حرف الهاء / الهجر

           

قال ابن فارس: «الهاء والجيم والراء أصلانِ، يدلُّ أحدهما على قطيعةٍ وقَطْع، والآخر على شَدِّ شيءٍ ورَبْطِه، فالأوَّل الهَجْر: ضِدُّ الوصل، وكذلك الهِجْران. وهاجَرَ القومُ مِن دارٍ إلى دارٍ: تَرَكُوا الأولى للثانية»[1]، الهجر ضد الوصل، والتهاجر: التقاطع[2].


[1] مقاييس اللغة (6/34) [دار الجيل، ط1، 1411هـ].
[2] انظر: الصحاح (2/851) [دار العلم للملايين، ط3].


الهجر : الإعراض بالكلية عن الشخص، والبراءة منه، وفعل ما يتأدى به زجره من المقاطعة عقوبة له على بدعة أو فسق، أو لاستصلاح أمر دنيوي، وترك السيئات ديانة لله[1].
وقيل: الهجر «ترك الشخص مكالمة الآخر إذا تلاقيا، وهي في الأصل الترك فعلاً كان أو قولاً».


[1] انظر: فتح الباري (10/497)، هجر المبتدع (19).


المعنيان متفقان، والشرع خصه بهجر المبتدع والفاسق.



الأصل في الهجر هو الإعراض بالكلية عن المبتدع، والفاسق، والبراءة منه. ومن مفردات الهجر:
1 ـ عدم مجالسته.
2 ـ الابتعاد عن مجاورته.
3 ـ ترك توقيره.
4 ـ ترك مكالمته والحديث معه.
5 ـ ترك السلام عليه.
6 ـ ترك التسمية له.
7 ـ ترك بسط الوجه له، مع عدم هجر السلام والكلام.
8 ـ عدم سماع كلامه وقراءته.
9 ـ عدم مشاورته.
ونحوها من الصفات التي يتأدى بها الزجر بالهجر، وتحصل مقاصد الشرع[1].


[1] انظر: فتح الباري (10/497)، هجر المبتدع (19).


يؤصِّل علماء الإسلام هجر المبتدع ديانة تحت قاعدة الولاء والبراء، ومفهوم هذه القاعدة لدى أهل السُّنَّة والجماعة هو: الحب والبغض في الله، فهم يوالون أولياء الرحمن، ويعادون أولياء الشيطان، وكلٌّ بحسب ما فيه من الخير والشر[1].


[1] انظر: هجر المبتدع لبكر أبي زيد (20).


الأدلة على الهجر الشرعي، كثيرة منها:
قول الله عزّ وجل: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ *} [الأنعام] .
وقوله عزّ وجل: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَىءُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا *} [النساء] .
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحل للمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام»[1] ، مفهوم المخالفة يدل على جواز الهجر دون ثلاث.
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم»[2].
وقال كعب حين تخلف عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: ونهى النبي صلّى الله عليه وسلّم المسلمين عن كلامنا، وذكر خمسين ليلة[3].


[1] أخرجه البخاري (كتاب الأدب، رقم 6065) من حديث أنس، ومسلم (كتاب البر والصلة والآداب، رقم 2561) من حديث ابن عمر، واللفظ له.
[2] أخرجه مسلم (المقدمة، رقم 6)، وأحمد (14/19) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والحاكم (كتاب العلم، رقم 351) وصححه.
[3] أخرجه البخاري (كتاب المغازي، رقم 4418)، ومسلم (كتاب التوبة، رقم 2769).


الهجر الشرعي للمبتدعة، والفساق، عبادة، والعبادة لا بد من توفر ركنيها؛ الإخلاص والمتابعة، فالهجر لهوى النفس ينقض الإخلاص، والهجر على خلاف الأمر ينقض المتابعة[1].
وهذا الهجر يختلف باختلاف البدعة نفسها، واختلاف مبتدعها، واختلاف أحوال الهاجرين، واختلاف المكان والقوة والضعف، والقلة والكثرة، بحيث ينظر إلى مدى تحقق المقاصد الشرعية من الهجر؛ كالزجر، والتأديب، ورجوع العامة، وتحجيم المبتدع وبدعته، وضمان السُّنَّة من شائبة البدعة[2].


[1] انظر: هجر المبتدع لبكر أبي زيد (18).
[2] انظر: مجموع الفتاوى (28/206 ـ 218) [مكتبة النهضة الحديثة، 1404هـ]، هجر المبتدع (49).


أقسام الهجر ثلاثة[1]:
الأول: الهجر ديانة؛ أي: الهجر لحق الله سبحانه وتعالى، وهو من عمل أهل التقوى، في هجر السيئة، وهجر فاعلها، وهذا النوع من الهجر على قسمين:
1 ـ هجر ترك: بمعنى هجر السيئات، وهجر قرناء السوء الذين تضر صحبتهم إلا لحاجة، أو مصلحة راجحة.
2 ـ هجر تعزير: وهذا من العقوبات الشرعية التبصيرية التي توقع على المبتدع، على وجه التأديب، في دائرة الضوابط الشرعية للهجر، حتى يتوب المبتدع ويفيء.
الثاني: الهجر لاستصلاح أمر دنيوي؛ أي: الهجر لحق العبد، وفيه جاءت أحاديث الهجر بما دون ثلاث ليال، وجميعها تفيد أن الشرع لم يرخص بهذا النوع من الهجر بين المسلمين إلا بما دون ثلاث ليال. ومنها قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحل للمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام»[2] . ومن الهجر هنا: هجر الوالد لولده، والزوج لزوجته، وقد هجر النبي صلّى الله عليه وسلّم نساءه شهرًا. وبعد أن بيَّن الخطابي أن ما وراء الثلاث على المنع قال: «فأما هجران الوالد ولده والزوج لزوجه، ومن كان في معناهما فلا يضيق أكثر من ثلاث، وقد هجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نساءه شهرًا»[3].
النوع الثالث: الهجر قضاء، وهو من العقوبات التعزيرية للمعتدين، وهذا يبحثه الفقهاء في باب التعزير.
أما هجر الكافر فقد استشكل كون هجران الفاسق أو المبتدع مشروعًا، ولا يشرع هجران الكافر، وهو أشد جرمًا منهما لكونهما من أهل التوحيد في الجملة. وأجاب البعض بأن لله أحكامًا فيها مصالح للعباد، وهو أعلم بشأنها، وعليهم التسليم لأمره فيها، فجنح إلى أنه تعبد لا يعقل معناه. وأجاب آخرون بأن الهجران على مرتبتين: الهجران بالقلب، والهجران باللسان، فهجران الكافر بالقلب وبترك التودد والتعاون والتناصر، لا سيما إذا كان حربيًّا، وإنما لم يشرع هجرانه بالكلام لعدم ارتداعه بذلك عن كفره، بخلاف العاصي المسلم، فإنه ينزجر بذلك غالبًا[4].


[1] انظر: هجر المبتدع لبكر أبي زيد (13 ـ 17)، وانظر أيضًا: التمهيد لابن عبد البر (6/127) [وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب، 1387هـ]، وشرح النووي على صحيح مسلم (16/117)، وفتح الباري (10/492).
[2] تقدم تخريجه.
[3] معالم السنن (4/112).
[4] انظر: فتح الباري (10/497) بتصرف.


1 ـ «شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة» (ج1)، لللالكائي.
2 ـ «فتح الباري» (ج10)، لابن حجر.
3 ـ «القول المسموع في بيان الهجر المشروع»، للغماري.
4 ـ «مجموع الفتاوى» (ج28، 10)، لابن تيمية.
5 ـ «نواقض الإيمان الاعتقادية»، لمحمد الوهيبي.
6 ـ «هجر المبتدع»، لبكر أبي زيد.
7 ـ «الهجر في الكتاب والسُّنَّة»، لمشهور آل سلمان.
8 ـ «الهجر المشروع والممنوع»، لابتسام الفالح [رسالة ماجستير].