حرف الألف / الإلهام

           

الإلهام: في اللغة مشتق من مادة: (لَهَمَ)، هو بمعنى: الابتلاع والالتقام.
قال ابن فارس رحمه الله: «اللام والهاء والميم أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على ابتلاعِ شيء، تقول العرب: التَهَم الشَّيء: التَقَمه»[1].
ويقال: أَلْهَمَهُ الله خيرًا؛ أي: لقَّنه خيرًا، ونَسْتَلْهِمُ الله الرَّشاد. ويقال: أَلهَمَ الله فلانًا الرُّشد إلهامًا: إذا ألقاه في رُوعِه، فتلقاه بفَهْمه[2].


[1] مقاييس اللغة (5/217) [دار الجيل، ط2]، وانظر: الصحاح، [دار العلم للملايين، ط4].
[2] انظر: تهذيب اللغة (6/169) [دار إحياء التراث العربي، ط1، 2001م].


لقد عرّف الإلهام في الاصطلاح بعدة تعريفات، أشملها هو ما ذكره الإمام ابن القيم وغيره بقوله: الإلهام: هو الإلقاء في القلب[1]، والبعض يقول: هو الإلقاء في الروع[2].
كما عرَّفه الشيخ الشنقيطي رحمه الله بقوله: «الإلهام في الاصطلاح: إيقاع شيء في القلب، يثلج له الصدر، من غير استدلال بوحي، ولا نظر في حجة عقلية، يختص الله به من يشاء من خلقه»[3].


[1] شفاء العليل (55) [دار الفكر، 1398هـ].
[2] انظر: الصحاح، مادة: (لهم).
[3] أضواء البيان (3/323 ـ 324) [دار الفكر، 1415هـ]. وانظر: الإحكام في أصول الأحكام (1/41) [دار الحديث، ط1، 1404هـ]، وقواطع الأدلة في الأصول (2/348) [دار الكتب العلمية، 1418هـ]، والتحبير شرح التحرير للمرداوي (2/784) [مكتبة الرشد، ط1، 1421هـ].


المعنى الشرعي للإلهام ـ وهو الإلقاء في الروع ـ راجع إلى المعنى اللغوي ـ وهو الابتلاع ـ؛ إذ إن من ألقي في روعه شيء فإنه شبيه بمن التهم ذلك الشيء والتقمه[1].


[1] انظر: مقاييس اللغة (5/217).


من الأسماء الأخرى للإلهام:
1 ـ التحديث.
2 ـ واعظ الله في قلب المؤمن.
3 ـ الوحي (بالمعنى العام غير المختص بالأنبياء).



مدى حجية الإلهام:
أ ـ الإلهام إن أريد به هداية الله لمن شاء من خلقه هداية بيان وتوفيق، وما جاء في الشرع من المعاني المقاربة له؛ كالتحديث، والواعظ على قلوب المؤمنين، ولمة الملك، والوحي العام، فذلك حق ولا ريب فيه.
ب ـ وأما إن جعل الإلهام لغير الأنبياء دليلاً مستقلًّا يعرف به أخبار الغيبيات وأحكام الشرعيات باستقلال ـ كما هو الحال عند بعض المتصوفة ـ فهذا لا شك في بطلانه.
فكل ما ادعي إلهامًا للنفس فإن سبيل العلم بصحته أو بطلانه هو عرضه على الكتاب والسُّنَّة، فإن وافقهما قُبِل، وإلا رد، فلا يستقل الإلهام بنفسه في معرفة الحق، سواء كان ذلك فيما يتعلق بحق الله أو بحق العباد.
فأما ما يتعلق بحق الله: فإن الإلهام ليس دليلاً مستقلًّا يثبت به من ادعاه حكمًا من أحكام الشرع، سواء أحكام الشرع الخبرية؛ كالعقائد، أو العملية، كأحكام الفروع.
وأما ما يتعلق بحقوق العباد: فإنه لا يحل للحاكم أن يحكم لأحد المتخاصمين بمجرد دعوى الإلهام.
ففي «الصحيح» عن أم سلمة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ أنه قال: «أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئًا فلا يأخذ، فإنما أقطع له قطعة من النار»[1].
فأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه يقضي بين المتخاصمين بالسمع، لا بالإلهام، فلو كان الإلهام طريقًا للحكم بين العباد لكان النبي أحق بذلك، وكان الله يوحي إليه معرفة صاحب الحق، فلا يحتاج إلى بيِّنة[2].
والقول ببطلان الإلهام ـ على أنه مصدر من مصادر التشريع ـ هو ما قرره جماهير علماء الأصول[3]، بل ذهب جمع منهم إلى رد شهادة من يرى الإلهام موجبًا للعلم؛ لأنه قد يشهد بذلك الإلهام المدعى، ويكون ذلك كذبًا[4].


[1] أخرجه البخاري (كتاب الحيل، رقم 6967)، ومسلم (كتاب الحدود، رقم 1713).
[2] انظر: منهاج السُّنَّة النبوية (8/69 ـ 70) [مؤسسة قرطبة، ط1]، وبغية المرتاد (385) [مكتبة العلوم والحكم، ط1]، ومجموع الفتاوى (2/226)، ومدارج السالكين (3/431).
[3] انظر: أصول السرخسي (2/185) [دار المعرفة]، والإحكام (1/20)، وقواطع الأدلة (2/348)، والتحبير شرح التحرير (2/784)، والبحر المحيط في الأصول للزركشي (4/400) [دار الكتب العلمية، ط1]، وكشف الأسرار للبخاري (3/518)، وتيسير التحرير (4/185)، والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران (297) [مؤسسة الرسالة، ط2]، وأضواء البيان للشنقيطي (3/323 ـ 324).
[4] انظر: كشف الأسرار للبخاري (3/38).


الإلهام: هو من جنس الوحي العام الذي لا يختص بالأنبياء، كما في قول تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} الآية [النحل: 68] ، فذكر أن الوحي يكون إلى النحل، فالإنسان من باب أولى[1].
وهذا الإلهام هو الوحي الذي جاء في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا} [الشورى: 51] ، كما ذكر ذلك مجاهد وغيره، وقرره ابن تيمية[2].
ـ كما أن هذا الإلهام هو المقصود بالتحديث الذي جاء في حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ أنه كان يقول: «قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد، فإن عمر بن الخطاب منهم» . قال ابن وهب [أحد رواة الحديث]: تفسير محدثون: ملهمون[3].
قال ابن تيمية: «فهذا الوحي يكون لغير الأنبياء، ويكون يقظة ومنامًا، وقد يكون بصوت هاتف يكون الصوت في نفس الإنسان، ليس خارجًا عن نفسه يقظة ومنامًا، كما قد يكون النور الذي يراه أيضًا في نفسه»[4].
ـ كما أن هذا الإلهام العام هو واعظ الله في قلب كل مؤمن، والذي جاء في حديث النواس بن سمعان الأنصاري رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ضرب الله مثلاً صراطًا مستقيمًا، وعلى جنبتي الصراط سوران، فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: أيها الناس، ادخلوا الصراط جميعًا، ولا تتعرجوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب، قال: ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه، والصراط الإسلام، والسوران: حدود الله، والأبواب المفتحة: محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط: كتاب الله، والداعي من فوق الصراط: واعظ الله في قلب كل مسلم»[5].
قال ابن القيم رحمه الله: «فهذا الواعظ في قلوب المؤمنين هو الإلهام الإلهي بواسطة الملائكة»[6].
وهذه الأدلة وغيرها تدلُّ على عموم هذا الإلهام لغير الأنبياء، وعدم اختصاصه بهم، وإنما الذي اختصوا به: العصمة في ذلك الإلهام[7].


[1] انظر: مجموع الفتاوى (17/528 ـ 529) [مكتبة ابن تيمية، ط2].
[2] انظر: معاني القرآن للفراء (3/26) [دار السرور]، وتفسير القرطبي (16/53) [دار الشعب]، ومجموع الفتاوى (17/526)، وفتح القدير للشوكاني (4/544) [دار الفكر].
[3] أخرجه مسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2398)، وأخرجه البخاري أيضًا (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3469) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وانظر فتح الباري لابن حجر (7 / 50) [دار المعرفة]، حيث حكى تفسير المُحدَّث بالمُلهم عن الأكثرين، وارتضاه.
[4] مجموع الفتاوى (12/398).
[5] أخرجه الترمذي (أبواب الأمثال، رقم 2859) وحسنه، وأحمد (29/181) [مؤسسة الرسالة، ط1] واللفظ له، والحاكم (كتاب الإيمان، رقم 245) وصححه، وصححه أيضًا ابن كثير في التفسير (1/138 ـ 139) [دار طيبة، ط2، 1420هـ]، والألباني في صحيح الترغيب والترهيب (رقم 2347) [مكتبة المعارف، ط5].
[6] مدارج السالكين (1/46) [دار الكتاب العربي، ط2]، وانظر: مجموع الفتاوى (10/475).
[7] انظر: كشف الأسرار للبخاري (3/305، 310)، والمعرفة في الإسلام عبد الله القرني (66 ـ 72) [دار عالم الفوائد، ط1، 1419هـ].


عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد كان فيما قبلكم من الأمم أناس محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر»[1] ، وعند مسلم: «فإن عمر بن الخطاب منهم» [2]. قال ابن وهب [أحد رواة الحديث]: تفسير محدثون: ملهمون[3].
وفي رواية أخرى عند البخاري: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «قد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال، يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أمتي منهم أحد فعمر»[4].


[1] تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
[2] تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
[3] صحيح مسلم (4/1864)، وانظر: فتح الباري لابن حجر (7/50) [دار المعرفة]، حيث حكى ابن حجر تفسير المُحدَّث بالمُلهم عن الأكثرين، وارتضاه.
[4] أخرجها البخاري (كتاب المناقب، رقم 3689).


قال الشاطبي رحمه الله ـ بعد كلامه على الإلهام والكشف ـ: «هذه الأمور لا يصح أن تراعى وتعتبر إلا بشرط: أن لا تخرم حكمًا شرعيًّا، ولا قاعدة دينية، فإن ما يخرم قاعدة شرعية أو حكمًا شرعيًّا ليس بحق في نفسه، بل هو: إما خيال، أو وهم، وإما من إلقاء الشيطان»[1].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ضمن كلامه على الإلهام: «إذا اجتهد السالك في الأدلة الشرعية الظاهرة، فلم ير فيها ترجيحًا وألهم حينئذ رجحان أحد الفعلين، مع حسن قصده، وعمارته بالتقوى، فإلهام مثل هذا دليل في حقه، قد يكون أقوى من كثير من الأقيسة الضعيفة، والأحاديث الضعيفة، والظواهر الضعيفة، والاستصحابات الضعيفة التي يحتج بها كثير من الخائضين في المذهب والخلاف وأصول الفقه»[2]، ثم استطرد في تقرير ذلك والاستشهاد له، إلى أن قال: «وليس المقصود هنا بيان أن هذا وحده دليل على الأحكام الشرعية، لكن أن مثل هذا يكون ترجيحًا لطالب الحق إذا تكافأت عنده الأدلة السمعية الظاهرة، فالترجيح بها خير من التسوية بين الأمرين المتناقضين قطعًا؛ فإن التسوية بينهما باطلة قطعًا»[3].


[1] الموافقات (2/266) [دار المعرفة].
[2] مجموع الفتاوى (10/473).
[3] مجموع الفتاوى (10/477).


من شروط الإلهام المعتبر[1]:
1 ـ ألا يخالف الإلهام حكمًا شرعيًّا، لما سبق بيانه، فإن عارض الحكم الشرعي علم أنه باطل قطعًا.
2 ـ أن يكون الإلهام في الترجيح بين المباحات، أو في مواطن الاشتباه التي لا يمكن التحقق فيها من الحكم الشرعي لتكافؤ الأدلة عند الناظر فيها.
3 ـ أن لا يعتقد أن ذلك الأمر الذي رجحه بالإلهام هو حكم لله تعالى؛ إذ الإلهام لا عصمة معه كما سبق، وبناء عليه؛ فلا يلزم غيره بذلك الأمر الذي تبدى له، والله أعلم.


[1] انظر: المعرفة في الإسلام (80 ـ 83).


الإلهام على أقسام:
القسم الأول: إلهام الوحي، وهذا له طريقان:
1 ـ أن يجعله الله بلا واسطة[1].
2 ـ أن يكون بواسطة ملك من ملائكته؛ كأن يلقي الخير والعلم الصادق والثبات في قلوب العباد، كما قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12] .
وقد جاء لفظ (الإلهام) في كتاب الله في قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا *} [الشمس] .
وقد فسَّر أئمة السلف الإلهام في الآية بأحد أمرين:
الأول: أن المراد بالإلهام: البيان والتعليم والتعريف؛ أي: أن الله تعالى علَّم هذه النفس وعرَّفها طريق الخير والطاعة، وطريق الشر والمعصية.
الثاني: أن المراد بالإلهام: أنه تعالى هدى النفس المؤمنة إلى الإيمان والعمل الصالح، ووفقها، وجعلها تقية مهتدية، ويسر العمل الصالح لها، كما أنه هو الذي جعل المصلي مصليًا، والمسلم مسلمًا، كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7] . كما أنه هدى النفس الكافرة إلى عملها السيئ[2]، وخذلها، وجعلها فاجرة كافرة، على ما يعتقده أهل السُّنَّة من أن الله هو الخالق لأفعال العباد، خيرها وشرها[3].
فالإلهام الأول هو هداية البيان العام لجميع الناس، والإلهام الثاني هو هداية التوفيق المختصة لأهل الطاعة، أو هداية الخذلان المختصة بأهل المعصية[4].
والقول الثاني هو الموافق للمعنى الشرعي السالف الذكر، ولعله أظهر من الأول؛ وذلك «لأن الإلهام استعماله مشهور في إلهام القلوب، لا في التبيين الظاهر الذي تقوم به الحجة»[5]، «ومن فسَّر الآية من السلف بالتعليم والتعريف فمراده: تعريف مستلزم لحصول ذلك [أي: إلقاء الهداية في القلب وجعله تقيًّا أو فاجرًا]، لا تعريف مجرد عن الحصول، فإنه لا يسمى إلهامًا»[6].
وبهذا يكون الإلهام في الآية شاملاً لكلا المعنيين السابقين، فإن الثاني وإن كان أقوى إلا أن الأول لازم له، والله أعلم.
القسم الثاني: إلهام الوسوسة، وهو الإلهام المذموم.
وهذا الإلهام يكون بواسطة وسوسة الشيطان ونزغه، وتسويله وإملائه، وإيحائه واستيلائه، وفتنته وأزه وهمزه، وتزيينه عمل السوء، وصده عن العمل الصالح، واستحواذه على حزبه، كما جاءت بهذه الألفاظ نصوص الكتاب.
وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: «إن للشيطان لمة بابن آدم، وللملك لمة؛ فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم»[7].


[1] وقوع هذا الإلهام لغير الأنبياء بلا واسطة قال به ابن تيمية، كما في: مجموع الفتاوى (17/528)، ومال ابن القيم إلى التوقف فيه، وأن الجزم والإثبات موقوف على الدليل، كما في: مدارج السالكين (1/46).
[2] حول إطلاق لفظ (هدى) على الإضلال انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (16/145).
[3] انظر: تفسير الطبري (24/454 ـ 455) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وتفسير البغوي (8/438) [دار طيبة، ط4]، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (10/583)، (16/145، 233 ـ 235)، وشفاء العليل (55) [دار الفكر، 1398هـ]، والروح (149) [دار الكتب العلمية، 1395هـ]، وتفسير ابن كثير (8/411 ـ 412).
[4] انظر: مجموع الفتاوى (15/98 ـ 99) (16/145).
[5] مجموع الفتاوى (16/145)، وانظر: شفاء العليل (55).
[6] شفاء العليل (55).
[7] أخرجه أبو داود في الزهد (164) [دار المشكاة، ط1]، والطبري في تفسيره (5/572) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والطبراني في المعجم الكبير (9/104) [مكتبة ابن تيمية، ط2] موقوفًا، وروي مرفوعًا، لكن الموقوف هو الصحيح. انظر: العلل لابن أبي حاتم (5/637) [مطابع الحميضي، ط1].


الفرق بين الإلهام المحمود والإلهام المذموم:
الإلهام قد يقع ولا يشعر به الإنسان، سواء كان من وحي الملائكة العام، أو من وساوس الشيطان، وإنما يكون التمييز بين الإلهامين بالموافقة أو المخالفة للكتاب والسُّنَّة، فما وافقهما فهو الإلهام المحمود، وما خالفهما فهو المذموم، و«ليس لأحد أن يطلق القول على ما يقع في نفسه أنه وحي، لا في يقظة ولا في المنام إلا بدليل يدل على ذلك، فإن الوسواس غالب على الناس، والله أعلم»[1].
قال السمعاني رحمه الله: «واعلم أن إنكار أصل الإلهام لا يجوز... ونقول في التمييز بين الحق والباطل من ذلك: إن كل من استقام على شرع النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولم يكن في الكتاب والسُّنَّة ما يرده: فهو مقبول. وكل ما لا يستقيم على شرع النبي صلّى الله عليه وسلّم: فهو مردود، ويكون ذلك من تسويلات النفس، ووساوس الشيطان، ويجب رده، على أنّا لا ننكر زيادة نور الله تعالى كرامة للعبد، وزيادة نظر له، فأما على القول الذي يقولونه ـ وهو: أن يرجع إلى قوله في جميع الأمور ـ فلا نعرفه»[2].
الفرق بين الإلهام والتحديث والفراسة:
أولاً: الفرق بين التحديث والإلهام:
التحديث أخص من الإلهام، فالإلهام عام للمؤمنين بحسب إيمانهم، فكل مؤمن فقد ألهمه الله رشده الذي حصل له به الإيمان.
وأما التحديث فهو إلهام خاص، وهو الوحي إلى غير الأنبياء[3].
ثانيًا: الفرق بين الفراسة والإلهام:
أن الفراسة تكون فيما عليه قرائن ودلائل إذا تنبَّه لها الإنسان عرفها، وقد تكون بصناعة متعلمة وكسب وتحصيل، فيستدل بالأشكال الظاهرة على الأخلاق والأمور الباطنة.
وأما الإلهام فموهبة مجردة، لا تنال بكسب البتة، ولا يعرف لها الملهم سببًا ظاهرًا، وهو مرتبة من الغيب قد أطلع الله عليها بعض الخلق فيلقيها الملك على الخاطر[4].


[1] مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (17/532)، وانظر: المرجع نفسه (2/226)، (17/523 ـ 532)، والروح (256).
[2] قواطع الأدلة في الأصول (2/352).
[3] انظر: مدارج السالكين (1/68 ـ 69).
[4] انظر: التفسير الكبير للرازي (2/424) [دار الكتب العلمية، ط1، 1421هـ]، ومدارج السالكين (1/68 ـ 69)، وفيض القدير (1/143) [المكتبة التجارية الكبرى، ط6]، والقائد إلى تصحيح العقائد للمعلمي (80) [المكتب الإسلامي، ط3، 1404هـ].


الإلهام المحمود هو نوع كرامة يكرم الله بها من يشاء من أولياءه، فينتفعون بها، إما في الأمور الدينية، وذلك في هداية البيان والتوفيق إلى الخير الثابت في الشرع[1]، كما جاء في واعظ الله في قلوب المؤمنين، والذي ينهاهم عن ولوج أبواب المعاصي، وكأن يلهم العالم رجحان شيء من المباحات، أو ما تكافأت فيه الأدلة عنده[2].
وإما أن يكون الانتفاع بالإلهام في أمر دنيوي، فيكشف لهم به كربًا، أو يدفع ضرًّا، كما حصل من إلهام أُمِّ موسى صلّى الله عليه وسلّم أن تلقيه في اليم.
وإن إلهام النفس المؤمنة الهدى هو ثمرة لإخلاص تلك النفس عملها لله، ومداومتها على عبادته، وهو من نعمة الله وإحسانه، وهو «إلهام عام للمؤمنين بحسب إيمانهم، فكل مؤمن فقد ألهمه الله رشده الذي حصل له به الإيمان»[3]، كما أن إلهام النفس الفاجرة الفجور هو عقوبة لها لعدم إخلاصها، وتركها ما خلقت له، وفطرت عليه من تقوى الله وتمام عبوديته، وكل ذلك إنما يقع بحكمة الله البالغة، وعدله التام، {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا *} [الكهف] [4].


[1] لا إلى تشريع لم يعلم إلا بذلك الإلهام، فقد تقدم أن الإلهام ليس دليلاً على أحكام الشريعة، وانظر ما تقدم في: فقرة (الأقسام).
[2] انظر: مجموع الفتاوى (10/477).
[3] مدارج السالكين (1/44).
[4] انظر: مجموع الفتاوى (8/513 ـ 514) (14/332 ـ 333)، ومنهاج السُّنَّة (8/208)، والحسنة والسيئة (93) [مطبعة المدني].


لقد غلت طوائف من أهل البدع والأهواء ـ كبعض الصوفية والجهمية والرافضة[1] ـ في الإلهام، حتى عدَّه بعضهم مصدرًا مستقلًّا من مصادر التشريع، وتوهموا أن ما يلقى إليهم من الخيالات هو من الآيات البينات، وأنها من الله تعريفات، فلا تعرض على السُّنَّة والقرآن، ولا تقابل إلا بالقبول والإذعان[2]، حتى صرح الغزالي أن النصوص الشرعية إنما تقبل إذا وافقت ما يرد على القلب من الكشوف ونحوها[3].
وبعض غلاتهم جعل الإلهام خطابًا محضًا لهم من الله بلا واسطة ولا حجاب، وجعلوه أعظم من تكليم الله لموسى عليه السلام[4].
الرد عليهم:
لا شكَّ أن ما ذهب إليه هؤلاء من أعظم الضلال، وما هذا الذي يدعونه إلا من الكذب والافتراء، أو أنه من إيحاء الشيطان ووسوسته، كما قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيْاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَولِيَائِهِمْ} [الأنعام: 121] ، وقول هؤلاء لا شك في بطلانه، كما أن من أنكر الإلهام على الإطلاق فقوله باطل أيضًا، قال ابن تيمية رحمه الله: «الذين أنكروا كون الإلهام طريقًا على الإطلاق أخطؤوا، كما أخطأ الذين جعلوه طريقًا شرعيًّا على الإطلاق»[5].
وقد تقدم بيان التفصيل في مدى حجية الإلهام، وأنه لا يعتبر دليلاً مستقلًّا للأحكام أو الأخبار.
وبطلان قول الصوفية الغلاة ونحوهم ممن جعل الإلهام لغير الرسل دليلاً يتضح بأمور:
1 ـ أننا مأمورون عند النزاع أن نرجع إلى الكتاب والسُّنَّة، لا إلى الإلهام ولا غيره، كما دلَّت على ذلك النصوص القطعية، كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً *} [النساء] .
2 ـ أن لازم كلامهم أنه لا يستفاد من خبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم شيء من الأمور العلمية، بل إنما يدرك ذلك كل إنسان بما حصل له من الإلهامات والكشوفات، وهذا أصل الإلحاد، فإن كل ذي مكاشفة إن لم يزنها بالكتاب والسُّنَّة وإلا دخل في الضلالات[6].
3 ـ أن النصوص الواردة في الإلهام وما جرى مجراه لم تجعل الإلهام مصدرًا لتلقي الأحكام، بل هو تثبيت من الله للمؤمن، أو بشارة له.
قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله بعد كلامه على الإلهام: «وبالجملة؛ فلا يخفى على من له إلمام بمعرفة دين الإسلام أنه لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه وما يتقرب إليه به من فعل وترك إلا عن طريق الوحي، فمن ادعى أنه غني في الوصول إلى ما يرضي ربه عن الرسل وما جاؤوا به ـ ولو في مسألة واحدة ـ فلا شك في زندقته، والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا تحصى، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً *} [الإسراء] ولم يقل: حتى نلقي في القلوب إلهامًا... وبذلك تعلم أن ما يدعيه كثير من الجهلة المدعين التصوف من أن لهم ولأشياخهم طريقًا باطنة توافق الحق عند الله ولو كانت مخالفة لظاهر الشرع... زندقة وذريعة إلى الانحلال بالكلية من دين الإسلام بدعوى أن الحق في أمور باطنة تخالف ظاهره»[7].
4 ـ أن الذي ضمنت لنا عصمته هو كتاب الله وسُنَّة مصطفاه صلّى الله عليه وسلّم، وأما الإلهام ـ لغير الأنبياء ـ فلم تضمن عصمته.
قال الجنيد: قال أبو سليمان الداراني: «ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أيامًا، فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين من الكتاب والسُّنَّة»[8].
وهؤلاء قد صرح كثير منهم بعصمة أقوال أئمتهم من الخطأ[9]، وهذه الدعوى تضاهي دعوى النبوة، قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: «ودعوى العصمة تضاهي المشاركة في النبوة فإن المعصوم يجب اتباعه في كل ما يقول، لا يجوز أن يخالف في شيء، وهذه خاصة الأنبياء... فمن جعل بعد الرسول معصومًا يجب الإيمان بكل ما يقوله فقد أعطاه معنى النبوة وإن لم يعطه لفظها... وكثير من الغلاة في المشايخ يعتقد أحدهم في شيخه نحو ذلك، ويقولون: الشيخ محفوظ، ويأمرون باتباع الشيخ في كل ما يفعل، لا يخالف في شيء أصلاً... ومعلوم أن كل هذه الأقوال مخالفة لدين الإسلام للكتاب والسُّنَّة وإجماع سلف الأمة وأئمتها»[10].
5 ـ «أن الذي ثبت بالنص أنه كان ملهمًا: هو الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما في «الصحيح» عن النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ أنه قال: «قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي فعمر» ، ومع هذا فلم يكن يجوز لعمر أن يفتي ولا يقضي ولا يعمل بمجرد ما يلقى في قلبه حتى يعرض ذلك على الكتاب والسُّنَّة، فإن وافقه قبله، وإن خالفه رده»[11].
6 ـ أن ما يرد على بعض الناس من الإلهامات فإنه لا يستطيع أن يقطع بكونه إلهامًا من الملك، بل قد يختلط على البعض ما يكون من إلهام الملك وما يكون من وسواس الشياطين، كما قد يكون من أحاديث النفس، فصار الأمر معرضًا للاحتمال، فيبطل به الاستدلال[12].
7 ـ أن إرجاع الأحكام الشرعية الثابتة إلى الإلهام وما في معناه يجعلها عرضة للاختلاف والاضطراب، إذ كل إنسان سيدعي أن الإلهام دلَّه على كذا، ولا حجة لأحدهم على الآخر.
قال الشاطبي رحمه الله: «اعلم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مؤيد بالعصمة، معضود بالمعجزة... وأما أمته: فكل واحد منهم غير معصوم، بل يجوز عليه الغلط والخطأ والنسيان، ويجوز أن تكون رؤياه حلمًا وكشفه غير حقيقي، وإن تبين في الوجود صدقة، واعتيد ذلك فيه، وأطرد فإمكان الخطأ والوهم باق، وما كان هذا شأنه لم يصح أن يقطع به حكم»[13].


[1] انظر: قواطع الأدلة (2/348)، والإحكام (1/76) (2/224)، والتحبير شرح التحرير (2/784)، وتيسير التحرير (4/185)، والبحر المحيط في الأصول (4/400).
[2] إغاثة اللهفان (1/119) [دار المعرفة، ط2، 1395هـ] بتصرف، وبيان كشف الألفاظ للامشي (3).
[3] انظر: إحياء علوم الدين (1/104) [دار الندوة الجديدة]، وانظر إبطال قوله في: درء التعارض (5/347 ـ 357) [جامعة الإمام، ط1]، وانظر في أقوالهم أيضًا: الفتوحات المكية لابن عربي (1/100) (2/86) (4/128)، وعوارف المعارف للسهروردي (404) [مكتبة القاهرة، 1393هـ]، واليواقيت والجواهر للشعراني (1/24 ـ 25) (2/85) [مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1378هـ].
[4] انظر: بغية المرتاد لابن تيمية (386 ـ 387)، ودرء التعارض (5/354).
[5] مجموع الفتاوى (10/473)، وانظر: قواطع الأدلة في الأصول (2/352).
[6] درء التعارض (5/348)، بتصرف.
[7] أضواء البيان (3/324)، وانظر: تفسير القرطبي (11/40 ـ 41).
[8] انظر: درء تعارض العقل والنقل (5/349)، وإغاثة اللهفان (1/124).
[9] انظر: اليواقيت والجواهر للشعراني (1/24 ـ 25).
[10] منهاج السُّنَّة النبوية (6/187 ـ 189).
[11] منهاج السُّنَّة (8/70)، وانظر: بغية المرتاد (387 ـ 388)، ودرء التعارض (5/349)، والحديث سبق تخريجه قريبًا، وهو في الصحيحين.
[12] انظر: درء التعارض (5/352)، وقواطع الأدلة (2/350 ـ 351)، وتيسير التحرير (4/185).
[13] الموافقات (4/83 ـ 84)، وانظر حججًا أخرى في إبطال قولهم في: قواطع الأدلة في الأصول (2/350).


1 ـ «أضواء البيان»، للشنقيطي.
2 ـ «بغية المرتاد»، لابن تيمية.
3 ـ «التحبير شرح التحرير»، للمرداوي.
4 ـ «شفاء العليل»، لابن القيم.
5 ـ «قواطع الأدلة في الأصول»، للسمعاني.
6 ـ «كشف الأسرار»، لعبد العزيز البخاري.
7 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
8 ـ «مدارج السالكين»، لابن القيم.
9 ـ «المعرفة في الإسلام»، لعبد الله القرني.
10 ـ «منهاج السُّنَّة النبوية»، لابن تيمية.