النفخ : نفخ الريح في الشيء، ونفخ بفمه نفخًا: أخرج منه الريح، ويقال: نفخ في البوق أو اليراع أو نحوهما؛ بعث فيه الريح بقوة من فمه؛ ليحدث صوتًا، وفي التنزيل: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} [الحاقة: 13] ، وفيه: {فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 49] [1].
الصُّور : هو القَرْن، قاله الجوهري[2]، وهو قول جمع من أهل التفسير[3]، وهو الناقور أيضًا[4]، وقيل: الصور هو البوق بلغة أهل اليمن[5]، ينفخ فيه النافخ للتجمع والنفير، وهو مما ينادى به للحرب، وعند الأسفار، وينادى به للصلاة عند اليهود[6].
[1] انظر: المعجم الوسيط (2/938) [دار الدعوة]، ولسان العرب (3/62) [دار صادر، ط1]، ومفردات ألفاظ القرآن (2/444) [دار القلم، ط2، 1418هـ]، والمحكم والمحيط الأعظم (2/344) [دار الكتب العلمية، ط1].
[2] الصحاح (3/279) [دار العلم للملايين، ط4].
[3] انظر: تفسير القرطبي (7/20) [دار إحياء التراث العربي]، وتفسير ابن كثير (2/147) [دار الفكر، 1406هـ]، وزاد المسير (3/68) [المكتب الإسلامي، ط4، 1407هـ]، ومعالم التنزيل (3/157) [دار طيبة، 1409هـ]، وروح المعاني (7/191) [دار إحياء التراث، ط4، 1405هـ].
[4] انظر: مفردات ألفاظ القرآن (841)، وتفسير الطبري (12/304) [دار طيبة، 1409هـ]، تفسير ابن كثير (4/442).
[5] انظر: تفسير القرطبي (13/239)، وزاد المسير لابن الجوزي (3/68).
[6] انظر: اللباب في علوم الكتاب (13/383) و(15/385) [دار الكتب العلمية، ط1، 1419هـ]، والتحرير والتنوير (9/409).
النفخ في الصور : أوكل الله تعالى بالنفخ في القرن ملكًا قد التقمه؛ لينفخ فيه نفختي الصعق والبعث وعلى إثرها تقوم الساعة[1].
قال حافظ الحكمي وهو يذكِّر في الإيمان باليوم الآخر: «كذلك يدخل في ذلك الإيمان بالصور والنفخ فيه، الذي جعله الله سبب الفزع والصعق والقيام من القبور، وهو القرن الذي وكَّل الله تعالى به إسرافيل، وقد ذكر الله عزّ وجل النفخ فيه في مواضع من كتابه»[2].
[1] انظر: رسائل الآخرة (3/563). وراجع: تهذيب اللغة (7/186) [دار إحياء التراث العربي، ط1، 2001م].
[2] انظر: معارج القبول للحكمي (2/799)، أعلام السُّنَّة المنشورة (129).
أفادت النصوص أن النفخ في الصور يقع مرتين، الأولى: للإفناء، وبها يهلك كل شيء إلا ما شاء الله، وتسمى الراجفة والصيحة، والثانية: للإنشاء، وبها يبعث كل شيء، وتسمى الرادفة، والبعثة، قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ *} [الزمر] ، وقال سبحانه: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ *} [النازعات] .
من الأدلة على النفخ: قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ *} [الزمر] ، وقوله سبحانه: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ *} [النمل] .
ومنه حديث أوس بن أوس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي» فقالوا: يا رسول الله، وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت؟ ـ يعني وقد بليت ـ قال: «إن الله عزّ وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء صلوات الله عليهم»[1]:
أقوال أهل العلم:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «الراجفة: النفخة الأولى، والرادفة: النفخة الثانية»[2].
وقال الحسن: «هما النفختان: أما الأولى فتميت الأحياء، وأما الثانية فتحيي الموتى»[3].
وقال قتادة: «هما الصيحتان، أما الأولى فتميت كل شيء بإذن الله، وأما الآخرة فتحيي كل شيء بإذن الله»[4].
وقال البغوي مفسرًا الراجفة: «النفخة الأولى، يتزلزل ويتحرك لها كل شيء، ويموت منها جميع الخلائق، {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ *} وهي النفخة الثانية، ردفت الأولى»[5].
[1] أخرجه أبو داود (كتاب الصلاة، رقم 1047)، والنسائي (كتاب الجمعة، رقم 1374)، وابن ماجه (كتاب إقامة الصلاة والسُّنَّة فيها، رقم 1085)، وأحمد (26/84) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والدارمي (كتاب الصلاة، رقم 1613)، وصححه النووي في الأذكار (115) [دار الفكر، 1414هـ]، والألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 1527).
[2] أخرجه البخاري معلقًا مجزومًا (كتاب الرقاق، باب نفخ الصور)، ووصله الطبري في تفسيره (24/190) [مؤسسة الرسالة، ط1].
[3] تفسير الطبري (12/425).
[4] انظر: الدر المنثور في التفسير بالمأثور (8/406).
[5] معالم التنزيل (8/326).
المسألة الأولى: الصور:
ويسمى الصور أيضًا بالقرن والناقور والبوق، وتسمية الصور بالقرن وردت في كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم[1]، وبالناقور في كلام ابن عباس رضي الله عنهما[2].
ومن أدلة إثباته قوله تعالى: {وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ *} [الأنعام] ، وقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا *} [الكهف] ، وقوله سبحانه: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ *} [النمل] ، وقوله تبارك وتعالى : {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ *} [المدثر] .
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: «جاء أعرابي إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما الصور؟ فقال: قرن ينفخ فيه»[3].
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «ينفخ في الصور، فلا يسمعه أحد إلا أصغى له، وأول من يسمعه رجل يلوط حوضه فيصعق، ثم لا يبقى أحد إلا صعق»[4].
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «كيف أنعم، وقد التقم صاحب القرن القرن وحنى جبهته وأصغى سمعه ينظر متى يؤمر؟» قال المسلمون: يا رسول الله، فما نقول: قال: «قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا» ، وفي رواية: «كيف أنعم، وصاحب الصور قد التقم الصور وحنى جبهته وأصغى سمعه ينتظر متى يؤمر»[5].
المسألة الثانية: عدد النفخات:
اختلف العلماء في عدد النفخات، فمن قائل النفخة هي الصعقة والاختلاف بينهما اختلاف في الأوصاف، وهذا مذهب من يقول بنفختين، وفي تفسير النفخة الواردة في الحديث الآنف: «قال الطيبي وتبعه ابن حجر المكي؛ أي: النفخة الأولى؛ فإنها مبدأ قيام الساعة ومقدم النشأة الثانية، ولا منع من الجمع «وفيه الصعقة»؛ أي: الصيحة وهي النفخة الأولى، فالتكرار باعتبار تغاير الوصفين»[6].
ومن قائل: النفخة تختلف عن الصعقة، فـ«المراد بالنفخة الثانية، وبالصعقة النفخة الأولى، وهذا أولى لما فيه من التغاير الحقيقي»[7].
ومن قائل: «وفيه النفخة؛ أي: وفي يوم الجمعة نفخة الصور، وهي النفخة الأولى، والنفخة الثانية وهي نفخة الصعقة، وهي الموت؛ قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الزمر: 68] ، والنفخة الثالثة: نفخة البعث والحشر»[8].
وهذا يقرب أن يكون مذهب من يقول بثلاث نفخات، الأولى: للفزع، والثانية: للصعق، والثالثة: للبعث، وهو مذهب ابن العربي[9]، وابن تيمية[10]، وابن كثير[11]، والسفاريني[12]، والشوكاني[13]، وغيرهم. مستدلين لذلك بقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ *} [النمل] ، معتبرين نفخة الفزع مغايرة لنفخة الصعق الواردة في سورة الزمر، ومستدلين أيضًا بحديث الصور الطويل يرفعه أبو هريرة، وفيه: «فينفخ فيه ثلاث نفخات، النفخة الأولى: نفخة الفزع، والثانية: نفخة الصعق، والثالثة: نفخة البعث والقيام لرب العالمين»[14].
وفي التعقيب على هذا القول قال القرطبي: «الصحيح في النفخ في الصور أنهما نفختان لا ثلاث، وأن نفخة الفزع إنما تكون راجعة إلى الصعقة؛ لأن الأمرين لازمان لهما؛ أي: فزعوا فزعًا ماتوا منه»[15]؛ «ولأن الله تعالى قد استثنى في نفخة الصعق كما استثنى في نفخة الفزع فدل على أنهما واحدة»[16].
وأما بالنسبة للحديث فلا يصح؛ لضعف إسناده واضطرابه[17].
والذي يترجح من كل ما تقدم أن النفخة هي النفخة الأولى في الصور وهي الصعقة ذاتها؛ لأن الصعق مترتب عليها وامتداد لها؛ ولأن النفخ في الصور إنما يقع مرتين على الصحيح، النفخة الأولى للإفناء، والثانية للإنشاء، وبذا يجمع بين الأدلة ويزول الإشكال.
ويؤيد ما تقدم:
قول ابن عباس رضي الله عنهما: «الراجفة: النفخة الأولى، والرادفة: النفخة الثانية»[18]، وقول الحسن: «هما النفختان: أما الأولى فتميت الأحياء، وأما الثانية فتحيي الموتى»[19].
وفي الحديث قال صلّى الله عليه وسلّم: «ينفخ في الصور، فلا يسمعه أحد إلا أصغى له، وأول من يسمعه رجل يلوط حوضه فيصعق، ثم لا يبقى أحد إلا صعق، ثم يرسل الله ـ أو: ينزل الله ـ قطرًا كأنه الطل أو الظل» ـ نعمان الشاكُّ ـ «فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون» [20]، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليَّ»، فقالوا: يا رسول الله، وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت؟ ـ يعني: وقد بليت ـ قال: «إن الله عزّ وجل حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء صلوات الله عليهم»[21].
وهذه النصوص تبطل قول من قال بأن النفخات ثلاث، ولا حجة لهم صحيحة فيما استدلوا به[22].
المسألة الثالثة: مدة ما بين النفختين:
قد جاءت النصوص بتحديد الفترة الزمنية بين النفختين بأربعين، ولا ندري أهي أربعون يومًا؟ أم أربعون شهرًا؟ أم أربعون سنة؟
قال صلّى الله عليه وسلّم: «بين النفختين أربعون» قالوا: يا أبا هريرة، أربعون يومًا؟ قال: أبيت، قال: أربعون سنة؟ قال: أبيت، قال: أربعون شهرًا؟ قال: أبيت، «ويبلى كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه، فيه يُركَّب الخلق»[23].
المسألة الرابعة: ما يترتب على النفختين[24]:
من الآثار المترتبة على النفخة الأولى ما يأتي:
1 ـ أن النفخة الأولى هي بداية الساعة.
فينفخ في الصور وتقوم الساعة كما قال عبد الله بن عمرو قال: «لينفخن في الصور، والناس في طرقهم وأسواقهم ومجالسهم، وحتى إن الرجل ليغدو من بيته فلا يرجع حتى ينفخ في الصور، وهي التي قال الله: {مَا يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ *فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ *} [يس] »[25]، قال الألوسي: «هي النفخة الأولى في الصور التي يموت بها أهل الأرض تأخذهم وهم يتخاصمون ويتنازعون في معاملاتهم ومتاجرهم لا يخطر ببالهم شيء من مخايلها، فلا يستطيعون توصية في شيء من أمورهم إذ كانوا فيما بين أهليهم»[26].
2 ـ أن النفخة الأولى يتبعها تغيير عام في الكون كله علويه وسفليه، لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه ابن عمر رضي الله عنهما: «من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين، فليقرأ إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت» وأحسبه أنه قال: «سورة هود»[27].
3 ـ أن الله يقبض الأرض ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: «أنا الملك أين ملوك الأرض».
قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ *} [الزمر] ، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض»[28].
وهذا ـ والله تعالى أعلم ـ بعد النفخة الأولى وهلاك الخلق؛ «لأن المقصود إظهاره انفراده تعالى بالملك عند انقطاع دعوى المدعين وانتساب المنتسبين، إذ قد ذهب كل ملك وملكه وكل جبار ومتكبر وملكه، وانقطعت نسبتهم ودعاويهم، وهذا أظهر، وهو مقتضى قوله الحق: أنا الملك أين ملوك الأرض»[29].
4 ـ فناء من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله تعالى.
قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ *} [الزمر] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وأما الاستثناء فهو متناول لمن في الجنة من الحور العين فإن الجنة ليس فيها موت ومتناول لغيرهم. ولا يمكن الجزم بكل من استثناه الله، فإن الله أطلق في كتابه. وقد ثبت في «الصحيح» أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فأجد موسى آخذًا بساق العرش فلا أدري هل أفاق قبلي أم كان ممن استثناه الله» [30]، وهذه الصعقة قد قيل: إنها رابعة، وقيل: إنها من المذكورات في القرآن. وبكل حال: النبي صلّى الله عليه وسلّم قد توقف في موسى وهل هو داخل في الاستثناء فيمن استثناه الله أم لا؟ فإذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يخبر بكل من استثنى الله لم يمكنا نحن أن نجزم بذلك، وصار هذا مثل العلم بوقت الساعة وأعيان الأنبياء وأمثال ذلك مما لم يخبر به، وهذا العلم لا ينال إلا بالخبر، والله أعلم»[31].
ـ ومن الآثار المترتبة على النفخة الثانية ما يأتي:
1 ـ قيام الناس من القبور.
قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ *} [يس] ، وقال جلّ جلاله: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ *فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ *} [النازعات] ، قال ابن كثير: «أي: فإنما هو أمر من الله تعالى لا مثنوية فيه ولا تأكيد، فإذا الناس قيام ينظرون، وهو أن يأمر تعالى إسرافيل فينفخ في الصور نفخة البعث، فإذا الأولون والآخرون قيام بين يدي الرب عزّ وجل ينظرون»[32].
وقد مرَّ حديث عبد الله بن عمرو المرفوع، وفيه: «ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون».
2 ـ بهذه النفخة وبعد البعث تتابع أحوال القيامة.
بداية من ساعة الحشر إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون» قال: «ثم يقال: يا أيها الناس هلمّوا إلى ربكم، وقفوهم إنهم مسؤولون» ، قال: «ثم يقال: أخرجوا بعث النار» قال: «فيقال: كم؟ فيقال: من كل ألف تسع مائة وتسعة وتسعون، فيومئذ يبعث الولدان شيبًا، ويومئذ يكشف عن ساق»[33].
المسألة الخامسة: صاحب القرن:
هو المَلَك الذي ينفخ في الصور، روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنى جبهته، وأصغى سمعه، ينظر متى يؤمر . قال المسلمون: يا رسول الله فما نقول؟ قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا»[34].
فيجب الإيمان بصاحب القرن عليه السلام كما ورد به النص، والإيمان به يدخل في عموم وجوب الإيمان بالملائكة عليهم السلام.
والإيمان بالملائكة هو الركن الثاني من أركان الإيمان الستة، وأصل من أصوله العظيمة.
ولم يثبت في تسميته شيء، وما ذكر في أن اسمه إسرافيل عليه السلام، لا تقوم به الحجة، ولم يثبت فيه حديث صحيح يعول عليه[35]، والله أعلم.
المسألة السادسة: النفخة الأولى:
تسمى: الراجفة، من رَجَفَ الشيءُ يَرجُفُ رَجْفًا وَرَجَفَانًا؛ إذا تحرك واضطرب اضطرابًا شديدًا[36]، كرَجَفانِ البعير تحت الرحل، وكما تَرجُفُ الشجرةُ إذا رَجَفَتْها الرِّيحُ، والرجْفةُ: الزَّلْزَلَةُ، ورجَفَتِ الأَرض تَرْجُفُ رجْفًا اضطَربت، والرَّجْفةُ في القرآن كلُّ عذاب أَخَذَ قومًا فهي رجْفَةٌ وصَيْحةٌ وصاعِقةٌ[37].
والمراد بها شرعًا: النفخة الأولى التي ينفخها الملك في الصور، فيصعق بها من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، وعلى إثرها تقوم الساعة.
وسميت بذلك؛ لأنه يتزلزل ويتحرك كل شيء، ثم منها يموت جميع الخلائق.
وتسمى: النفخة، والصعقة، والصيحة[38].
والإيمان بها واجب، فلا بد من الاعتقاد الجازم بحصولها، والتصديق بما دلَّت عليه النصوص بشأنها. فهي إحدى مفردات اليوم الآخر التي تسبق الحشر والنشر.
ومن أدلتها قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ *تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ *} [النازعات] ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله تعالى غالية، ألا إن سلعة الله الجنة، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه»[39].
قال الحسن عند قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ *تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ *} [النازعات] : «هما النفختان، فأما الأولى: فتميت الأحياء، وأما الثانية: فتحيي الموتى، ثم تلا: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ *} [الزمر] »[40].
المسألة السابعة: النفخة الثانية:
هي: الرادفة، من الرِّدْفُ، وهو ما تبِع الشيء، وكل شيء تبِع شيئًا فهو رِدْفُه، يقال: كان نزل بهم أمر فردف لهم آخر أعظم منه، قال تعالى: {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ *} [النازعات] ، ويقال: جاء القوم رُدَافَى؛ أي: بعضهم يتبع بعضًا[41].
وهي شرعًا: نفخة الصور الثانية، التي ينفخها الملك في الصور فتبعث على إثرها الخلائق.
وسميت بذلك؛ «لأنها ردفت النفخة الأولى، كذا قال جمهور المفسرين»[42].
والإيمان بالرادفة واجب، إذ هي أحد مفردات اليوم الآخر التي تسبق الحشر والنشر، وقد ورد النص عليها.
ومن أدلتها قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ *تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ *} [النازعات] ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله تعالى غالية، ألا إن سلعة الله الجنة، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه»[43] .
قال ابن عباس: «الرادفة: النفخة الثانية»[44]، وقال قتادة: «هما الصيحتان، أما الأولى: فتميت كل شيء بإذن الله، وأما الآخرة: فتحيي كل شيء بإذن الله»[45]. وهو قول جمع من الصحابة والتابعين.
[1] كما سيأتي قريبًا.
[2] أخرجه البخاري معلقًا مجزومًا (كتاب الرقاق، باب نفخ الصور)، ووصله الطبري في التفسير (23/18) [مؤسسة الرسالة، ط1].
[3] أخرجه أبو داود (كتاب السُّنَّة، رقم 4742)، والترمذي (أبواب صفة القيامة والرقائق والورع، رقم 2430) وحسنه، وأحمد (11/53) [مؤسسة الرسالة، ط1] واللفظ له، والدارمي (كتاب الرقاق، رقم 2840)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 1080).
[4] أخرجه مسلم (كتاب الفتن وأشراط الساعة، رقم 2940)، وأحمد (11/113) [مؤسسة الرسالة، ط1]، واللفظ له.
[5] أخرجه الترمذي (كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، رقم 2431) وحسنه، وأحمد (17/89) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وابن حبان (كتاب الرقائق، رقم 823)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب رقم (3569) [مكتبة المعارف، ط5].
[6] عون المعبود (3/260) [دار الكتب العلمية، ط2]، وانظر: مرقاة المفاتيح (5/30) [دار الكتب العلمية، ط1].
[7] مرقاة المفاتيح (5/30). وانظر: فيض القدير (2/535) [المكتبة التجارية، ط1، 1356هـ].
[8] شرح سنن أبي داود (4/466) [مكتبة الرشد، ط1].
[9] انظر: التذكرة (209) [دار قباء للنشر]، وفتح الباري لابن حجر (3/377) [دار الريان، ط1، 1407هـ]، وروح المعاني (20/31) و(24/29) [دار إحياء التراث العربي، ط4، 1405هـ].
[10] انظر: مجموع الفتاوى (4/260) (16/32) [دار عالم الكتب، 1412هـ].
[11] انظر: تفسير ابن كثير (3/378) [دار الفكر].
[12] انظر: لوامع الأنوار (2/161) [المكتب الإسلامي، ط3، 1411هـ].
[13] انظر: فتح القدير (4/154) [دار الفكر، 1403هـ].
[14] أخرجه ابن أبي الدنيا في الأهوال (39) [مكتبة آل ياسر]، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (1/283) [مكتبة الدار، ط1]، وابن جرير الطبري في تفسيره (10/19) و(11/28) [دار الكتب العلمية، ط1، 1412هـ]، وغيرهم، وأورده بطوله ابن كثير في النهاية (136 ـ 141) [دار الكتب العلمية، ط1، 1408]. ومداره على إسماعيل بن رافع، وهو ضعيف أو متروك، وقد أشار ابن كثير إلى ذلك، وأن في بعض سياقه نكارة، وحكم الألباني بنكارته في ضعيف الترغيب والترهيب (رقم 2224).
[15] تفسير القرطبي (13/240) [دار إحياء التراث].
[16] المرجع نفسه.
[17] انظر: فتح الباري (11/377) [دار الفكر].
[18] تقدم تخريجه.
[19] تفسير الطبري (12/425).
[20] تقدم تخريجه.
[21] تقدم تخريجه.
[22] انظر: التذكرة في أحوال الموتى والآخرة (209) [دار قباء للنشر]، والجامع لأحكام القرآن (13/240)، وفتح الباري لابن حجر (3/377) [دار الريان، ط1، 1407هـ]، وروح المعاني (20/31)، (24/29) [دار إحياء التراث، ط4]، ومجموع الفتاوى (4/260) و(16/32) [دار عالم الكتب، ط1412هـ]، وتفسير ابن كثير (3/378)، ولوامع الأنوار (2/161) [المكتب الإسلامي، ط3، 1411هـ]، وفتح القدير (4/153) [دار الفكر، 1403هـ].
[23] أخرجه البخاري (كتاب التفسير، رقم 4814) واللفظ له، ومسلم (كتاب الفتن وأشراط الساعة، رقم 2955).
[24] انظر: رسائل الآخرة (3/613 ـ 617).
[25] أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (20/528) [مؤسسة الرسالة، ط1].
[26] روح المعاني (13/31).
[27] أخرجه الترمذي (أبواب تفسير القرآن، رقم 3333)، وأحمد (8/423) [مؤسسة الرسالة، ط1] واللفظ له، والحاكم (كتاب الأهوال، رقم 8719) وصححه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 1081).
[28] أخرجه البخاري (كتاب التفسير، رقم 4812)، ومسلم (كتاب صفة القيامة والجنة والنار، رقم 2787).
[29] التذكرة (194).
[30] أخرجه البخاري (كتاب الخصومات، رقم 2411)، ومسلم (كتاب الفضائل، رقم 2373).
[31] مجموع الفتاوى (4/261). وانظر للتوسع: التذكرة للقرطبي (188 ـ 192)، وفتح الباري لابن حجر (6/512، 513)، و(11/378)، وتفسير القرطبي (15/280 ـ 281)، ومجموع فتاوى ابن تيمية (4/261)، و(16/36)، ومعالم التنزيل (6/181، 182)، وروح المعاني (20/33، 34)، وفتح القدير (4/475)، وتفسير الطبري (11/27 ـ 29)، وتفسير ابن كثير (4/65)، وزاد المسير (6/195)، والنهاية في الفتن والملاحم (1/146) [دار الفكر]، ولوامع الأنوار (2/37، 61).
[32] تفسير ابن كثير (4/468).
[33] تتمة حديث عبد الله بن عمرو المتقدم تخريجه.
[34] تقدم تخريجه.
[35] ينظر: فتح الباري (11/376).
[36] انظر: تهذيب اللغة (11/31)، وجمهرة اللغة لابن دريد (1/288)، والمعجم الوسيط (1/332).
[37] لسان العرب (19/112).
[38] وانظر: نظم الدرر (8/310) [دار الكتب العلمية، ط1415هـ].
[39] أخرجه الترمذي (أبواب صفة القيامة والرقائق والورع، رقم 2457) وحسَّنه، وأحمد (35/165) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والحاكم في المستدرك (كتاب الرقاق، رقم 7852) واللفظ له، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 954).
[40] بحر العلوم (3/520).
[41] انظر: تهذيب اللغة (14/68) [دار إحياء التراث العربي، ط1، 2001م]، والصحاح (5/50) [دار العلم للملايين، ط4، 1990م]، ولسان العرب (9/114) [دار صادر، ط3، 1414هـ].
[42] فتح القدير (5/526) [دار الفكر، ط1403هـ].
[43] تقدم تخريجه.
[44] رواه البخاري معلقًا (كتاب التفسير، رقم 1881)، ووصله الطبري في تفسيره (12/424) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1420هـ].
[45] الدر المنثور في التفسير بالمأثور (8/406) [دار الفكر، 1414هـ].
ذهب بعض المخالفين لأهل السُّنَّة إلى أن الصور قرن من نور فيه ثقب على عدد الخلائق سعته أعظم ما بين السماء والأرض.
ولا شكَّ أن هذا ليس عليه دليل من الكتاب والسُّنَّة، وحكايته تغني عن الكلام في إبطاله[1].
ومن المخالفين من أنكر أن يكون الصور قرنًا[2]؛ زاعمًا أن الصور جمع صورة، كما أن الصوف جمع الصوفة، والثوم جمع الثومة، وهو أيضًا قول باطل ليس عليه أثارة من علم الكتاب والسُّنَّة[3].
ولا يصح الاعتماد على قراءة من قرأ (ونفخ في الصُّوَر) بفتح الواو[4]؛ لمخالفته ظاهر القرآن؛ إذ قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ *} [الزمر] ، ومخالفته ظاهر النصوص الحديثية المتقدمة.
وقد شذَّ من قال بهذا القول وقرأ بفتح الواو في الآية السابقة عن مذهب جمهور أهل السُّنَّة، وأهل التفسير، وأهل اللغة[5].
[1] انظر: نظم الدرر (8/299)، وبستان الواعظين ورياض السامعين (32) [مؤسسة الكتب الثقافية، ط1، 1419هـ]، وتفسير ابن عطية (5/331) [دار الكتب العلمية، ط1، 1413هـ]، والتذكرة للقرطبي (222).
[2] انظر: تهذيب اللغة (12/160) [دار إحياء التراث العربي، ط1، 2001م].
[3] انظر: التذكرة للقرطبي (207)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (7/20)، وتفسير ابن كثير (2/147)، وزاد المسير (3/68، 69)، وتفسير الرازي (13/30)، ولسان العرب (4/475).
[4] انظر: زاد المسير (3/69)، وتفسير الرازي (23/297) [دار الفكر، ط3، 1405هـ]، وتهذيب اللغة (12/161).
[5] انظر: التذكرة للقرطبي (207)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (7/20)، وتفسير ابن كثير (2/147)، وزاد المسير (3/69)، ومعالم التنزيل (3/157)، وتهذيب اللغة للأزهري (12/161)، ولسان العرب (4/475).
1 ـ «إعلام السُّنَّة المنشورة»، لحافظ الحكمي.
2 ـ «البعث والنشور»، للبيهقي.
3 ـ «التذكرة في أحوال الموتى والآخرة»، للقرطبي.
4 ـ «البحور الزاخرة في علوم الآخرة» (ج1)، للسفاريني.
5 ـ «البدور السافرة في أمور الآخرة»، للسيوطي.
6 ـ «الحبائك في أخبار الملائك»، للسيوطي.
7 ـ «مجموع الفتاوى» (ج4، 16)، لابن تيمية.
8 ـ «شرح العقيدة السفارينية»، لابن عثيمين.
9 ـ «معارج القبول»، لحافظ الحكمي.
10 ـ «معتقد فرق المسلمين واليهود والنصارى والفلاسفة والوثنيين في الملائكة المقربين»، للعقيل.
11 ـ «البعث»، لأبي داود السجستاني.