حرف الهاء / الهدى

           

قال ابن فارس رحمه الله: «الهاء والدال والحرف المعتلّ: التقدُّمُ للإرشاد، والآخر: بعثة، فالأوَّل قولُهم: هدَيتُه الطَّريق هِدايةً؛ أي: تقدّمتُه لأرشدَه. وكلُّ متقدِّمٍ لذلك هادٍ... والأصل الآخر: الهَدِيَّة»[1].
والهُدى ضِدُّ الضَّلاَلِ وَهُوَ الرَّشادُ،. تقول: هَداهُ هُدًى وهَدْيًا وهِدَايَةً وهِدْيَةً ـ بكسرهما ـ: أرْشَدَهُ، فَهَدَى واهْتَدَى والهداية دلالة بلطف[2].


[1] انظر: مقاييس اللغة (6/42) [دار الجيل، 1420هـ].
[2] انظر: مقاييس اللغة (6/42)، ولسان العرب (1/698) [دار صادر، ط1]، ومختار الصحاح (586) [مكتبة لبنان، بيروت، 1415هـ].


الهداية في الشرع على قسمين: الأولى: هداية التوفيق: وهي جعل الهدى في القلوب، وهي المستلزمة للاهتداء، ولا يقدر عليها إلا الله تعالى. والثانية: هداية الدلالة والإرشاد، وتعني نصب الأدلة، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، ولا تستلزم حصول التوفيق، وإن كانت شرطًا فيه[1].


[1] انظر: مجموع الفتاوى (18/172) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط 1425هـ]، وشفاء العليل لابن القيم (141) [دار عالم الفوائد، ط 1، 1424هـ].


التوفيق.



مما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها أن الله خالق كل شيء، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه يهدي من يشاء؛ وأن العباد لهم مشيئة وقدرة، يفعلون بمشيئتهم وقدرتهم ما أقدرهم الله عليه؛ مع قولهم: إن العباد لا يشاؤون إلا أن يشاء الله[1].


[1] مجموع الفتاوى (8/459).


هو إنّ الله تعالى خص المؤمنين بنعمة يهتدون بها لم يعطها للكافرين[1]. وأنّ الله سبحانه هو خالق أفعال العباد، فمن شاء منهم هداه ووفقه ونوَّر بصيرته وأزاح عنه غبش الشبهات والشهوات، وأخذ بيده عند الفتن والمحن، فوقاه إياها وانشرح صدره للطاعة والاستجابة للشرع والدين، وذلك كله وفق رحمة الله وحكمته وجوده وإحسانه وفضله.


[1] انظر: منهاج السُّنَّة (3/103).


الهداية للحق والخير هي أعظم مكاسب البشر، والضلال عن الهدى أعظم خسارة يبتلى بها البشر، لهذا كانت هذه المسألة من أشرف المسائل وأعظمها وقد ضمَّنها الله عزّ وجل أعظم سور القرآن الكريم وهي سورة الفاتحة، حيث تضمَّنت سؤال الله عزّ وجل الهداية والاستعاذة من طرق أهل الغواية: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ *} [الفاتحة] ، فمن تحققت له الهداية للصراط المستقيم فقد تحقق له النجاح والفوز في الدنيا والآخرة، ومن ضل عنه إلى طريق المغضوب عليهم أو الضالين، فقد خسر دنياه وأخراه وباء بالعذاب الأليم.
قال ابن القيم رحمه الله عن موضوع الهدى والضلال: «هو قلب أبواب القدر ومسائله فإن أفضل ما يقدر الله لعبده وأجل ما يقسمه له الهدى وأعظم ما يبتليه به ويقدره عليه الضلال، وكل نعمة دون نعمة الهدى، وكل مصيبة دون مصيبة الضلال»[1].


[1] شفاء العليل (65) [دار المعرفة، بيروت، 1398هـ].


جاءت النصوص الشرعية المتكاثرة التي تبيِّن أن الهداية إلى الحق والصراط المستقيم إنما هي بيد الله عزّ وجل وحده، كما أن الضلالة بيده سبحانه ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ *} [القصص] ، وقوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ *} [البقرة] ، وقوله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *} [الحجرات] ، وقوله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا *} [الكهف] .
وعن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطب النّاس، يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله، ثمّ يقول: «من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وخير الحديث كتاب الله»[1].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: علَّمنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطبة الحاجة: «أن الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله...»[2].


[1] أخرجه مسلم (كتاب الجمعة، رقم 867).
[2] أخرجه أبو داود (كتاب النكاح، رقم 2118)، والترمذي (أبواب النكاح، رقم 1105) وحسنه، والنسائي (كتاب الجمعة، رقم 1404)، وابن ماجه (كتاب النكاح، رقم 1892)، وأحمد (6/262) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والدارمي (كتاب النكاح، رقم 2248)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (رقم 1844) [مؤسسة غراس، ط1].


قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «الهدى أربعة أقسام: أحدها: الهداية إلى مصالح الدنيا، فهذا مشترك بين الحيوان الناطق، والأعجم، وبين المؤمن والكافر. والثاني: الهدى بمعنى دعاء الخلق إلى ما ينفعهم، وأمرهم بذلك، وهو نصب الأدلة، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، فهذا أيضًا يشترك فيه جميع المكلفين، سواء آمنوا أو كفروا... والقسم الثالث: الهدى الذي هو جعل الهدى في القلوب، وهو الذي يسمِّيه بعضهم بالإلهام والإرشاد... والقسم الرابع: الهدى في الآخرة»[1].
وقال ابن القيم رحمه الله: «فالهداية والإضلال فعله سبحانه وقدره، والاهتداء والضلال فعل العبد وكسبه... فأما مراتب الهدى فأربعة؛ إحداها: الهدى العام، وهو هداية كل نفس إلى مصالح معاشها وما يقيمها، وهذا أعم مراتبه. المرتبة الثانية: الهدى بمعنى البيان والدلالة والتعليم والدعوة إلى مصالح العبد في معاده، وهذا خاص بالمكلفين، وهذه المرتبة أخص من المرتبة الأولى، وأعم من الثالثة. المرتبة الثالثة: الهداية المستلزمة للاهتداء، وهي هداية التوفيق، ومشيئة الله لعبده الهداية، وخلقه دواعي الهدى، وإرادته، والقدرة عليه للعبد، وهذه الهداية التي لا يقدر عليها إلا الله عزّ وجل، المرتبة الرابعة: الهداية يوم المعاد إلى طريق الجنة والنار»[2].
وقال السعدي رحمه الله: «الهداية نوعان: هداية البيان، وهداية التوفيق، فالمتقون حصلت لهم الهدايتان، وغيرهم لم تحصل لهم هداية التوفيق، وهداية البيان بدون توفيق للعمل بها، ليست هداية حقيقية تامة»[3].


[1] مجموع الفتاوى (18/172 ـ 174).
[2] شفاء العليل (65).
[3] تفسير السعدي (29) [دار السلام، ط 2، 1422هـ].


قد دلَّت النصوص الشرعية على أن الهداية الواردة في القرآن الكريم على أربعة أنواع ولكل نوع منها حكمه وشروطه:
النوع الأول: الهداية العامة، وهي إعطاء كل مخلوق ما يصلح حياته ومعاشه من الأعضاء والإمكانيات ثم هدايته لتلك المصالح، على حد قوله عزّ وجل: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى *} [طه] .
النوع الثاني: الهداية بمعنى الدلالة والإرشاد والبيان، ومما جاء في هذا المعنى من الآيات قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقَيمٍ *} [الشورى] ، قال ابن جرير رحمه الله: «يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم: وإنك يا محمد لتهدي إلى صراط مستقيم عبادنا، بالدعاء إلى الله، والبيان لهم»[1].
ومن هذا المعنى قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] . قال ابن جرير: «فبيَّنا لهم سبيل الحق وطريق الرشد»، وقال قتادة: «بيَّنا لهم سبيل الخير والشرّ»[2].
وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *} [التوبة] ، قال ابن القيم رحمه الله: «فهداهم هدى البيان والدلالة فلم يهتدوا فأضلهم عقوبة لهم على ترك الاهتداء أولاً بعد أن عرفوا الهدى فأعرضوا عنه، فأعماهم عنه بعد أن أراهموه، وهذا شأنه سبحانه في كل من أنعم عليه بنعمة فكفرها فإنه يسلبه إياها بعد أن كانت نصيبه وحظه»[3].
فهذا النوع من الهداية ليس خاصًّا بالله عزّ وجل وإنما هو عام يبيِّنه كل داع إلى الخير والهدى، فالرسل عليهم السلام يهدون الناس فيدلّونهم على سبيل الرشاد ويحذرونهم من سبل الغواية والهلاك، وكذلك الدعاة إلى الخير من العلماء وغيرهم، فكل من دعا إلى الصلاح والخير فهو بهذا المعنى هادٍ للخير والصلاح.
النوع الثالث: الهداية بمعنى التوفيق للعمل الصالح وخلق الإيمان في القلب وجعل المدعو مستجيبًا لأمر الله عزّ وجل، ومن هذا الباب قوله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا *} [الكهف] ، وقوله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ *} [الأعراف] ونحوها من الآيات التي تنص على أن الهداية بيد الله عزّ وجل، وأن من هداه الله فهو المهتدي، ومن أضله فهو الضال، قال ابن القيم رحمه الله: «المرتبة الثالثة من مراتب الهداية هداية التوفيق والإلهام وخلق المشيئة المستلزمة للفعل... وهذه المرتبة تستلزم أمرين؛ أحدهما: فعل الرب تعالى وهو الهدى، والثاني: فعل العبد وهو الاهتداء، وهو أثر فعله سبحانه، فهو الهادي والعبد المهتدي، قال تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي}، ولا سبيل إلى وجود الأثر إلا بمؤثره التام، فإن لم يحصل فعله لم يحصل فعل العبد، ولهذا قال تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37] ، وهذا صريح في أن هذا الهدى ليس له صلّى الله عليه وسلّم ولو حرص عليه ولا إلى أحد غير الله، وأن الله سبحانه إذا أضل عبدًا لم يكن لأحد سبيل إلى هدايته، كما قال تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: 186] »[4].
النوع الرابع: الهداية إلى المنازل في الجنة، نسأل الله من فضله، وإلى الدركات في النار، نسأل الله المعافاة، وقد ورد في هذا المعنى فيما يتعلق بالهداية إلى المنازل في الجنة قوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيْتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ *سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ *وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ *} [محمد] .
وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رَسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم قالَ: «إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار، فيتقاصُّون مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا نقوا وهذّبوا، أذن لهم بدخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده، لأحدهم بمسكنه في الجنة أدل بمنزله كان في الدنيا»[5].
وروى ابن جرير بسنده عن مجاهد قال: «يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم، وحيث قسم الله لهم لا يخطئون، كأنهم سكانها منذ خلقوا لا يستدلون عليها أحدًا».
وأما ما ورد مما يتعلق بهداية أهل النار إلى دركاتهم ـ نسأل الله المعافاة ـ فقوله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ *مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ *} [الصافات] .
قال الطبري رحمه الله في معناها: «يقول تعالى ذكره: احشروا هؤلاء المشركين وآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله، فوجهوهم إلى طريق الجحيم»[6]، وقال ابن تيمية في معناها: «قودوهم كما يقود الهادي لمن يهديه؛ ولهذا تسمى الأعناق الهوادي؛ لأنها تقود سائر البدن، وتسمَّى أوائل الوحش: الهوادي»، وقال ابن كثير: «أرشدوهم إلى طريق جهنم»[7].
فهذه هداية بمعنى الإرشاد والدلالة لأهل النار إلى أماكنهم منها، نسأل الله المعافاة.


[1] تفسير الطبري (21/561).
[2] تفسير الطبري (21/448).
[3] شفاء العليل لابن القيم (80).
[4] شفاء العليل لابن القيم (80، 81).
[5] أخرجه البخاري (كتاب المظالم والغصب، رقم 2440).
[6] تفسير الطبري (21/28).
[7] تفسير ابن كثير (7/9).


المسألة الأولى: معنى الهداية المثبتة للرسول صلّى الله عليه وسلّم والهداية التي نفى الله عزّ وجل أن تكون إليه:
ورد في كلام الله عزّ وجل قوله عن نبيه صلّى الله عليه وسلّم: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ *} [القصص] .
كما ورد في الآية الأخرى إثبات ذلك لنبيه صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقَيمٍ *} [الشورى]
فالآية الأولى: نفى فيها الله عزّ وجل أن يكون للنبي صلّى الله عليه وسلّم الهداية، والآية الأخرى أثبتت ذلك له، والآيتان ليس بينهما تنافٍ ولا تناقض؛ لأن الهداية التي نفى الله أن تكون إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم هي هداية التوفيق للخير والإيمان، وجعْل أحد من الناس مهتديًا بخلق ذلك في قلبه، بدليل أن الآية نزلت في شأن أبي طالب عم النبي صلّى الله عليه وسلّم[1].
قال ابن جرير في معنى الآية: «يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم: {إِنَّكَ} يا محمد {لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} هدايته {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أن يهديه من خلقه، بتوفيقه للإيمان به وبرسوله.
ولو قيل: معناه: إنك لا تهدي من أحببته لقرابته منك، ولكن الله يهدي من يشاء، كان مذهبًا. {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ *} يقول جل ثناؤه: والله أعلم من سبق له في علمه أنه يهتدي للرشاد، ذلك الذي يهديه الله فيسدده ويوفقه»[2].
وقال السعدي: «يخبر تعالى أنك يا محمد ـ وغيرك من باب أولى ـ لا تقدر على هداية أحد، ولو كان من أحب الناس إليك، فإن هذا أمر غير مقدور للخلق هداية للتوفيق، وخلق الإيمان في القلب، وإنما ذلك بيد الله سبحانه وتعالى، يهدي من يشاء، وهو أعلم بمن يصلح للهداية فيهديه، ممن لا يصلح لها فيبقيه على ضلاله»[3].
أما الآية الثانية: فإنها أثبتت للنبي صلّى الله عليه وسلّم الهداية التي هي بمعنى الدلالة والإرشاد، قال ابن جرير في الآية: «يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم: وإنك يا محمد لتهدي إلى صراط مستقيم عبادنا، بالدعاء إلى الله، والبيان لهم»[4].
وقال السعدي: «وأما إثبات الهداية للرسول في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقَيمٍ *} فتلك هداية البيان والإرشاد، فالرسول يبيِّن الصراط المستقيم، ويرغِّب فيه، ويبذل جهده في سلوك الخلق له، وأما كونه يخلق في قلوبهم الإيمان، ويوفقهم بالفعل، فحاشا وكلا. ولهذا، لو كان قادرًا عليها، لهدى من وصل إليه إحسانه، ونصره ومنعه من قومه، عمه أبا طالب...ولكن الهداية بيد الله تعالى»[5].


[1] أخرجه البخاري (كتاب التفسير، رقم 4772)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 24).
[2] تفسير الطبري (19/598).
[3] تفسير السعدي (625) [مؤسسة الرسالة ط1].
[4] تفسير الطبري (21/561).
[5] تفسير السعدي (625).


خالف السلف والمسلمين عمومًا المعتزلة ومن أخذ بقولهم في هذا الباب، فقد أنكروا أن يكون الله عزّ وجل يهدي أحدًا أو يضل أحدًا. قال الأشعري عن مذهب المعتزلة في الهدى: «قال أكثر المعتزلة: إن الله هدى الكافرين فلم يهتدوا، ونفعهم بأن قواهم على الطاعة فلم ينتفعوا، وأصلحهم فلم يصلحوا»[1]. ومعنى قول المعتزلة هذا أن الله بيَّن للكافرين وأرشدهم كما فعل ذلك رسله عليهم السلام وأدته كتبه لهم فلم ينتفعوا بذلك، وهذا هو غاية ما عند الله من الهداية.
وقال البغدادي لما ذكر إجماع أهل السُّنَّة على أن الله يهدي من يشاء بفضله: «وهذا خلاف قول القدرية في دعواها أن الهداية من الله تعالى على معنى الإرشاد والدعاء إلى الحق، وليس إليه من هداية القلوب شيء»[2].
وهذا القول منهم إنكار للمقصود بالهداية التي هي بيد الله عزّ وجل وحده دون خلقه قاطبة، وهي التي جاءت في مثل قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ *} [القصص] ، وقد سبق بيان اختصاص ذلك بالله عزّ وجل، والمعتزلة إنما ضلوا في هذا الباب وغيره بسبب قياسهم الخالق على المخلوق، فزعموا أن ما يحسن من المخلوق يحسن من الله عزّ وجل وما يقبح من المخلوق يقبح من الخالق، فكانوا مشبهة الأفعال: يقول عبد الجبار المعتزلي: «ولا يجوز أن يكون الموجب لحسن أفعاله عزّ وجل أنه رب، مالك، ناه، آمر، ناصب للدليل، متفضل... ونحن نبيِّن أن ما أوجب قبح القبيح متى حصل يجب كونه قبيحًا، وكذلك ما أوجب حسن الحسن، ووجوب الوجوب... وهذه القضية لا تختلف باختلاف الفاعلين، وأن حكم أفعال القديم ـ يعني الله عزّ وجل ـ في ذلك حكم أفعالنا»[3].
فهذا الغلو في التشبيه جعلهم يقولون: إن الله عزّ وجل يجب عليه فعل الصلاح لعباده، وإن لم يفعل لم يكن مريدًا لمنفعتهم. فهذا القول منهم والقياس الفاسد جعلهم يظنون أن الله غير قادر على هداية الخلق، وأنه ـ سبحانه وتعالى عن قولهم ـ ليس بيده هداية أحد من الناس، وأن مثله في هذا مثل من أرشد تائهًا عن الطريق وبعد أن أرشده إلى الطريق تركه، فإن وصل إلى مراده وصل وإلا فإن الهادي قد أدى ما عليه.
وهذا مع وضوح بطلانه فإن فيه مخالفة صريحة للنصوص الشرعية؛ في أن من اهتدى فإن الله هو الذي هداه وأن لو شاء الله لهدى الناس جميعًا؛ وفيه أيضًا تعجيز للخالق تبارك وتعالى وأن قدرته في هذا مثل قدرة خلقه، وكفى بهذا ضلالاً وانحرافًا ومخالفة لصريح القرآن وما اتفق عليه المسلمون من أن قدرة الله لا يحدها شيء، قال : {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *} [المائدة] ، وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا *} [فاطر] .


[1] مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين لأبي الحسن الأشعري (1/207) [المكتبة العصرية، ط1، 1426هـ].
[2] الفرق بين الفرق للبغدادي (330) [دار الآفاق الجديدة، بيروت ط2، 1977].
[3] المغني في أبواب التوحيد والعدل للقاضي عبد الجبار (6/59، 60) نقلاً عن: القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسُّنَّة للمحمود (254) [دار مدار الوطن، ط2].


1 ـ «أقوم ما قيل في القضاء والقدر»، لابن تيمية.
2 ـ «الإبانة»، لابن بطة.
3 ـ «شفاء العليل»، لابن القيم.
4 ـ «القدر»، لعبد الله بن وهب.
5 ـ «القدر»، الفريابي.
6 ـ «القضاء والقدر»، للبيهقي.
7 ـ «القضاء والقدر»، لأبي الوفا درويش.
8 ـ «القضاء والقدر في الإسلام»، لفاروق أحمد الدسوقي.
9 ـ «القدر في ضوء الكتاب والسُّنَّة ومذاهب الناس فيه»، لعبد الرحمن بن صالح المحمود.
10 ـ «القضاء والقدر»، لعمر سليمان الأشقر.
11 ـ «القضاء والقدر»، لابن تيمية.