نوح بن لامك بن متُّوشلخ بن خنوخ ـ وهو إدريس ـ بن يرد ـ وقيل: يرذ ـ بن هلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام[1].
والقول بأن إدريس عليه السلام هو الجد الثاني لنوح فيه نظر؛ إذ إن القول الصحيح أن إدريس عليه السلام كان بعد نوح عليه السلام ولم يكن قبله[2].
[1] انظر: المنتظم في التاريخ (1/239) [دار الكتب العلمية، ط1]، والجامع لأحكام القرآن (13/466) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والبداية والنهاية (1/237) [دار هجر، ط1، 1417هـ].
[2] انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/315) [دار الكتب العلمية، ط3]، والجامع لأحكام القرآن (13/466)، والبداية والنهاية (1/234)، وشرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين (1/65، 66) [دار ابن الجوزي، ط4، 1424هـ].
قيل: إن نوحًا مشتق من ناح ينوح، والنوح البكاء؛ وسمي بذلك لأنه ناح على قومه، وأكثرَ من فِعْلِه ذلك؛ لأنهم كانوا موتى في أديانهم، هذا وإن كان الاشتقاق يعضده من وجه، إلا أن نوحًا اسم أعجمي، وانصرف لكونه على ثلاثة أحرف[1].
واستدل من قال: إنه اسم أعجمي بحديث أبي ذر رضي الله عنه المشهور، وفيه أنه قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا ذر، أربعة ـ يعني: من الرسل ـ سريانيون: آدم وشيث ونوح وأخنوخ»[2].
[1] انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/315)، والجامع لأحكام القرآن (13/466).
[2] أخرجه ابن جرير في تاريخه (1/171) [دار التراث، ط2]، وابن حبان في صحيحه (كتاب البر والإحسان، رقم 361)، وأشار إلى ضعفه ابن كثير في التفسير (2/470) [دار طيبة، ط2]، وقال الألباني: «ضعيف جدًّا». التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان (1/387) [دار باوزير، ط1، 1424هـ].
قيل: إن مولده كان بعد وفاة آدم عليه السلام بمائة وستٍّ وعشرين سنة، وقيل غير ذلك، وكان بين آدم عليه السلام ونوح عليه السلام عشرة قرون كلهم على التوحيد، فعن أبي أُمامة رضي الله عنه؛ أن رجلاً قال: يا رسول الله، أنبيٌّ كان آدم؟ قال: «نعم. مكلَّم» . قال: فكم كان بينه وبين نوح؟ قال: «عشرة قرون»[1].
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: «كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا فبعث الله النبيِّين مبشرين ومنذرين»[2].
[1] أخرجه ابن حبان في صحيحه (كتاب التاريخ، رقم 6190) [الرسالة، ط2]، والحاكم (كتاب التفسير، رقم 3039)، وصححه الحاكم وابن كثير على شرط مسلم. انظر: البداية والنهاية (1/237) [دار هجر، ط1]، وصححه الألباني أيضًا في السلسلة الصحيحة (6/359) [مكتبة المعارف، ط1].
[2] أخرجه ابن جرير في تفسيره (3/621) [دار هجر، ط1]، والحاكم في المستدرك (كتاب التفسير، رقم 3654) وصححه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (7/854).
نوح عليه السلام: هو أول رسول أرسله الله تعالى إلى أهل الأرض بعد آدم عليه السلام، على الصحيح من أقوال أهل العلم، واختلف في عمره كم كان يوم بُعث، وقد بعثه الله تعالى بالتوحيد، وإفراد الله بالعبادة، بعد ظهور الشرك والكفر[1].
قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ *} [الأعراف] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ *أَنْ لاَ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ *} [هود] ، وقال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ *إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ *إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ *} [الشعراء] .
ومن السُّنَّة : ما جاء في حديث الشفاعة الطويل: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنَّا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في دعوة، فرُفع إليه الذِّراع ـ وكانت تعجبه ـ فنهس منها نهسة وقال: «أنا سيد القوم يوم القيامة... فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وسمَّاك الله عبدًا شكورًا، أما ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما بلغنا؟ ألا تشفع لنا إلى ربِّك؟ فيقول: ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله ـ وفي رواية: وإنَّه قد كانت لي دعوةٌ دعوت بها على قومي ـ نفسي نفسي، ...»[2].
قال ابن جرير رحمه الله: «وقد روي عن جماعة من السلف أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على ملة الحق، وأن الكفر بالله إنما حدث في القرن الذي بعث إليهم نوح عليه السلام، وقالوا: إن أول نبي أرسله الله إلى قومٍ بالإنذار، والدعاء إلى توحيده نوح عليه السلام»[3].
[1] انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/315)، والجامع لأحكام القرآن (13/466)، والبداية والنهاية (1/238).
[2] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3340)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 194).
[3] تاريخ الطبري (1/178).
لما كذَّب قوم نوح نوحًا عليه السلام، واستكبروا وعصوا أمر ربهم، أمره الله تعالى بصناعة الفُلك، وهي السفينة العظيمة، التي لم يكن قبلها ولا بعدها مثلها؛ إذ هي من دلائل نبوته.
قال ابن كثير: «فاجتمع عليهم خطاياهم، من كفرهم وفجورهم، ودعوة نبيِّهم عليهم، فعند ذلك أمره الله تعالى أن يصنع الفلك، وهي السفينة العظيمة، التي لم يكن لها نظير قبلها، ولا يكون بعدها مثلها»[1].
ومن أخبار هذه السفينة قوله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ} [المؤمنون: 27] ، فأمره تعالى أن يحمل فيها من كلِّ زوجين اثنين، من الحيوانات، وسائر ما فيه روح من المأكولات وغيرها؛ لبقاء نسلها[2].
وقال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ *لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ *} [الحاقة] .
وقال تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ *} [العنكبوت] . قال السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية: {وَجَعَلْنَاهَا}؛ أي: السفينة، أو قصة نوح: {آيَةً لِلْعَالَمِينَ *} يعتبرون بها، على أن من كذب الرسل، آخر أمره الهلاك، وأن المؤمنين سيجعل الله لهم من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، وجعل الله أيضًا السفينةَ؛ أي: جنسها آية للعالمين، يعتبرون بها رحمة ربهم، الذي قيض لهم أسبابها، ويسر لهم أمرها، وجعلها تحملهم، وتحمل متاعهم، من محل إلى محل، ومن قطر إلى قطر»[3].
[1] البداية والنهاية (1/256).
[2] المصدر نفسه (1/259).
[3] تفسير السعدي (737).
دعا نوح عليه السلام قومه إلى إفراد الله تعالى بالعبادة، وإلى توحيده، وإلى ترك عبادة الأصنام والأوثان، ليلاً ونهارًا، سرًّا وجهارًا، بالترغيب تارة، وبالترهيب تارة، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ *} [الأعراف] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ *أَنْ لاَ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ *} [هود] ، وقال تعالى: {قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ *أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ *يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *} [نوح] .
وقد أحدث قومه الشرك بالله تعالى، وعبادة الأصنام، وكان ابتداء الشرك منهم، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعدُ، أمَّا ودٌّ فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأمَّا يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجوف عند سبأ، وأمَّا يعوق فكانت لهمدان، وأمَّا نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع: أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلمَّا هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن أنصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا وسمُّوها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تُعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسَّخ العلم عُبدت»[1].
قال ابن كثير رحمه الله: «وبالجملة فنوح عليه السلام إنما بعثه الله تعالى لما عبدت الأصنام والطواغيت، وشرع الناس في الضلالة والكفر، فبعثه الله رحمة للعباد، فكان أول رسول بعث إلى أهل الأرض، كما يقول له أهل الموقف يوم القيامة»[2].
[1] أخرجه البخاري (كتاب التفسير، رقم 4920).
[2] البداية والنهاية (1/238).
ذكر الله تعالى قصته مع قومه، وموقفهم منه في غير ما آية من كتابه العزيز؛ فكذبوه وعصوه بعدما دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه من الأصنام والأوثان، فلم يزدهم دعاؤه إياهم إلا فرارًا وطغيانًا، وأصروا على الشرك بالله، واستكبروا استكبارًا، فكانوا كما قال تعالى حكايته عن نوح عليه السلام: {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا *وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا *ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا *ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا *} [نوح] ، وقال تعالى: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَارًا *وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا *وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا *وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً *} [نوح] ، واتهموه ومن آمن معه بالضلالة؛ كما قال عزّ وجل: {قَالَ الْمَلأَُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ *} [الأعراف] ، واستحقروه وسخروا منه، ومن قومه المؤمنين، كما قال تعالى: {فَقَالَ الْمَلأَُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ *} [هود] ، فلما رأى أن التذكير لا ينفع فيهم بوجه من الوجوه، وأنه كلما جاء قرن كان أخبث مما قبله، دعا عليهم، فقال تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا *إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا *} [نوح] ، فأجاب الله دعوته فأهلكهم، وأغرقهم جميعًا، إلا نوحًا ومن آمن معه، فقد نجاهم الله بفضله ورحمته، قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ *} [الأعراف] .
لبث نوح عليه السلام يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ *} [العنكبوت] ، ومكث نوح عليه السلام بعد الطوفان ما شاء الله أن يبقى، ثم توفي بعد ذلك، وقد ذكر في مكثه بعد الطوفان أقوال مختلفة، قال ابن كثير: «ثم الله أعلم كم عاش بعد ذلك»[1].
وأما عن قبره فقد جاء من طريق مرسل عن عبد الرحمن بن سابط وغيره من التابعين: «أن قبر نوح بالمسجد الحرام»[2].
ومن المتأخرين من يذكر أن قبره في بلدة بالبقاع تعرف بكَرك نوح، وهناك جامع قد بني بسبب ذلك، وأوقفت عليه أوقاف[3].
لكن لم يثبت شيء من ذلك، وهذا عام في قبور الأنبياء إلا قبر نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم في المدينة النبوية، والخلاف قائم في قبر إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم.
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن قبور الأنبياء عليهم السلام: هل هي هذه القبور التي تزورها الناس اليوم؟ مثل: قبر نوح، وقبر الخليل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، ويونس، وإلياس، واليسع، وشعيب، وموسى، وزكريا وهو بمسجد دمشق...؟ فأجاب رحمه الله بقوله: «الحمد لله، القبر المتفق عليه هو قبر نبينا صلّى الله عليه وسلّم، وقبر الخليل فيه نزاع، لكن الصحيح الذي عليه الجمهور أنه قبره، وأما يونس، وإلياس، وشعيب، وزكريا فلا يعرف»[4].
وقال أيضًا: «حتى قال طائفة من العلماء ـ منهم: عبد العزيز الكناني ـ: كل هذه القبور المضافة إلى الأنبياء لا يصح شيء منها، إلا قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم»[5].
وقال الشيخ الألباني رحمه الله: «لم يثبت في حديث مرفوع أن إسماعيل عليه السلام أو غيره من الأنبياء الكرام دفنوا في المسجد الحرام، ولم يرد شيء من ذلك في كتاب من كتب السُّنَّة المعتمدة؛ كالكتب الستة، ومسند أحمد، ومعاجم الطبراني الثلاثة، وغيرها من الدواوين المعروفة... وغاية ما روي في ذلك آثار معضلات، بأسانيد واهيات موقوفات أخرجها الأزرقي في: «أخبار مكة»، فلا يلتفت إليها، وإن ساقها بعض المبتدعة مساق المسلَّمات»[6].
ولكن هاهنا قاعدة عامة مفيدة؛ وهو أنه ليس في معرفة قبور الأنبياء عليهم السلام بأعيانهم فائدة شرعية، وليس حفظ ذلك من الدين، ولو كان من الدين لحفظه الله، كما حفظ سائر الدين، وذلك أن عامة من يسأل عن ذلك إنما قصده الصلاة عندها، والدعاء بها، ونحو ذلك من البدع المنهي عنها[7].
[1] البداية والنهاية (1/281).
[2] أخرجه الأزرقي في أخبار مكة (1/68) [دار الأندلس]، عن محمد بن سابط مرسلاً. وانظر: البداية والنهاية (1/281) [دار هجر، ط1].
[3] انظر: البداية والنهاية (1/281).
[4] مجموع الفتاوى (27/445) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط2، 1425هـ].
[5] المصدر نفسه (27/446).
[6] تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد (101) [مكتبة المعارف، ط1، 1422هـ].
[7] انظر: مجموع الفتاوى (27/444).
المسألة الأولى: أولية الرسالة؛ أكانت لآدم عليه السلام أم لنوح عليه السلام؟
استشكل بعض أهل العلم ما جاء منصوصًا في حديث الشفاعة من أن نوحًا عليه السلام هو أول رسول إلى أهل الأرض، مع كون آدم عليه السلام قد أعطي النبوة قبله، وأجيب عن ذلك بعدة أجوبة[1]:
أحدها: يحتمل أن تكون الأولية في قول أهل الموقف لنوح عليه السلام مقيدة بقولهم لأهل الأرض؛ لأنه في زمن آدم عليه السلام لم يكن للأرض أهل.
الثاني: يحتمل أن يكون آدم عليه السلام إنما أرسل لبنيه فقط، ولم يكونوا كفارًا، وإنما كانوا على ملة التوحيد، وكانوا مجتمعين في بلدة واحدة، وأما نوح عليه السلام فقد أرسل لبنيه وغيرهم من الأمم، وكانوا كفارًا، ومتفرقين في بلدان عدة.
الثالث: وهو أن آدم عليه السلام كان نبيًّا ولم يكن رسولاً، وأما نوح عليه السلام فهو نبي رسول، فيكون نوح عليه السلام أول رسول إلى أهل الأرض.
والأظهر أن يقال: إن نوحًا عليه السلام أول الرسل والنبيين بعد الاختلاف؛ لأن أمته أول من اختلف وغيَّر وبدلّ وكذب[2]، كما قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ} [غافر: 5] .
المسألة الثانية: عموم بعثة نوح عليه السلام:
ورد في حديث الشفاعة الطويل: عن أبي هريرة صلّى الله عليه وسلّم قال: كنَّا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في دعوة فرُفع إليه الذِّراع وكانت تعجبه فنهس منها نهسة وقال: «أنا سيد القوم يوم القيامة... فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض...»[3].
وهذا مما ظاهره أن نوحًا عليه السلام بعث إلى أهل الأرض جميعًا، لكن مما هو معلوم قطعًا أن من خصائص نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم أنه بعث إلى أهل الأرض جميعًا، وأرسل إلى الناس كافة، فكيف الجمع؟
الجواب: أن هذا العموم لم يكن في أصل بعثته، وإنما اتفق بالحادث الذي وقع؛ وهو انحصار الخلق في الموجودين بعد هلاك سائر الناس؛ أي: بعد الطوفان، وأما نبينا صلّى الله عليه وسلّم فعموم رسالته من أصل البعثة، فثبت اختصاصه بذلك، وأما ما جاء في حديث الشفاعة من قول أهل الموقف له، فليس المراد منه إثبات عموم رسالته؛ بل المراد منه إثبات أولية الرسالة، وعلى تقدير أن يكون مرادًا فهو مخصوص بتنصيصه سبحانه وتعالى في غير ما آية من كتابه العزيز على أن إرسال نوح عليه السلام كان إلى قومه، ولم يذكر أنه أرسل إلى غيرهم[4].
ومما اتفق عليه أهل العلم وأجمعوا عليه أن نبينا محمدًا صلّى الله عليه وسلّم بعث إلى الثقلين؛ الجن والإنس[5]، كما جاء في الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي:... وكان كل نبيٍّ يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود» [6] الحديث. وقد فسر الأحمر: بالإنس، والأسود: بالجن، في أحد التفسيرات[7].
وجزم ابن حزم أنه لم يبعث إلى الجن نبي قبل نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ حيث قال ـ بعدما قرر بعثة نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى الجن ـ: «وإذا الأمر كما ذكرنا فلم يبعث إلى الجن نبيٌّ من الإنس ألبتة قبل محمد صلّى الله عليه وسلّم»[8].
فعلى هذا يكون نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم مما اختص بعموم رسالته وبعثته إلى الناس كافة، وإلى الثقلين من الإنس والجن، فيرتفع الإشكال الوارد عليه من عموم رسالة نوح عليه السلام.
المسألة الثالثة: تحذير نوح عليه السلام من المسيح الدجال:
حذَّر نوح عليه السلام قومه من المسيح الدجال، وإن كان لا يتوقع خروجه في زمانهم؛ شفقة عليهم، ورحمة بهم[9]؛ فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الناس، فأثنى على الله بما هو أهله ثم ذكر الدجال فقال: «إنِّي لأُنذِرُكموه، وما من نبيٍّ إلا أنذره، لقد أنذر نوح قومه، ولكني أقول لكم فيه قولاً لم يقله نبيٌّ لقومه: تعلمون أنه أعور وأن الله ليس بأعور»[10].
المسألة الرابعة: دعوة نوح عليه السلام على قومه:
قال تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا *إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا *} [نوح] .
وفي حديث الشفاعة الطويل: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنَّا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في دعوة فرُفع إليه الذِّراع وكانت تعجبه فنهس منها نهسة وقال: «أنا سيد القوم يوم القيامة... فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وسمَّاك الله عبدًا شكورًا، أما ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما بلغنا؟ ألا تشفع لنا إلى ربِّك؟ فيقول: ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله ـ وفي رواية: وإنَّه قد كانت لي دعوةٌ دعوت بها على قومي ـ نفسي نفسي. ائتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم...»[11].
دعاء نوح عليه السلام على أهل الأرض بالهلاك كان بعد أن أعلمه الله أنه لا يؤمن من قومه إلا من قد آمن[12]، كما قال تعالى: {وَأُوْحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ *} [هود] .
ونوح عليه السلام إنما دعا بهذا الدعاء؛ لأنه مع كثرة مخالطته إياهم، ومزاولته لأخلاقهم، علم بذلك نتيجة أعمالهم، وأن بقاءهم مفسدة محضة لهم ولغيرهم، لا جرم أن الله استجاب دعوته، فأغرقهم أجمعين، ونجى نوحًا ومن معه من المؤمنين[13].
المسألة الخامسة: شهادة محمد صلّى الله عليه وسلّم وأمته لنوح أنه قد بلَّغ قومه وأنذرهم:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يجيء نوح وأمته فيقول الله تعالى: هل بلَّغت؟ فيقول: نعم؛ أي رب. فيقول لأمته: هل بلَّغكم؟ فيقولون: لا؛ ما جاءنا من نبيّ. فيقول لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد صلّى الله عليه وسلّم وأمته. فنشهد أنه قد بلَّغ، وهو قوله جلَّ ذكره: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] »[14].
[1] انظر: إكمال المعلم للقاضي عياض (1/576) [دار الوفاء، ط1، 1419هـ]، وفتح الباري لابن حجر (6/429، 430) [ط1، 1421هـ]، وشرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين (1/66).
[2] انظر: معارج القبول للحكمي (2/832) [دار ابن الجوزي، ط6، 1430هـ].
[3] تقدم تخريجه.
[4] انظر: فتح الباري لابن حجر (1/520). وهناك أجوبة وردود على ما ذكر.
[5] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (19/9) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف، 1425هـ].
[6] أخرجه البخاري (كتاب التيمم، رقم 335)، ومسلم (كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم 521) واللفظ له.
[7] انظر: شرح صحيح مسلم للنووي (5/5) [المطبعة المصرية بالأزهر، ط1، 1347هـ].
[8] الفصل في الملل والأهواء والنحل (3/308) [دار الجيل، ط2، 1416هـ].
[9] انظر: البداية والنهاية (1/258).
[10] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3337)، ومسلم (كتاب الفتن وأشراط الساعة، رقم 169).
[11] تقدم تخريجه.
[12] انظر: مجموع الفتاوى (8/336).
[13] انظر: تفسير السعدي (1050).
[14] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3339).
1 ـ «إكمال المعلم بفوائد مسلم» (ج1)، للقاضي عياض.
2 ـ «البداية والنهاية» (ج1)، لابن كثير.
3 ـ «تحفة النبلاء من قصص الأنبياء» لابن كثير، انتخب كتابه الحافظ ابن حجر العسقلاني.
4 ـ «دعوة التوحيد: أصولها، الأدوار التي مرت بها، مشاهير دعاتها»، لمحمد خليل هراس.
5 ـ «قصص الأنبياء المعروف بالعرائس»، لأبي إسحاق الثعلبي.
6 ـ «قصص الأنبياء»، للسعدي.
7 ـ «قصص الأنبياء القصص الحق»، لشيبة الحمد.
8 ـ «شرح العقيدة الطحاوية» (ج2)، لابن أبي العز.
9 ـ «المعارف»، لابن قتيبة.
10 ـ «معارج القبول» (ج2)، لحافظ الحكمي.