النار : تقال للهيب الذي يبدو للحاسة، وللحرارة المجردة[1]، قال ابن فارس: «النون والواو والراء أصل صحيح يدل على إضاءة واضطراب وقلة ثبات. منه النور والنار، سُمِّيا بذلك من طريقة الإضاءة، ولأن ذلك يكون مضطربًا سريع الحركة»[2].
والحشر : هو السّوق والبعثُ والانبعاث. وأهل اللغة يقولون: الحشر الجمع مع سَوْقٍ، وكلُّ جمعٍ حَشْر. والعرب تقول: حَشرَتْ مالَ بني فلانٍ السنة كأنّها جمعته؛ أي: ذهبت به وأتَتْ عليه. ولا يقال الحشر إلا في الجماعة، وسمي يوم القيامة يوم الحشر؛ لأن الخلائق تجمع فيه[3].
[1] ينظر: مفردات ألفاظ القرآن (828) [دار القلم، ط1، 1412هـ].
[2] مقاييس اللغة (5/368) [دار الفكر، 1399هـ].
[3] ينظر: مقاييس اللغة (2/66)، ومفردات ألفاظ القرآن (237)، والصحاح (539) [دار الحديث، 1430هـ].
عن حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال: اطَّلع النبي صلّى الله عليه وسلّم علينا ونحن نتذاكر، فقال: «ما تذاكرون؟» قالوا: نذكر الساعة. قال: «إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات. فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم صلّى الله عليه وسلّم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن، تطرد الناس إلى محشرهم» ، وفي رواية: «نار تخرج من قعرة عدن ترحل الناس، تنزل معهم إذا نزلوا، وتقيل معهم حيث قالوا» [1]. وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب» [2]. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ستخرج نار قبل يوم القيامة من بحر حضرموت ـ أو: من حضرموت ـ تحشر الناس. قالوا: فبما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: عليكم بالشام»[3].
[1] أخرجه مسلم (كتاب الفتن وأشراط الساعة، رقم 2901).
[2] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3329).
[3] أخرجه الترمذي (أبواب الفتن، رقم 2217) وقال: حسن صحيح، وأحمد (9/145) [مؤسسة الرسالة، ط2، 1428هـ]، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 2768).
قال السفاريني: «وآخر الآيات العظام والعلامات الجسام: حشر النار للناس من المشرق إلى المغرب ومن اليمن إلى مهاجر إبراهيم عليه السلام وهو أرض الشام، كما أتى ذلك مصرحًا به في محكم الأخبار، وفي صحيح الآثار»[1]. وقال صديق حسن خان: «ويجب الإيمان بكل ما أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وصح به الخبر عنه، مما شهدناه أو غاب عنا أنه صدق وحق، سواء في ذلك ما عقلناه، أو جهلناه، ولم نطلع على حقيقة معناه، وكان يقظة لا منامًا، ومن ذلك: أشراط الساعة وتخرج الدابة والنار»[2]. وقال التويجري: «والحق أن النار التي أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بخروجها في آخر الزمان في عدة أحاديث صحيحة؛ أنها نار على الحقيقة، وهي من أشراط الساعة، ومن أنكر خروجها أو شكَّ في ذلك؛ فهو ممن لم يحقق الشهادة بأن محمدًا رسول الله»[3].
[1] لوامع الأنوار البهية (2/149) [المكتب الإسلامي].
[2] قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر (127 ـ 129) [ط1، 1404هـ].
[3] إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة (3/140) [دار الصميعي، ط2، 1414هـ].
المسألة الأولى: النار التي خرجت من عدن سنة 652هـ:
ذهب السيوطي والبرزنجي إلى أن النار التي تحشر الناس هي التي خرجت من عدن سنة 652هـ في خلافة المستعصم، وكان يظهر شررها في الليل إلى البحر، ويصعد منها دخان عظيم في النهار[1]. وفيما ذهبا إليه نظر؛ وذلك أن هذه النار هي التي تقوم بعدها القيامة بنص الحديث.
المسألة الثانية: النار التي خرجت في الحجاز سنة 654هـ:
هذه النار هي غير التي تقود الناس إلى محشرهم، وقد ورد ذكر هذه النار في حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز، تُضيءُ لها أعناق الإبل ببصرى» [2]. فاختلاف مكان الظهور بيّن بنص الأحاديث، فضلاً عن أن نار الحجاز معدودة في أشراط الساعة الصغرى، كما أن كثيرًا من العلماء قد جزم بوقوعها، فقد ذكر القرطبي والنووي، وأبو شامة، وابن كثير، وابن حجر العسقلاني، والسخاوي، والبرزنجي وغيرهم أن هذه النار ظهرت في عام (654هـ)[3].
المسألة الثالثة: وقت خروج النار:
ورد في حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه؛ أن خروج النار هو آخر الآيات، في حين جاء في حديث أنس رضي الله عنه؛ أن خروج النار أول الآيات، والجمع بينهما أن يقال: إن آخريتها باعتبار ما ذكر معها من الآيات الواردة معها في حديث حذيفة رضي الله عنه، وأوليتها المذكورة في حديث أنس رضي الله عنه، باعتبار أنها أول الآيات التي لا شيء بعدها من أمور الدنيا أصلاً، بل يقع بانتهائها النفخ في الصور بخلاف ما ذكر معها من الآيات الواردة في حديث حذيفة رضي الله عنه، فإنه يبقى بعد كل آية منها أشياء من أمور الدنيا[4].
المسألة الرابعة: مكان خروجها:
جاء في بعض الروايات بأن خروجها يكون من عدن، وفي بعضها الآخر أنها تحشر الناس من المشرق إلى المغرب؛ فيجاب عن ذلك: بأن كون النار تخرج من قعر عدن لا ينافي حشرها الناس من المشرق إلى المغرب، وذلك أن ابتداء خروجها من قعر عدن فإذا خرجت انتشرت في الأرض كلها، والمراد بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «تحشر الناس من المشرق إلى المغرب» إرادة تعميم الحشر لا خصوص المشرق والمغرب[5].
المسألة الخامسة: هيئة الناس حينما تحشرهم النار: الناس عندما تحشرهم هذه النار على ثلاثة أقسام: القسم الأول: راغبون طاعمون كاسون راكبون. والقسم الثاني: يمشون تارة ويركبون تارة، يعتقبون على البعير الواحد. والقسم الثالث: تحشرهم النار وتحيط بهم وتسوقهم لأرض المحشر ومن تخلف أكلته النار. فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يحشر الناس على ثلاث طرائق: راغبين راهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير، وأربعة على بعير، وعشرة على بعير. ويحشر بقيتهم النار: تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث أمسوا» [6]. قال الحافظ ابن حجر: «فإن الذي في الحديث ورد على القصد من الخلاص من الفتنة، فمن اغتنم الفرصة؛ سار على فسحة من الظهر، ويسرة في الزاد، راغبًا فيما يستقبله راهبًا فيما يستدبره وهؤلاء هم الصنف الأول في الحديث. ومن توانى حتى قلَّ الظهر وضاق عن أن يسعهم لركوبهم، اشتركوا وركبوا عقبة فيحصل اشتراك الاثنين في البعير الواحد، وكذا الثلاثة، ويمكنهم كل من الأمرين، وأما الأربعة في الواحد فالظاهر من حالهم التعاقب؛ وقد يمكنهم إذا كانوا خفافًا أو أطفالاً، وأما العشرة فبالتعاقب وسكت عمَّا فوقها إشارة إلى أنها المنتهى في ذلك، وعمَّا بينها وبين الأربعة إيجازًا واختصارًا، وهؤلاء هم الصنف الثاني في الحديث. وأما الصنف الثالث فعبَّر عنه بقوله: «تحشر بقيتهم النار» إشارة إلى أنهم عجزوا عن تحصيل ما يركبونه، ولم يقع في الحديث بيان حالهم بل يحتمل أنهم يمشون أو يسحبون فرارًا من النار التي تحشرهم»[7].
المسألة السادسة: النار تحشر الناس إلى الشام:
هذه النار تقود الناس إلى الشام التي هي أرض المحشر، كما دلَّ عليه حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ها هنا تحشرون، ها هنا تحشرون، ها هنا تحشرون (ثلاثًا) ركبانًا ومشاة وعلى وجوهكم» فأشار بيده إلى الشام، فقال: «إلى هاهنا تحشرون» [8]. وحديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ستخرج نار قبل يوم القيامة من بحر حضرموت ـ أو من حضرموت ـ تحشر الناس . قالوا: فبم تأمرنا يا رسول الله؟ قال: عليكم بالشام» [9]. وعن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الشام أرض المحشر والمنشر»[10].
المسألة السابعة: حشر النار للناس في الدنيا:
أن حشر النار للناس إنما يقع في الدنيا، ويشمل من كان حيًّا وقت خروجها، وليس المراد به الحشر بعد القيام من القبور الذي يعم الخلق كلهم الأحياء منهم والأموات، بدليل سؤال الصحابة للنبي في الحديث: «فبم تأمرنا يا رسول الله؟ قال: عليكم بالشام »[11]. قال الخطابي: «هذا الحشر يكون قبل قيام الساعة، تحشر [النار] الناس أحياء إلى الشام، وأما الحشر من القبور إلى الموقف فهو على خلاف هذه الصورة: من الركوب على الإبل والتعاقب عليها. وإنما هو على ما ورد في حديث ابن عباس في الباب: حفاة عراة مشاة[12]»[13].
[1] ينظر: تاريخ الخلفاء (401) [مطبعة السعادة، ط1، 1371هـ]، والإشاعة لأشراط الساعة (120) [دار المنهاج، ط1، 1417هـ].
[2] أخرجه البخاري (كتاب الفتن، رقم 7118)، ومسلم (كتاب الفتن وأشراط الساعة، رقم 2902).
[3] ينظر: التذكرة للقرطبي (3/1236) [دار المنهاج، ط1، 1425هـ]، وشرح صحيح مسلم (18/38) [مؤسسة قرطبة، ط1، 1412هـ]، وذيل الروضتين (190) [دار الجيل، ط2، 1974]، والنهاية أو الفتن والملاحم (1/14) [دار الكتب الحديثة، ط1]، وفتح الباري (13/85) [المطبعة السلفية، ط2، 1400هـ]، والقناعة في ما يحسن الإحاطة به من أشراط الساعة (66) [أضواء السلف، ط1، 1422هـ]، والإشاعة لأشراط الساعة (90) [دار المنهاج، ط1، 1417هـ].
[4] ينظر: القناعة في ما يحسن الإحاطة به من أشراط الساعة (64).
[5] ينظر: فتح الباري (11/386).
[6] أخرجه البخاري (كتاب الرقاق، رقم 6522)، ومسلم (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم 2861).
[7] فتح الباري (11/388).
[8] أخرجه الترمذي (أبواب صفة القيامة والرقائق والورع، رقم 2424) وحسنه، وأحمد (33/213) [مؤسسة الرسالة، ط1] واللفظ له، والحاكم (كتاب التفسير، رقم 3646)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (رقم 2302).
[9] تقدم تخريجه.
[10] أخرجه الربعي في فضائل الشام (8) [المجمع العلمي العربي بدمشق، ط1]، وسنده ضعيف جدًّا، كما ذكر الألباني في تخريجه (14) [مكتبة المعارف، ط1]. وله طريق آخر عند ابن عساكر (1/174)، صححه الألباني في تخريج أحاديث فضائل الشام (الموضع السابق)، وذكر له شاهدًا آخر أيضًا.
[11] تقدم تخريجه.
[12] أخرجه البخاري (كتاب الرقاق، رقم 6524)، ومسلم (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم 2860).
[13] فتح الباري (11/387).
ذهب بعض المعاصرين إلى أن هذه النار يمكن حملها على نار الفتنة التي يمتحن بها الدين، وتتعرض لها العقيدة[1]، وهذا تأويل فاسد مردود على قائله، وهو من تحريف الكلم عن مواضعه، «والحق أن النار التي أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بخروجها في آخر الزمان في عدة أحاديث صحيحة؛ أنها نار على الحقيقة، وهي من أشراط الساعة، ومن أنكر خروجها أو شكَّ في ذلك؛ فهو ممن لم يحقق الشهادة بأن محمدًا رسول الله»[2].
[1] ينظر: إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة (3/142).
[2] إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة (3/140).
1 ـ «إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة» (ج3)، لحمود التويجري.
2 ـ «الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة»، لصديق خان.
3 ـ «الإشاعة لأشراط الساعة»، للبرزنجي.
4 ـ «أشراط الساعة وذهاب الأخيار وبقاء الأشرار»، لعبد الملك بن حبيب الأندلسي.
5 ـ «أشراط الساعة»، ليوسف الوابل.
6 ـ «البحور الزاخرة» (ج1)، للسفاريني.
7 ـ «التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة» (ج3)، للقرطبي.
8 ـ «شرح صحيح مسلم» (ج18)، للنووي.
9 ـ «فتح الباري» (ج11)، لابن حجر العسقلاني.
10 ـ «القناعة في ما يحسن الإحاطة به من أشراط الساعة»، للسخاوي.
11 ـ «الفتن والملاحم» (ج1)، لابن كثير