حرف الهاء / الهامة

           

قال ابن فارس رحمه الله: «الهاء والألف والميم أصلٌ صحيح يدلّ على علو في بعض الأعضاء، ثم يُستعار. فالهامة: الرأس، والجمع هامٌ وهامات، وأما الهامة في الطير فليست في الحقيقة طيرًا»[1].
والهامَة : بتخفيف الميم: رأس كل شيء من ذوات الأرواح، وقد قيل: إنه طير من طيور الليل يألف المقابر، وقيل: هو الصدى، كأنه يعني البومة. وقد ذُكر أن الهامة في الطير ليست في الحقيقة طيرًا، إنما هو شيءٌ كما كانت العرب تقوله، كانوا يقولون: إنّ روح القتيل الذي لا يدرك بثأره تصير هامةً فتزقو[2] تقول: اسقوني، اسقوني، فإذا أدرك بثأره طارت[3].


[1] مقاييس اللغة (6/27) [دار الجيل، ط 1420هـ].
[2] زقا الديك يزقو زَقوًا وزقاء: صاح. انظر: تاج العروس (38/219).
[3] انظر: تهذيب اللغة (6/468) [الدار المصرية]، ومقاييس اللغة (6/27)، والصحاح (5/2063) [دار العلم للملايين، ط3]، ولسان العرب (15/162) [دار إحياء التراث العربي، ط3، 1419هـ].


اختلفت أقوال أهل العلم في تفسير الهامة الوارد ذكرها في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة» [1] على أقوال عدة[2]:
أحدها: أنّ الهامة هي الطائر الذي كانت العرب تتشاءم به، وهو من طيور الليل. وقيل: هي البومة إذا سقطت على دار أحدهم فيراها ناعية له نفسه أو أحدًا من أهله.
الثاني: أنّ الهامة هي ما كانت تعتقده العرب من أنّ روح القتيل ـ وقيل عظامه ـ تنقلب هامة؛ أي: طيرًا، أو دودة، وتبقى عند قبره إذا لم يؤخذ بثأره وتقول: اسقوني من دم قاتلي، فإذا أخذ بثأره طارت.
الثالث: أن عظام الميت عمومًا ـ دون تخصيص المقتول منها ـ، أو روحه تصير طائرًا فتطير، وكانوا يسمون ذلك الطائر بالصدى.


[1] أخرجه البخاري (كتاب الطب، رقم 5757)، ومسلم (كتاب السلام، رقم 2220).
[2] انظر: غريب الحديث لأبي عبيد القاسم (1/151) [الهيئة العامة لشؤون المطابع، القاهرة، ط104هـ]، ومعالم السنن للخطابي (4/233) [المطبعة العلمية بحلب، ط1، 1352هـ]، وشرح السُّنَّة للبغوي (12/170) [المكتب الإسلامي، ط2، 1403هـ]، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير (5/283) [دار إحياء التراث العربي].


على المعنى الأول: فهي نوع من أنواع الطيرة المنهي عنها شرعًا[1]، فتكون من الشرك بالله تعالى؛ لأن فيها اعتقاد أن مثل هذه الطيور تجلب الضرر، وأما من اعتقد أنها من جملة الأسباب، وأن الضار هو الله تعالى، فهو من الشرك الأصغر.
وأما على المعنى الثاني: فهي من جملة الخرافات التي لا يصدق بها إلا الجهال، وهي من أعمال الجاهلية، وقد ورد النهي الشديد في التشبه بأهل الجاهلية، ومن فعل ذلك فقد وقع في كبيرة من كبائر الذنوب.
قال ابن رجب رحمه الله في سياق كلامه على حديث: «لا عدوى ولا هامة ولا صفر» [2]: «وهذا مما يدل على أن المراد نفي تأثير هذه الأسباب بنفسها، من غير اعتقاد أنها بتقدير الله وقضائه، فمن أضاف شيئًا من النعم إلى غير الله، مع اعتقاد أنه ليس من الله، فهو مشرك حقيقة، ومع اعتقاد أنه من الله، فهو نوع شرك خفي»[3].


[1] انظر: معالم السنن للخطابي (4/234).
[2] تقدم تخريجه.
[3] لطائف المعارف (142) [دار ابن كثير، ط5، 1420هـ].


الهامَة ـ بتخفيف الميم ـ في الحقيقة ليست طيرًا، وإنما أطلقته العرب على ما كانت تعتقده في التشاؤم ببعض الطيور، كالبومة، إذا وقعت على بيت أحدهم اعتقد فيها أنها تنعي له نفسه، أو أحدًا من أهله، فعلى هذا فهي نوع من أنواع التطير المحرم. أما ما كانت العرب تعتقده من أن عظام الميت أو روحه تصير طائرًا، فتطير، وكانوا يسمونه بالصدى، أو أن عظام الميت تنقلب طائرًا أو دودة، وتبقى على القبر تدور تقول: اسقوني، اسقوني. حتى يؤخذ بثأره من القاتل فتذهب، هذه من الخرافات، التي لا حقيقة لها، ولا وجود لها[1].


[1] انظر: غريب الحديث لأبي عبيد القاسم (1/151)، ومعالم السنن للخطابي (4/233)، وشرح السُّنَّة للبغوي (12/170)، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير (5/283)، ولطائف المعارف (142).


عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا عدوى ولا صفر ولا هامة» فقال أعرابي: يا رسول الله، فما بال إبلي، تكون في الرمل كأنها الظباء، فيأتي البعير الأجرب فيدخل بينها فيجربها؟ فقال: «فمن أعدى الأول؟»[1].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلّى الله عليه وسلّم: «لا عدوى ولا طيرة، ولا هامة ولا صفر، وفرَّ من المجذوم كما تفرُّ من الأسد»[2].
وعن عطاء قال: «يقول الناس: الصفر وجع يأخذ في البطن». قيل له: فما الهامة؟ قال: «يقول الناس الهامة: التي تصرخ هامة الناس، وليست بهامة الإنسان، إنما هي دابة»[3].


[1] أخرجه البخاري (كتاب الطب، رقم 5717)، ومسلم (كتاب السلام، رقم 2220).
[2] أخرجه البخاري (كتاب الطب، رقم 5707).
[3] سنن أبي داود، (كتاب الطب، رقم 3981).


قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله: «وأما الهامة: فإن العرب كانت تقول: إن عظام الموتى تصير هامة فتطير، أبطل النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك من قولهم. قلت: وتطيُّر العامة اليوم من صوت الهامة ميراث ذلك الرأي، وهو من باب الطيرة المنهي عنها»[1].
وقال النووي رحمه الله: «ويجوز أن يكون المراد النوعين، فإنهما جميعًا باطلان، فبيّن النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم إبطال ذلك، وضلال الجاهلية فيما تعتقده من ذلك»[2].
قال ابن رجب رحمه الله: «قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا هامة» : فهو نفي لما كانت الجاهلية تعتقده أنّ الميت إذا مات صارت روحه أو عظامه هامة، وهو طائر يطير، وهو شبيه باعتقاد أهل التناسخ أنّ أرواح الموتى تنتقل إلى أجساد حيوانات، من غير بعث ولا نشور! وكل هذه اعتقادات باطلة جاء الإسلام بإبطالها وتكذيبها»[3].


[1] معالم السنن للخطابي (4/233، 234).
[2] صحيح مسلم بشرح النووي (14/215) [المطبعة المصرية بالأزهر، ط1، 1349هـ].
[3] لطائف المعارف لابن رجب (147).


الفرق بين الهامَة والهامَّة:
الهامَة سبق تعريفها وأن المراد بها طائر كانت العرب تتشاءم به، وهو من طيور الليل (البومة). وقيل: ما كانت تعتقده العرب من أنّ روح القتيل ـ وقيل: عظامه ـ تنقلب هامة إذا لم يؤخذ بثأره.
أما الهامَّة بتشديد الميم فهي واحدة الهوام ذوات السموم، وقيل: كل ما له سم يقتل، وأما ما لا يقتل سُمه فيقال له: السوام، وقيل: المراد كل نسمة تهم بسوء[1]. وقال ابن فارس: «الهوام حشرات الأرض، سميت لهميمها؛ أي: دبيبها»[2].
ومنه حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يعوِّذ الحسن والحسين، ويقول: «إن أباكما كان يعوِّذ بها إسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامَّة، ومن كل عين لامة»[3].
لكن لم يرد في الحديث السابق: «لا هامة» بتشديد الميم، وإنما المحفوظ هو تخفيفها.
قال أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله: «وقال أبو زيد: الهامَّة مشددة الميم، يذهب إلى واحدة الهوام؛ وهي دواب الأرض. قال أبو عبيد: ولا أرى أبا زيد حفظ هذا، وليس له معنًى»[4].


[1] انظر: فتح الباري لابن حجر (7/676) [دار طيبة، ط1، 1426هـ].
[2] مقاييس اللغة (6/13).
[3] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3371).
[4] غريب الحديث (1/152).


1 ـ التشاؤم بالهامة مما يورث في القلوب التعلق بغير الله عزّ وجل، والخوف منه، والانصراف عن الله عزّ وجل، وهو المدبر المتصرف في الكون، وأن ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
2 ـ الوقوع في التشبه بأهل الجاهلية في أفعالهم، وقد ورد النهي الشديد في التشبه بهم؛ لما يفضي به إلى الوقوع في الموافقة والموالاة المنهي عنهما.
3 ـ اعتقاد ما كان يعتقده أهل الجاهلية في الهامة يورث القلق والحزن في القلوب، وينغص على المرء معيشته وأحواله، ولا شك أن هذا ما تحرص عليه الشياطين؛ كما قال تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ *} [المجادلة] .



1 ـ «التمهيد»، لابن عبد البر.
2 ـ «تيسير العزيز الحميد»، لسليمان بن عبد الله.
3 ـ «شرح صحيح مسلم»، للنووي.
4 ـ «فتح الباري»، لابن حجر.
5 ـ «فتح المجيد»، لعبد الرحمن بن حسن.
6 ـ «الشرك ومظاهره»، لمبارك الميلي.
7 ـ «لطائف المعارف»، لابن رجب الحنبلي.
8 ـ «معارج القبول»، لحافظ الحكمي.
9 ـ «شرح المسائل التي خالف فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهل الجاهلية»، ليوسف السعيد.