يطلق النذر في اللغة على الإلزام والإيجاب، يقال: نذر؛ إذا ألزم وأوجب، وجمعه نذور، وأصل كلمة النذر تدل على تخويف أو تخوف، قال ابن فارس ـ بعد كلامه على أصل الكلمة ـ: «ومنه النذر، وهو أنه يخاف إذا أخلف»[1].
ويطلق على النذر في اللغة: النَّحْب، ومنه قوله عزّ وجل: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب: 23] ، قال الطبري: «والنحب: النذر في كلام العرب»[2]، وهو أيضًا يدل على الإلزام والإيجاب.
وفي لغة أهل الحجاز إطلاق لفظ النذر على الأرش في الجراحات، قال ابن الأثير: «وأهل الحجاز يُسمُّون الأرش نَذْرًا، وأهل العراق يُسمُّونه أَرْشًا»[3]، وقد سار بعض الفقهاء كالشافعي وغيره على لغة أهل الحجاز، فسموا ما يجب في الجراحات من الديات نذرًا[4].
[1] مقاييس اللغة (5/414).
[2] تفسير الطبري (11/145).
[3] النهاية في غريب الحديث والأثر (5/39).
[4] انظر: تاج العروس من جواهر القاموس (14/197).
قال ابن عثيمين: «هو إلزام المكلف نفسه شيئًا غير واجب»[1].
ومن أقوال العلماء المقاربة لهذا التعريف، ما يلي:
1 ـ قال الراغب الأصفهاني: «النذر: أن توجب على نفسك ما ليس بواجب لحدوث أمر»[2].
2 ـ وقال القرطبي: «هو إيجاب المكلف على نفسه من الطاعات ما لو لم يوجبه لم يلزمه»[3].
3 ـ وقال البهوتي: «هو: إلزام مكلف مختار نفسه لله تعالى شيئًا غير محال بكل قول يدل عليه»[4].
[1] القول المفيد على كتاب التوحيد (1/236) [دار العاصمة، ط1، 1415هـ].
[2] مفردات ألفاظ القرآن (797).
[3] الجامع لأحكام القرآن الكريم (21/457).
[4] الروض المربع شرح زاد المستقنع (1/375).
أثنى الله تعالى على الذين يوفون بنذرهم ومدحهم على ذلك، وهذا يدل على أنه محبوب لله تعالى، وكل محبوب له تعالى فهو عبادة، وقوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] ، هذا أمر منه سبحانه بالوفاء بالنذور، والأمر يدل على أنه عبادة؛ لأن العبادة ما أمر به شرعًا.
وقد اختلف العلماء في حكم ابتداء النذر على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن ابتداء النذر بنوعيه المطلق والمعلق مكروه، وهذا قول جمهور العلماء، واستدلوا بنهي النبي صلّى الله عليه وسلّم عن النذر، وقوله: «إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل» [1]، قالوا: فنهي النبي صلّى الله عليه وسلّم دليل على كراهيته له[2].
القول الثاني: أن ابتداء النذر بنوعيه حرام يأثم بفعله، واستدلوا بالحديث السابق على التحريم، وقالوا: إنه يشعر بعدم الثقة بالله تعالى، لا سيما النذر المعلق، وهذا رواية عند الحنابلة، مال إليها شيخ الإسلام ابن تيمية[3]، وتبعه على ذلك ابن عثيمين[4].
والقول الثالث: التفصيل في حكم النذر:
وهؤلاء اختلفوا في التفصيل على قولين:
أ ـ «القول بالتفريق بين النذر في التقرب بالأموال وبين غيرها من العبادات؛ كالصلاة والصيام ونحوهما، فقالوا بتحريم النذر في الأموال دون بقية القربات، وقد رجح ذلك الصنعاني[5].
ب ـ التفريق بين النذر المعلق والنذر المطلق، فقالوا: إن المكروه في الابتداء هو النذر المعلق بشرط؛ بدليل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدر بشيء»[6] ، وفي رواية: «إن النذر لا يقرب من ابن آدم شيئًا لم يكن الله قدره له، ولكن النذر يوافق القدر فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج»[7] ، فهذه الرواية ظاهرة في أن المراد بالنذر المنهي عنه هو النذر الذي يريد العبد به أن ينفع نفسه بجلب نفع أو دفع ضر، أما النذر الذي لا مشارطة فيه بل هو على وجه التقرب الخالص المحض فهذا مستحب ابتداؤه، لورود المدح على الوفاء به في النصوص ـ كما تقدم ـ، وهذا القول هو اختيار الشنقيطي رحمه الله[8].
والقول الأول هو الراجح في هذه المسألة، وهو قول جمهور العلماء ـ كما تقدم ـ، ورجحه كثير من المحققين من العلماء؛ كابن قدامة، والنووي، وابن حجر، وغيرهم[9].
[1] أخرجه البخاري (كتاب الأيمان والنذور، رقم 6693)، ومسلم (كتاب النذر، رقم 1639) واللفظ له.
[2] انظر: المغني لابن قدامة (13/621) [دار هجر، ط1، 1408هـ]، والمجموع شرح المهذب (8/451) [مكتبة الآثار، جدة]، وشرح مسلم للنووي (16/88)، وفتح الباري لابن حجر (11/578)، وسبل السلام للصنعاني (4/212)، وأضواء البيان (5/677).
[3] جامع المسائل لابن تيمية (3/128).
[4] انظر: القول المفيد (1/249).
[5] انظر: سبل السلام شرح بلوغ المرام (4/212).
[6] أخرجه مسلم (كتاب النذر، رقم 1640).
[7] أخرجه مسلم في الموضع السابق.
[8] انظر: أضواء البيان للشنقيطي (5/677).
[9] انظر: المغني لابن قدامة (13/621)، المجموع شرح المهذب (8/451)، وفتح الباري (11/578).
النذر هو إلزام المكلف نفسه شيئًا لم يكن لازمًا عليه شرعًا؛ تعظيمًا للمنذور له.
ولا شك أن النذر عبادة عظيمة من أجلِّ العبادات التي أمر الله تعالى بها، والدليل على ذلك، قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا *} [الإنسان] ، فقد أثنى الله عليهم ومدحهم لوفائهم بالنذر، وهذا يدل على أن ذلك محبوب لله تعالى، وكل محبوب له تعالى فهو عبادة، وقوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] ، وهذا أمر منه سبحانه بالوفاء بالنذور.
قال الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا *} [الإنسان] ، وقال تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] .
ومن السُّنَّة : قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه»[1].
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل»[2].
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدر بشيء»[3] ، وفي رواية: «إن النذر لا يقرب من ابن آدم شيئًا لم يكن الله قدره له، ولكن النذر يوافق القدر فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج»[4].
أقوال أهل العلم:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والنذر ما يقصد به التقرب إلى الله، ولهذا أوجب سبحانه الوفاء بالنذر؛ لأن صاحبه التزم طاعة الله، فأوجب على نفسه ما يحبه الله ويرضاه؛ قصدًا للتقرب بذلك الفعل إلى الله»[5].
وقال أيضًا: «وأما النذر للموتى من الأنبياء والمشايخ وغيرهم، أو لقبورهم، أو المقيمين عند قبورهم، فهو نذر شرك ومعصية لله تعالى، سواء كان النذر نفقة، أو ذهبًا، أو غير ذلك، وهو شبيه بمن ينذر للكنائس، والرهبان، وبيوت الأصنام، وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» ، وقد اتفق العلماء على أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به؛ بل عليه كفارة يمين في أحد قولي العلماء، وهذا إذا كان النذر لله، وأما إذا كان النذر لغير الله فهو كمن يحلف بغير الله، وهذا شرك فيستغفر الله منه، وليس في هذا وفاء ولا كفارة، ومن تصدق بالنقود على أهل الفقر والدين فأجره على ربِّ العالمين»[6].
وقال الصنعاني رحمه الله ـ في شرحه لحديث النهي عن النذر ـ: «قلت: القول بتحريم النذر هو الذي دلَّ عليه الحديث، ويزيد تأكيدًا تعليله بأنه لا يأتي بخير؛ فإنه يصير إخراج المال فيه من باب إضاعة المال، وإضاعة المال محرمة، فيحرم النذر بالمال كما هو ظاهر قوله: «وإنما يستخرج به من البخيل» ، وأما النذر بالصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة ونحوها من الطاعات فلا تدخل في النهي»[7].
ـ وقال عبد الرحمن بن حسن: «إن الناذر لله تعالى وحده قد علَّق رغبته به وحده؛ لعلمه بأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، والنذر عبادة، فإذا صرف لغير الله صار ذلك شركًا بالله؛ لالتفاته إلى غيره فيما يرغب فيه أو يرهب، فجعله شريكًا لله في العبادة»[8].
وقال الشنقيطي رحمه الله: «نذر القربة على نوعين:
أحدهما: معلق على حصول نفع؛ كقوله: إن شفى الله مريضي، فعليَّ لله نذر كذا، أو: إن نجاني الله من الأمر الفلاني المخوف، فعلي لله نذر كذا، ونحو ذلك.
والثاني: ليس معلقًا على نفع للناذر؛ كأن يتقرب إلى الله تقربًا خالصًا بنذر كذا، من أنواع الطاعة، وأن النهي إنما هو في القسم الأول؛ لأن النذر فيه لم يقع خالصًا للتقرب إلى الله، بل بشرط حصول نفع للناذر»[9].
[1] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان والنذور، رقم 6700).
[2] تقدم تخريجه.
[3] تقدم تخريجه.
[4] تقدم تخريجه.
[5] مجموع الفتاوى (35/334) [مجمع الملك لطباعة المصحف].
[6] مجموع الفتاوى (11/504).
[7] سبل السلام شرح بلوغ المرام، للصنعاني (4/212).
[8] قرة عيون الموحدين لعبد الرحمن بن حسن (85) بتصرف [الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، الرياض، ط3، 1404هـ]. وانظر: نواقض الإيمان القولية والعملية (293).
[9] أضواء البيان للشنقيطي (5/677).
ـ النذر لغير الله عزّ وجل:
وهذا القسم داخل في الشرك الأكبر، وذلك أن النذر لله تعالى عبادة يثاب المسلم على الوفاء بها، فكان صرفه لغير الله داخلاً في الشرك الأكبر[1].
وقد نبَّه كثير من العلماء على خطورة النذر لغير الله، ودخول صاحبه في الشرك الأكبر، كغيره من العبادات التي لا يجوز صرفها إلا لله تعالى، وذلك لما شاهدوا ظهور تلك البدعة الشركية وانتشارها في أزمانهم[2].
والمقصود: أن العلماء رحمهم الله قد حذَّروا من النذر لغير الله تعالى، وجعلوه داخلاً في الشرك كغيره من العبادات، من صلاة وصيام وذبح ونحو ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها.
وهذا النذر لغير الله لا ينعقد على الإطلاق، ولا تجب فيه كفارة كنذر المعصية، وإنما تجب فيه التوبة والاستغفار مما بدر منه من الشرك بالله تعالى.
[1] انظر: قرة عيون الموحدين لعبد الرحمن بن حسن (85)، ونواقض الإيمان القولية والعملية (293).
[2] انظر: كلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (11/504)، وصاحب تيسير العزيز الحميد (203 ـ 207) [المكتب الإسلامي، ط6، 1405هـ]، وكلام الشوكاني في الدر النضيد ـ ضمن الرسائل السلفية (20)، وكلام الشيخ المبارك الميلي في رسالة الشرك ومظاهره (233).
الفرق بين النذر واليمين:
1 ـ النذر في أصله مكروه، بخلاف اليمين فلا تكره في أصلها، وإنما تكره أو تحرم بعض صورها.
2 ـ النذر واليمين متقاربان، كلاهما فيه التزام فعل أو ترك، ولذا يذكران في باب واحد في كتب الفقه، بل ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن النذر نوع من اليمين، فقال: «والنذر نوع من اليمين، وكل نذر فهو يمين، فقول الناذر: لله عليّ أن أفعل، بمنزلة قوله: أحلف بالله لأفعلن، موجب هذين القولين التزام الفعل معلقًا بالله»[1].
3 ـ النذر يختلف في صيغته عن صيغة اليمين؛ إذ يصح بلفظ: لله علي نذر، أو: إن شفى الله مريضي لأتصدقن بكذا، ونحو ذلك، ولا يلزم في تأكيده ذكر معظم على وجه مخصوص، بخلاف اليمين.
4 ـ اليمين المنعقدة تجب فيها الكفارة، ولو كان الحلف على طاعة، بخلاف النذر فإن نذر الطاعة يجب الوفاء به ولا تصح فيه الكفارة إلا مع العجز عنه.
ـ الفرق بين نذر المعصية والنذر لغير الله:
1 ـ نذر المعصية قصد به الله تعالى، وإن كان المنذور معصية، بخلاف النذر لغير الله فإنما قصد به غير الله من الجن والقبور ونحوها.
2 ـ نذر المعصية ينعقد، لكن لا يجوز الوفاء به، وعليه كفارة يمين، بخلاف النذر لغير الله فإنه لا ينعقد أصلاً، ولا تجب فيه كفارة.
3 ـ أن حكم نذر المعصية محرم يأثم عليه فاعله، وأما النذر لغير الله فهو داخل في الشرك الأكبر.
[1] مجموع الفتاوى (35/258).
أ ـ آثار النذر لله تعالى:
1 ـ أن النذر لا يأتي بخير كما أخبر بذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم.
2 ـ أن فيه إلزامًا للنفس مما هو في حلٍّ منه، وفي ذلك زيادة تكليف عليه.
3 ـ أن الغالب على من نذر أنه يندم على ذلك، ويشق ذلك عليه.
4 ـ أن صاحبه قد يعرض نفسه للإثم إذا قصَّر فيما أوجب على نفسه.
ب ـ آثار النذر لغير الله:
1 ـ أنه يوقع في الشرك الأكبر، المخرج عن ملة الإسلام.
2 ـ أن فيه ترويجًا للخرافة والدجل، بفعل مثل ذلك عند القبور.
3 ـ أن فيه إفسادًا للأموال وتضييعًا للأوقات من دون فائدة أو منفعة.
4 ـ أن في ذلك تشجيعًا لسدنة القبور بصرف تلك النذور لهم.
1 ـ «المغني»، لابن قدامة.
2 ـ «مجموع الفتاوى» (ج1، 11)، لابن تيمية.
3 ـ «مدارج السالكين»، لابن القيم.
4 ـ «تيسير العزيز الحميد»، لسليمان بن عبد الله.
5 ـ «الدين الخالص»، لصديق حسن.
6 ـ «القول المفيد على كتاب التوحيد»، لابن عثيمين.
7 ـ «الجامع لأحكام القرآن»، للقرطبي.
8 ـ «المجموع شرح المهذب»، للنووي.
9 ـ «الموسوعة الفقهية الكويتية» (مادة نذر).
10 ـ «النذر: أنواعه ـ أحكامه ـ بدعه»، لإبراهيم بن محمد الحمد.