حرف الميم / الميثاق

           

الميثاق : مشتق من مادّة (و ـ ث ـ ق). قال ابن فارس: «الواو والثاء والقاف كلمة تدلّ على عَقْد وإحْكام، وَوَثَّقْت الشيء: أحكَمْتَه، وناقة موثَّقة الخلق؛ أي: محكمته. والميثَاق: العَهْد المحكم»[1]. وقال الفيروزآبادي: «المِيثاق: عَقْدٌ يؤكد بيمين وعَهْد، وأخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف»[2].
والوَثاقَة : مصدر الشيء الوَثيق الْمُحكم، والفعل اللازم: وَثُقَ وثاقة فهو وَثيق. والوثيقةُ في الأمر: إحكامُهُ والأخذ بالثقَة، والجمع: الوَثائق. والمُواثَقة: المعاهدة»[3].


[1] مقاييس اللغة (6/85) [دار الفكر، ط1399هـ].
[2] بصائر ذوي التمييز (5/158) [لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة، ط 1412هـ].
[3] تهذيب اللغة (9/206) [دار إحياء التراث العربي، ط1، 2001م]، ولسان العرب (10/371) [دار صادر، ط3].


هو إقرار بني آدم بربوبية الله تعالى، وشهادتهم على أنفسهم بأنه ربهم وهم مخلوقون له، فشهدوا على أنفسهم بأنهم عبيده[1].


[1] انظر: درء التعارض لابن تيمية (8/488).


من الألفاظ المرادفة لكلمة الميثاق: العهد، الإشهاد، الفطرة.



يجب الإيمان بأن الله تعالى أخذ الميثاق من بني آدم، فجعلهم شاهدين على أنفسهم مقرِّين بربوبية الله تعالى لهم وأنهم عبيدٌ له سبحانه، فأما نطقهم وتكلمهم بذلك، فليس في شيء من الأحاديث التي تقوم بها الحجة ولا يدل عليه القرآن. فالإشهاد على أنفسهم كان على وجه الإقرار ولسان الحال، لا بلسان المقال[1].


[1] انظر: درء التعارض لابن تيمية (8/483، 485)، وأحكام أهل الذمة لابن القيم (2/1004) [مكتبة رمادي، ط1، 1418هـ].


حـقـيـقـة الـمـيـثـاق فـي قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] فيها قولان لأهل العلم[1]:
الأول: أن الإشهاد في الآية يُفسر بالفطرة على التوحيد، وهو مما خلقوا عليه وجبلوا عليه. والأحاديث الواردة في ذلك دالَّة على إثبات القدر السابق واستخراج صور بني آدم وتميز أهل السعادة من أهل الشقاوة.
الثاني: أن الله أخرج جميع ذرية آدم من ظهور الآباء في صورة الذر، وأشهدهم على أنفسهم بلسان المقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ثم أرسل بعد ذلك الرسل مذكرة بذلك الميثاق.


[1] انظر: المصدر السابق.


أهمية الميثاق الذي أخذه الله على آدم وذريته تتبين في أن الله تبارك وتعالى تعرف قبل التكليف بنفسه وبعد التكليف بالسفراء؛ لأنه لو خاطبهم وكاشفهم قبل التكليف بلا سفير لبطل التكليف، لذا فإن كل واحد من بني آدم يجد أثر عهد الله وميثاقه في سويداء قلبه، فإن الله تعالى لما تعرّف إلى عباده بنفسه يوم الميثاق أبقى أثر معرفته وميثاقه في فطرة كل واحد من بني آدم[1].


[1] انظر: درء التعارض لابن تيمية (8/510)، وميثاق الإيمان لعيسى بن عبد الله السعدي (24، 25).


قال تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ *} [البقرة] ،
وقال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *} [الحديد] ؛ أي: وقد أخذ منكم ربكم ميثاقكم في صلب آدم، بأن الله ربكم لا إله لكم سواه[1].
وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ *} [الأعراف] .
ومن السُّنَّة : ما جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذابًا يوم القيامة: لو أن لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقول: أردت منك أهون من هذا، وأنت في صلب آدم: أن لا تشرك بي شيئًا، فأبيت إلا أن تشرك بي»[2].
وعن هشام بن حكيم؛ أن رجلاً أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، أنبتدئ الأعمال أم قد قضي القضاء؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله أخذ ذرية آدم من ظهره، ثم أشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفة، فقال: هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار»[3].
وعن شداد بن أوس رضي الله عنه؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «سيد الاستغفار أن تقول: اللَّهُمَّ أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت» [4] الحديث. قال ابن بطال رحمه الله: «يريد العهد الذي أخذه الله على عباده حيث أخرجهم أمثال الذر وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ فأقروا له بالربوبية وأذعنوا له بالوحدانية»[5].


[1] تفسير الطبري (22/390) [دار هجر، ط1].
[2] أخرجه البخاري (كتاب الرقاق، رقم 6557)، ومسلم (كتاب صفة القيامة والجنة والنار، رقم 2805).
[3] أخرجه ابن أبي عاصم في السُّنَّة (1/73، 74) [المكتب الإسلامي، ط1]، والطبراني في المعجم الكبير (22/168) [مكتبة ابن تيمية، ط2، 1415هـ] واللفظ له، والبيهقي في القضاء والقدر (225) [مكتبة العبيكان، ط1، 1421هـ]، وحسن إسناده الهيثمي في المجمع (7/187) [مكتبة القدسي]، وصححه الألباني في ظلال السُّنَّة [المكتب الإسلامي، ط1، 1400هـ].
[4] أخرجه البخاري (كتاب الدعوات، رقم 6306).
[5] فتح الباري (1/99، 100).


قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فإشهادهم على أنفسهم جعلهم شاهدين على أنفسهم؛ أي: مقرين له بربوبيته، كما قال في تمام الكلام: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172] ، فقولهم: بلى شهدنا، هو إقرارهم بربوبيته، وهو شهادتهم على أنفسهم بأنه ربهم وهم مخلوقون به، فشهدوا على أنفسهم بأنهم عبيده. كما يقول المملوك: هذا سيدي، فيشهد على نفسه بأنه مملوك لسيده، وذلك يقتضي أن هذا الإشهاد من لوازم الإنسان، فكل إنسان قد جعله الله مقرًّا بربوبيته، شاهدًا على نفسه بأنه مخلوق والله خالقه. ولهذا جميع بنى آدم مقرون بهذا شاهدون به على أنفسهم. وهذا أمر ضروري لهم لا ينفك عنه مخلوق، وهو مما خلقوا عليه وجبلوا عليه، وجعل علمًا ضروريًّا لهم، لا يمكن أحدًا جحده»[1].
وقال ابن كثير رحمه الله: «يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم، شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه»[2].
وقال ابن أبي العز الحنفي: «أخبر سبحانه أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو. وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلب آدم عليه السلام، وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وإلى أصحاب الشمال، وفي بعضها الإشهاد عليهم بأن الله ربهم»[3]


[1] درء التعارض لابن تيمية (8/488).
[2] تفسير ابن كثير (3/500) [دار طيبة، ط2].
[3] شرح الطحاوية (214) [وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف، ط1، 1418هـ].


ـ معاني الميثاق الوارد في النصوص:
وردت كلمة (ميثاق) في النصوص بمعانٍ عدة، غير المعنى المراد به هنا.
فقد وردت بمعنى العهد الذي أخذه الله تعالى على عباده ألا ينقضوه[1]، قال تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة] .
ووردت أيضًا بمعنى ما أخذه الله على بني إسرائيل من امتثال ما أنزل الله من التوراة[2]، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الْطُّورَ} [البقرة: 63]
ووردت أيضًا بمعنى ما أخذه الله على الأنبياء عليهم السلام من إقامة دين الله، وإبلاغ رسالته وأن يصدق بعضهم بعضًا، ويأمر بعضهم بالإيمان بعضًا[3]، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا *} [الأحزاب] .
ووردت أيضًا بمعنى عقد النكاح[4]، قال تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا *} [النساء] .
ووردت أيضًا بمعنى العقود والعهود والمواثيق التي عقدها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع بعض المشركين[5]، قال تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 90] .
ووردت أيضًا بمعنى البيعة التي بايع الصحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليها[6]، قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [المائدة: 7] .
ووردت أيضًا بمعنى العهد والعقد مطلقًا مما يكون بين الخلق وخالقهم أو بعضهم مع بعض[7]، قال تعالى: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ *} [الرعد] .


[1] انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (1/347).
[2] انظر: زاد المسير لابن الجوزي (1/93)، والتحرير والتنوير لابن عاشور (1/582).
[3] انظر: الجامع لأحكام القرآن (4/124)، وتفسير ابن كثير (3/469).
[4] انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/103)، وتفسير ابن كثير (1/467).
[5] انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/308).
[6] انظر: الجامع لأحكام القرآن (6/108)، وتفسير ابن كثير (2/30).
[7] انظر: الجامع لأحكام القرآن (9/307)، وتفسير النسفي (2/409).


ذهب بعض أهل العلم من أهل السُّنَّة وغيرهم إلى أن الله أخرج جميع ذرية آدم من ظهور الآباء ونثرهم كالذر، وأشهدهم على أنفسهم بلسان المقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ثم أرسل بعد ذلك الرسل مذكرة بذلك الميثاق[1].


[1] انظر: درء التعارض لابن تيمية (8/483، 485)، وأحكام أهل الذمة لابن القيم (2/1004).


أن الاستخراج والاستنطاق لم يرد فيهما شيء من الأحاديث التي تقوم بها الحجة ولا يدل عليهما القرآن. وأن معنى الشهادة في قوله تعالى: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} يراد بها الإقرار، ولا يلزم في هذا النطق، بل الشهادة تكون حالاً ومقالاً، فالشهادة على النفس معناها الإقرار؛ أي: جعلهم مقرين بهذا الميثاق، ومن ذلك قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة: 17] وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر حالاً لا مقالاً، فإنهم كانوا مقرين لما هو كفر، فكان ذلك شهادتهم على أنفسهم، وإن لم ينطقوا بذلك. وكذلك قوله: {قَالُوا بَلَى} القول: قد يكون باللفظ، وقد يكون بالحال[1].


[1] انظر: درء التعارض لابن تيمية (8/485)، وشرح الطحاوية (214).


1 ـ «أحكام أهل الذمة» (ج2)، لابن القيم.
2 ـ «أخذ الميثاق»، لعبد العزيز العثيم.
3 ـ «تفسير ابن كثير» (ج3).
4 ـ «درء تعارض العقل والنقل» (ج8)، لابن تيمية.
5 ـ «الروح»، لابن القيم.
6 ـ «شرح الطحاوية»، لابن أبي العز الحنفي.
7 ـ «العهد والميثاق في القرآن الكريم»، لناصر العمر.
8 ـ «فتح الباري» (ج1)، لابن حجر.
9 ـ «الفطرة: حقيقتها ومذاهب الناس فيها»، لعلي بن عبد الله القرني.
10 ـ «ميثاق الإيمان»، لعيسى بن عبد الله السعدي.