت عن السلف رضي الله عنهم، وهذه الألفاظ إنما تستعمل في باب الإخبار عن الله عزّ وجل، ولا تسمى في باب الأسماء.
والسلف رضي الله عنهم استعملوا هذا اللفظ ردًّا على الجهمية الحلولية، فقالوا: إن الله بائن من خلقه غير مختلط بهم، والجهمية هم الذين ينكرون مباينة الله لخلقه، فهذا اللفظ يحمل معاني صحيحة دلت عليها النصوص. وهذا النوع من الألفاظ يجيز جمهور أهل السُّنَّة استعماله[1].
2 ـ قولهم: «كلام الله غير مخلوق»: هذا اللفظ من الألفاظ التي تكلم السلف بها للتوضيح والبيان، وكلمة (غير مخلوق) لم ترد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا عن أصحابه رضي الله عنهم، لكن لما كان المبتدعة يتلفظون بألفاظ مجملة، يريدون من ورائها تقويض مذهب السلف، ونفي صفة الكلام عن الله تعالى، بيَّن أهل السُّنَّة أنه واجب على المسلم أن يقول: (غير مخلوق)، ومن لم يقل بهذه الكلمة بدع وعد من الواقفة الذين وصفوا بأنهم شر من الجهمية؛ لأنهم شكوا في كلام الله تعالى. وبعضهم يستعمل هذا اللفظ (تقية) من أجل إخفاء تجهمه. فكان علامة السُّنِّي أن يفصِّل القول ويقول: كلام الله غير مخلوق.
ولهذا لما سئل الإمام أحمد بن حنبل: هل لهم رخصة أن يقول الرجل: القرآن كلام الله تعالى ثم يسكت؟ فقال: ولِمَ يسكت؟ ولولا ما وقع فيه الناس كان يسعه السكوت ولكن حيث تكلموا فيما تكلموا لأي شيء لا يتكلمون؟![2].
3 ـ قولهم: «الحد»: هذا اللفظ من الألفاظ الحادثة التي لم يكن يعرفها الصدر الأول من السلف الصالح، ولم ترد في النصوص الشرعية نفيًا ولا إثباتًا.
وموقف السلف من ذلك الاستفصال: فإن أراد بإثبات الحد أن الله بائن من خلقه منفصل عنهم فهو حق، وإن أراد بنفي الحد أن الله لا يقدر حده إلا هو سبحانه فهذا أيضًا حق، وإن قصد بالنفي أن الله في كل مكان، فهذا باطل مردود.
قال ابن أبي العز رحمه الله: «ومن المعلوم أن الحد يقال على ما ينفصل به الشيء ويتميز به عن غيره، والله تعالى غير حال في خلقه، ولا قائم بهم، بل هو القيوم القائم بنفسه، المقيم لما سواه، فالحد بهذا المعنى لا يجوز أن يكون فيه منازعة في نفس الأمر أصلاً، فإنه ليس وراء نفيه إلا نفي وجوب الرب ونفي حقيقته، وأما الحد بمعنى العلم والقول، وهو أن يحده العباد، فهذا منتف بلا منازعة بين أهل السُّنَّة»[3].
من السلف من أثبته ومنهم من نفاه، قال شيخ الإسلام: «فإن المشاهير بالإمامة في السُّنَّة أثبتوه، كما ذكره عثمان بن سعيد عنهم وسمى ابن المبارك»[4].
ومراد السلف من ذلك سد الطريق على الجهمية فيما ادعوه من أن الله تعالى في كل مكان.
وأما ما جاء عن الإمام أحمد من روايات في نفي الحد عن الله تعالى، فقد وجه ذلك شيخ الإسلام بقوله: «فهذا الكلام من الإمام أبي عبد الله أحمد رحمه الله، يبين أنه نفى أن العباد يحدون الله تعالى أو صفاته بحد، أو يقدرون ذلك بقدر، أو أن يبلغوا إلى أن يصفوا ذلك، وذلك لا ينافي ما تقدم من إثبات أنه في نفسه له حد يعلمه هو لا يعلمه غيره، أو أنه هو يصف نفسه. وهكذا كلام سائر أئمة السلف يثبتون الحقائق وينفون علم العباد بكنهها»[5].
[1] انظر: الرد على الجهمية للدارمي (27) [دار ابن الأثير، ط2]، ومجموع الفتاوى (3/306) (12/113 ـ 114).
[2] أخرجه أبو داود في مسائله عن أحمد (355، رقم 1705) [مكتبة ابن تيمية، ط1، 1420هـ].
[3] شرح الطحاوية (190).
[4] بيان تلبيس الجهمية (3/697).
[5] بيان تلبيس الجهمية (2/628) و(3/706)، وسير أعلام النبلاء (20/85 ـ 86).
لا شكَّ أن الألفاظ المجملة تركت آثارًا سيئة وأضرارًا كبيرة في الأمة، وقد حذَّر منها العلماء كما جاء عن ابن القيم رحمه الله أنه قال: «فإياك ثم إياك والألفاظ المجملة المشتبهة التي وقع اصطلاح القوم عليها، فإنها أصل البلاء وهي مورد الصديق والزنديق»[1].
ومما يدل على خطورة ذلك أمور:
1 ـ تحريف نصوص الكتاب والسُّنَّة: فبسبب تأثر المتكلمين بهذه الألفاظ واعتنائهم بها، وقعوا في تحريف نصوص الشرع ومعارضتها بحيث إن جاء نص يخالف ذلك اللفظ المجمل صار يحرفه عن مدلوله البيِّن الواضح، وقالوا: هذه أدلة لفظية لا تفيد اليقين، وإنما اليقين في معقولات اليونان[2].
2 ـ الانحراف عن الحق وتباين المواقف في النصوص؛ فالمبتدعة لما اهتموا بالطرق البدعية والأدلة المبتدعة المركبة من الألفاظ المجملة ـ لا سيما فيما يتعلق بإثبات الخالق ـ انحرفوا عن سواء السبيل، وصاروا ثلاث طوائف: أهل التخييل، وأهل التأويل، وأهل التجهيل[3].
[1] مدارج السالكين (3/143) [دار الكتاب العربي، ط3].
[2] موقف ابن تيمية وابن القيم من الألفاظ المجملة (74). وانظر: درء التعارض (1/221، 209)، والصواعق المرسلة (3/925 ـ 926)
[3] انظر: الفتوى الحموية الكبرى (274 ـ 277) [دار الصميعي، ط2]، ومجموع الفتاوى (5/31 ـ 35)، ودرء التعارض (1/8 ـ 20، 201 ـ 208)، والصواعق المرسلة (3/1048 ـ 1051).
الحكمة من منع إطلاق الألفاظ المجملة:
1 ـ لحماية جناب الدين من عبث المضلين.
2 ـ لئلا يقال على الله بغير علم.
3 ـ لكي تفهم الألفاظ الشرعية الفهم الصحيح الموافق لمراد الله ومراد رسوله صلّى الله عليه وسلّم.
4 ـ ولقطع الطريق على أهل الهواء والبدع الذين اتخذوا الألفاظ المجملة مطية لنشر عقائدهم الباطلة وتمريرها على الناس، لذا كان موقف أهل السُّنَّة حازمًا جدًّا، حيث امتنعوا عن إطلاق تلك الألفاظ نفيًا وإثباتًا إلا بعد الاستفسار والتفصيل، لكي يثبت المعنى الحق وينفى المعنى الباطل.
أهل الأهواء يستخدمون الألفاظ المجملة، المشتملة على حق وباطل، للتلبيس على الناس في عقيدتهم، وجرهم إلى الاختلاف، لذلك ذم السلف هذا المسلك، وذمهم له ليس لمجرد الاصطلاحات المولدة فيه؛ بل لأن المعاني التي يعبرون عنها بهذه الألفاظ والعبارات فيها من الباطل المذموم في الأدلة والأحكام ما يجب النهي عنه، فهي مشتملة على معان مجملة في النفي والإثبات، وهذا يؤدي إلى الالتباس وعدم بيان الحق، فأكثر اختلاف الناس سببه هذه الألفاظ المجملة، والمعاني المشتبهة[1].
والواجب التزام نصوص الكتاب والسُّنَّة وترك الألفاظ المجملة الموهمة؛ لأنها تحتمل حقًّا وباطلاً، وليس لها ضابط يضبطها، بل كل طائفة تستعملها لتأييد اعتقادها، فلا يجوز اتخاذ الألفاظ المجملة تكأة لنفي وتأويل ما ثبت بالكتاب أو السُّنَّة.
[1] انظر: درء التعارض (1/44، 232).
1 ـ «بيان تلبيس الجهمية» (ج3)، لابن تيمية.
2 ـ «درء تعارض العقل والنقل» (ج1)، لابن تيمية.
3 ـ «روضة الناظر وجنة المناظر» (ج1)، لابن قدامة.
4 ـ «شرح الطحاوية»، لابن أبي العز الحنفي.
5 ـ «الصفات الإلهية؛ تعريفها، أقسامها»، لمحمد خليفة التميمي.
6 ـ «الصواعق المرسلة» (ج3)، لابن القيم.
7 ـ «القواعد الكلية للأسماء والصفات عند السلف (القاعدة التاسعة)»، لإبراهيم البريكان.
8 ـ «مجموع الفتاوى» (ج3، 5، 17)، لابن تيمية.
9 ـ «مدارج السالكين» (ج3)، لابن القيم.
10 ـ «النفي في باب صفات الله عزّ وجل بين أهل السُّنَّة والجماعة والمعطلة»، لأرزقي بن محمد سعيداني.