يجب الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى يضاعف ثواب العبد على عمله، وهذا لكمال فضل الله عزّ وجل وكرمه وسعة جوده[1].
[1] انظر: تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة (327) [المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1419هـ]، والأسماء والصفات للبيهقي (2/384، 385) [مكتبة السوادي، ط1، 1413هـ]، والنهاية في غريب الحديث (5/261) [المكتبة العلمية، بيروت]، وشرح صحيح مسلم للنووي (17/3، 4) [دار الفكر، ط3، 1398هـ]، وفتح الباري لابن حجر (3/3364) [بيت الأفكار الدولية]، ومنة المنعم في شرح صحيح مسلم (4/232) [دار السلام، الرياض، ط1، 1420هـ]، وأحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين (185، 186) [مكتبة دار المنهاج، الرياض، ط1، 1427هـ]، ومعجم ألفاظ العقيدة (449).
هي بمعنى سرعة قبول الله وإقباله على عبده المتقرب إليه، ومضاعفة مجازاته تعالى العبد على عمله أكمل من عمل العامل، وأنه سبحانه وتعالى يقبل توبتهم ويرفع مكانتهم، ولا يتأخر في الإحسان إليهم والإنعام عليهم، وهي كما يليق بجلال الله وعظمته تبارك وتعالى [1].
[1] انظر: مدارج السالكين (3/271، 272) [دار الكتاب العربي، بيروت، ط2، 1393هـ].
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله عزّ وجل: أنا عند ظن عبدي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن اقترب إليَّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن اقترب إلي ذراعًا اقتربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة»[1].
وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم يرويه عن ربه قال: «إذا تقرب العبد إليَّ شبرًا تقرَّبت إليه ذراعًا، وإذا تقرب مني ذراعًا تقرَّبت منه باعًا، وإذا أتاني مشيًا أتيته هرولة»[2].
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله عزّ وجل: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة مثلها أو أغفر، ومن تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئًا لقيته بمثلها مغفرة»[3].
[1] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7405)، ومسلم (كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، رقم 2675)، واللفظ له.
[2] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7536).
[3] أخرجه مسلم (كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، رقم 2687).
قال أبو عيسى الترمذي: «ويروى عن الأعمش في تفسير هذا الحديث: من تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا؛ يعني: بالمغفرة والرحمة، وهكذا فسر بعض أهل العلم هذا الحديث، قالوا: إنما معناه يقول: إذا تقرب إلي العبد بطاعتي وما أمرت، أُسرع إليه بمغفرتي ورحمتي»[1].
وقال إسحاق بن راهويه: «من تقرب إلى الله شبرًا بالعمل تقرب الله إليه بالثواب باعًا»[2].
وقال ابن تيمية: «لا يكون ظاهر الخطاب هو المعنى الممتنع، بل ظاهره هو المعنى الحق، ومن المعلوم أنه ليس ظاهر الخطاب أن العبد يتقرب إلى الله بحركة بدنه شبرًا وذراعًا ومشيًا وهرولة، لكن قد يقال: عدم ظهور هذا هو للقرينة الحسية العقلية، وهو أن العبد يعلم أن تقربه ليس على هذا الوجه، وذلك لا يمنع أن يكون ظاهر اللفظ متروكًا، يقال: هذه القرينة الحسية الظاهرة لكل أحد هي أبلغ من القرينة اللفظية»[3].
وقال ابن القيم: «فيجد هذا المحب في باطنه ذوق معنى هذا الحديث ذوقًا حقيقيًّا، فذكر من مراتب القرب ثلاثة، ونبَّه بها على ما دونها وما فوقها، فذكر تقرب العبد إليه بالشبر وتقربه سبحانه إلى العبد ذراعًا، فإذا ذاق العبد حقيقة هذا التقرب انتقل منه إلى تقرب الذراع، فيجد ذوق تقرب الرب إليه باعًا، فإذا ذاق حلاوة هذا القرب الثاني أسرع المشي حينئذ إلى ربه، فيذوق حلاوة إتيانه إليه هرولة، وههنا منتهى الحديث منبهًا على أنه إذا هرول عبده إليه كان قرب حبيبه منه فوق هرولة العبد إليه، فإما أن يكون قد أمسك عن ذلك لعظيم شاهد الجزاء، أو لأنه يدخل في الجزاء الذي لم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر، أو إحالة له على المراتب المتقدمة، فكأنه قيل له: وقس على هذا؛ فعلى قدر ما تبذل منك تقربًا إلى ربك يتقرب إليك بأكثر منه، وعلى هذا فلازم هذا التقرب المذكور في مراتبه؛ أي: من تقرب إلى حبيبه بروحه وجميع قواه وإرادته وأقواله وأعماله تقرب الرب منه سبحانه بنفسه في مقابلة تقرب عبده إليه، وليس القرب في هذه المراتب كلها قرب مسافة حسية، ولا مماسة، بل هو قرب حقيقي، والرب تعالى فوق سماواته على عرشه والعبد في الأرض، وهذا الموضع هو سر السلوك وحقيقة العبودية»[4].
[1] جامع الترمذي (4/581).
[2] مسائل الإمام أحمد وإسحاق لحرب بن إسماعيل (345).
[3] بيان تلبيس الجهمية (6/103) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط1، 1426هـ].
[4] مدارج السالكين (3/271، 272).
المسألة الأولى: ذكر المسافة بالشبر والذراع والباع في الحديث المذكور إنما جاء من باب ضرب المثال، والمسافة الحسية المذكورة في الحديث غير مرادة بالضبط والتعيين والتحديد:
وإلى هذا يشير كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، إذ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «لا يكون ظاهر الخطاب هو المعنى الممتنع، بل ظاهره هو المعنى الحق، ومن المعلوم أنه ليس ظاهر الخطاب أن العبد يتقرب إلى الله بحركة بدنه شبرًا وذراعًا ومشيًا وهرولة، لكن قد يقال: عدم ظهور هذا هو للقرينة الحسية العقلية، وهو أن العبد يعلم أن تقربه ليس على هذا الوجه، وذلك لا يمنع أن يكون ظاهر اللفظ متروكًا، يقال: هذه القرينة الحسية الظاهرة لكل أحد هي أبلغ من القرينة اللفظية»[1].
وقال ابن القيم: «فيجد هذا المحب في باطنه ذوق معنى هذا الحديث ذوقًا حقيقيًّا، فذكر من مراتب القرب ثلاثة، ونبَّه بها على ما دونها وما فوقها، فذكر تقرب العبد إليه بالشبر وتقربه سبحانه إلى العبد ذراعًا، فإذا ذاق العبد حقيقة هذا التقرب انتقل منه إلى تقرب الذراع، فيجد ذوق تقرب الرب إليه باعًا، فإذا ذاق حلاوة هذا القرب الثاني أسرع المشي حينئذ إلى ربه، فيذوق حلاوة إتيانه إليه هرولة، وههنا منتهى الحديث منبهًا على أنه إذا هرول عبده إليه كان قرب حبيبه منه فوق هرولة العبد إليه، فإما أن يكون قد أمسك عن ذلك لعظيم شاهد الجزاء، أو لأنه يدخل في الجزاء الذي لم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر، أو إحالة له على المراتب المتقدمة، فكأنه قيل له: وقس على هذا؛ فعلى قدر ما تبذل منك تقربًا إلى ربك يتقرب إليك بأكثر منه، وعلى هذا فلازم هذا التقرب المذكور في مراتبه؛ أي: من تقرب إلى حبيبه بروحه وجميع قواه وإرادته وأقواله وأعماله تقرب الرب منه سبحانه بنفسه في مقابلة تقرب عبده إليه، وليس القرب في هذه المراتب كلها قرب مسافة حسية، ولا مماسة، بل هو قرب حقيقي، والرب تعالى فوق سماواته على عرشه والعبد في الأرض، وهذا الموضع هو سر السلوك وحقيقة العبودية»[2].
فالعبد يمكن له أن يتقرب إلى الله عزّ وجل بقلبه وروحه دون أن يضطر إلى قطع مسافة، وهذا أمر مشاهد ومحسوس، والله عزّ وجل في تقربه إلى العبد لا يحتاج إلى ذلك من باب أولى، والمقصود من ذكرها بيان وتقرير أن الله تعالى يعطي عباده أكثر من أعمالهم، وأنه سبحانه يتقرب إليهم أكثر من تقربهم إليه، وأن العبد إن تقرب إلى ربه مشيًا تقرب الله عزّ وجل إليه هرولة، ولكن دون الحاجة إلى قطع مسافة حسية بل كما يليق بجلاله وعظمته سبحانه وتعالى.
المسألة الثانية: هل الهرولة من صفات الله عزّ وجل؟
من أهل العلم من يقول: الهرولة صفة فعلية خبرية اختيارية لله تبارك وتعالى ، وعلى هذا فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية[3].
وتفسير الهرولة المضافة إلى الله عزّ وجل بمضاعفة الثواب وسعة جود الله سبحانه وكرمه ليست من باب التأويل، ولا عدولاً عن ظاهر النص، فالهرولة تستعمل في الأمر الحسي والمعنوي نظير المشي والقيام والقعود، كما في حديث: «ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، ومن وجد فيها ملجأ فليعذ به» [4]، فالقيام والقعود والمشي هنا مراد به الأمر المعنوي، كذلك الهرولة.
وحملها على معنى مضاعفة الثواب يدل عليه السياق، وهو المعنى المراد ليس من باب التأويل، إذ التأويل: صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى مخالف للظاهر، ومن القواعد المقررة في هذا الشأن ما ذكره ابن تيمية رحمه الله بقوله: «كثيرًا ما يغلط الناس في هذا الموضع إذا تنازع النفاة والمثبتة في صفة ودلالة نص عليها، يريد المريد أن يجعل ذلك اللفظ ـ حيث ورد ـ دالًّا على الصفة وظاهرًا فيها. ثم يقول النافي: وهناك لم تدل على الصفة فلا تدل هنا. وقد يقول بعض المثبتة: دلت هنا على الصفة فتكون دالة هناك؛ بل لما رأوا بعض النصوص تدل على الصفة جعلوا كل آية فيها ما يتوهمون أنه يضاف إلى الله تعالى ـ إضافة صفة ـ من آيات الصفات، كقوله تعالى: {فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] .
وهذا يقع فيه طوائف من المثبتة والنفاة، وهذا من أكبر الغلط، فإن الدلالة في كل موضع بحسب سياقه. وما يحف به من القرائن اللفظية والحالية... فمن تدبر ما ورد في باب أسماء الله تعالى وصفاته، وإن دلالة ذلك في بعض المواضع على ذات الله، أو بعض صفات ذاته لا يوجب أن يكون ذلك هو مدلول اللفظ حيث ورد حتى يكون ذلك طردًا للمثبت ونقضًا للنافي؛ بل ينظر في كل آية وحديث بخصوصه وسياقه وما يبين معناه من القرآن والدلالات، فهذا أصل عظيم مهم نافع في باب فهم الكتاب والسُّنَّة والاستدلال بهما مطلقًا»[5].
ومن يقول بأن الهرولة صفة لله تعالى، يتعين عليه الالتزام بالنص، فإن الهرولة المضافة إلى الله ليست مطلقة، وإنما هي في مقابل ما يفعله العبد، فالواجب أن يقال: من أتى إلى الله يمشي أتاه هرولة، كما جاء في الحديث، ولا يجعلها عامة مطلقة[6].
[1] بيان تلبيس الجهمية (6/103).
[2] مدارج السالكين (3/271، 272).
[3] فتاوى اللجنة (3/196)، وفتاوى نور على الدرب (1/70) [إدارة البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، ط2، 1422هـ].
[4] أخرجه البخاري (كتاب المناقب، رقم 3601)، ومسلم (كتاب الفتن وأشراط الساعة، رقم 2886).
[5] مجموع الفتاوى (6/15 ـ 18).
[6] انظر: أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين لسليمان بن محمد الدبيخي (178 ـ 188).
1 ـ «أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين»، لسليمان بن محمد الدبيخي.
2 ـ «إزالة الستار عن الجواب المختار لهداية المحتار»، لابن عثيمين.
3 ـ «الأسماء والصفات» (ج2)، للبيهقي.
4 ـ «بيان تلبيس الجهمية» (ج6)، لابن تيمية.
5 ـ «تأويل مختلف الحديث»، لابن قتيبة.
6 ـ «صفات الله عزّ وجل الواردة في الكتاب والسُّنَّة»، لعلوي بن عبد القادر السقاف.
7 ـ «فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء» (ج3).
8 ـ «فتاوى نور على الدرب»، لابن باز.
9 ـ «فتح الباري» (ج3)، لابن حجر العسقلاني.
10 ـ «القواعد المثلى»، لابن عثيمين.
11 ـ «مدارج السالكين» (ج3)، لابن القيم.