اختلف في اسمه واسم أبيه على عدة أقوال، حتى أوصلها بعضهم إلى أربعة وأربعين قولاً[1].
وقال الحافظ ابن حجر بعد مناقشته الأقوال المذكورة في اسم أبي هريرة رضي الله عنه واسم أبيه: «فعند التأمل لا تبلغ الأقوال عشرة خالصة، ومرجعها من جهة صحة النقل إلى ثلاثة: عمير وعبد الله وعبد الرحمن، الأولان محتملان في الجاهلية والإسلام، وعبد الرحمن في الإسلام خاصة»[2]. وقد ذهب كثير من الأئمة إلى أن الأصح والأشهر في اسمه واسم أبيه هو: عبد الرحمن بن صخر[3]. قال الإمام الذهبي: «اختلف في اسمه على أقوال جمة، أرجحها: عبد الرحمن بن صخر»[4].
[1] انظر: الاستيعاب لابن عبد البر (4/1768) [دار الجيل، ط1]، وتاريخ دمشق لابن عساكر (67/302) [دار الفكر]، والإصابة في تمييز الصحابة (7/425 ـ 431) [دار الجيل، ط1].
[2] الإصابة في تمييز الصحابة (7/431).
[3] انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب (4/1770)، وسير أعلام النبلاء للذهبي (2/578) [مؤسسة الرسالة، ط3]، والبداية والنهاية لابن كثير (11/362) [دار هجر للطباعة، ط1]، وتقريب التهذيب لابن حجر (680) رقم (8426) [دار الرشيد، 1406هـ].
[4] سير أعلام النبلاء (2/578).
أ ـ أبو هريرة، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: ادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللَّهُمَّ اهدِ أمَّ أبي هريرة»[1].
ولما رواه الترمذي بإسناده عن عبد الله بن رافع قال: «قلت لأبي هريرة: لم كُنيت أبا هريرة؟ قال: أما تفرق مني؟ قلت: بلى والله إني لأهابك، قال: كنت أرعى غنم أهلي، فكانت لي هريرة صغيرة، فكنت أضعها بالليل في شجرة، فإذا كان النهار ذهبت بها معي، فلعبت بها، فكنوني أبا هريرة»[2].
ب ـ أبو هِرّ، لما ثبت في الصحيح من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كناه: (أبا هر)، فقد روى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «لقيني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا جُنُب فأخذ بيدي فمشيت معه حتى قعد، فانسللت فأتيت الرحل فاغتسلت، ثم جئت وهو قاعد، فقال: أين كنت يا أبا هر؟ فقلت له، فقال: سبحان الله يا أبا هر! إن المؤمن لا ينجس»[3].
[1] أخرجه مسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2491).
[2] أخرجه الترمذي (أبواب المناقب، رقم 3840) وحسَّنه، وقال الألباني: «حسن الإسناد». صحيح سنن الترمذي (3/560).
[3] أخرجه البخاري (كتاب الغسل، رقم 285).
ولد قبل البعثة بثماني سنوات، ومات بالمدينة سنة سبع وخمسين من الهجرة، عن ثمانٍ وسبعين سنة[1]. وقيل: إنه مات سنة ثمانٍ وخمسين، وقيل: سنة تسع وخمسين للهجرة[2].
[1] انظر: الطبقات لخليفة بن خياط (114)، والاستيعاب في معرفة الأصحاب (4/1771)، وتقريب التهذيب (680).
[2] انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب (4/1772)، وتقريب التهذيب (680).
أسلم أبو هريرة رضي الله عنه في أول سنة سبع، عام خيبر، وحسن إسلامه، ولازم النبي صلّى الله عليه وسلّم، وواظب على الجلوس إليه؛ رغبة في العلم، قانعًا بشبع بطنه، وكان يدور مع النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث دار، ولذا كان يحضر ما لا يحضر المهاجرون والأنصار؛ لانشغال المهاجرين بالتجارة والأنصار بحوائجهم[1].
[1] انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب (4/1771)، وسير أعلام النبلاء (2/586).
ـ تحقق دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم له ولأمه رضي الله عنهما:
فقد ثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يومًا فأسمعتني في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما أكره، فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللَّهُمَّ اهد أم أبي هريرة» ، فخرجت مستبشرًا بدعوة نبي الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما جئت فصرت إلى الباب، فإذا هو مجاف، فسمعت أمي خشف قدمي، فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعت خضخضة الماء، قال: فاغتسلَت ولبسَت درعها وعجلت عن خمارها، ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، قال: فرجعت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتيته وأنا أبكي من الفرح، قال: قلت: يا رسول الله أبشر؛ قد استجاب الله دعوتك، وهدى أم أبي هريرة، فحمد الله وأثنى عليه وقال خيرًا، قال: قلت: يا رسول الله، ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين ويحببهم إلينا، قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللَّهُمَّ حبب عُبَيدك هذ ا ـ يعني: أبا هريرة ـ وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهم المؤمنين» ، فما خلق مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبني»[1].
ـ تحقق موعود النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه في الحفظ وعدم النسيان:
فقد صح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «قلت: يا رسول الله، إني أسمع منك حديثًا كثيرًا أنساه، قال: ابسط رداءك ، فبسطته، قال: فغرف بيديه، ثم قال: ضمّه ، فضممته، فما نسيت شيئًا بعده»[2].
وروى الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والله الموعد، كنت رجلاً مسكينًا أخدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من يبسط ثوبه فلن ينسى شيئًا سمعه مني» ، فبسطت ثوبي، حتى قضى حديثه ثم ضممته إلي، فما نسيت شيئًا سمعته منه»[3].
ـ دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم له بالبركة على تمراته فتكاثرت:
فقد روى الإمام الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم بتمرات فقلت: يا رسول الله ادع الله فيهن بالبركة، فضمهن ثم دعا لي فيهن بالبركة، فقال: «خذهن واجعلهن في مزودك هذا أو في هذا المزود، كلما أردت أن تأخذ منها شيئًا، فأدخل فيه يدك فخذه ولا تنثره نثرًا» ، فقد حملت من ذلك التمر كذا وكذا من وسق في سبيل الله، فكنا نأكل منه ونطعم، وكان لا يفارق حقوي حتى كان يوم قتل عثمان فإنه انقطع»[4].
[1] أخرجه مسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2491).
[2] أخرجه البخاري (كتاب العلم، رقم 119).
[3] أخرجه مسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2492).
[4] أخرجه الترمذي (أبواب المناقب، رقم 3839) وحسَّنه، وأحمد (14/51) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وابن حبان (كتاب التاريخ، رقم 6532)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 2936).
مكانة أبي هريرة رضي الله عنه كبيرة، ومنزلته رفيعة، فقد كان أحفظ الصحابة رضي الله عنهم، وأكثرهم حديثًا، فقد روى الإمام الترمذي بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال لأبي هريرة: «يا أبا هريرة، أنت كنت ألزمنا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأحفظنا لحديثه»[1].
وكان متصديًا في المدينة للفتوى والتحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إلى أن مات فيها، ولذا حمل عنه العلم جمٌّ غفير من التابعين، وقد ذكر الإمام البخاري أنه حمل عنه العلم ثمان مئة نفس من التابعين[2].
وولاه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه على البحرين ثم عزله، ثم أراده على العمل فأبى عليه[3].
[1] أخرجه الترمذي (أبواب المناقب، رقم 3836) وحسنه، وأحمد (8/20) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وقال الألباني: «صحيح الإسناد». صحيح سنن الترمذي (3/559).
[2] انظر: فتح الباري لابن حجر (1/207) [دار المعرفة، بيروت، 1379هـ].
[3] انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب (4/1771).
المسألة الأولى: ما جاء من أن عبد الله بن عمرو أكثر حديثًا من أبي هريرة رضي الله عنهم.
فقد روى البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «ما من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم أحد أكثر حديثًا عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو؛ فإنه كان يكتب ولا أكتب»[1]. فهذا وإن كان في الظاهر يدل على أن ابن عمرو كان أكثر حديثًا من أبي هريرة رضي الله عنهما، إلا أن الواقع يدل على عكسه؛ لأن المروي عن أبي هريرة هو أضعاف مضاعفة عما رواه ابن عمرو، وقد بيّن الحافظ ابن حجر هذا الأمر فقال: «هذا استدلال من أبي هريرة على ما ذكره من أكثرية ما عند عبد الله بن عمرو ـ أي: ابن العاص ـ على ما عنده، ويستفاد من ذلك أن أبا هريرة كان جازمًا بأنه ليس في الصحابة أكثر حديثًا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم منه إلا عبد الله، مع أن الموجود المروي عن عبد الله بن عمرو أقل من الموجود المروي عن أبي هريرة بأضعاف مضاعفة»[2].
وهذا الإشكال غير وارد إذا اعتبر الاستثناء في قوله: «إلا ما كان من عبد الله بن عمرو؛ كان يكتب...» استثناء منقطعًا؛ «إذ التقدير: لكن الذي كان من عبد الله ـ وهو الكتابة ـ لم يكن مني، سواء لزم منه كونه أكثر حديثًا لما تقتضيه العادة أم لا»[3].
وأما إذا قيل: إن الاستثناء متصل فهنا يرد الإشكال، وللعلماء أجوبة عنه. قال الحافظ ابن حجر: «وإن قلنا: الاستثناء متصل فالسبب فيه من جهات:
أحدها: أن عبد الله كان مشتغلاً بالعبادة أكثر من اشتغاله بالتعليم، فقلَّت الرواية عنه.
ثانيها: أنه كان أكثر مقامه بعد فتوح الأمصار بمصر أو بالطائف، ولم تكن الرحلة إليهما ممن يطلب العلم كالرحلة إلى المدينة، وكان أبو هريرة متصدّيًا فيها للفتوى والتحديث إلى أن مات، ويظهر هذا من كثرة من حمل عن أبي هريرة، فقد ذكر البخاري أنه روى عنه ثمان مئة نفس من التابعين، ولم يقع هذا لغيره.
ثالثها: ما اختص به أبو هريرة، من دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم له بأن لا ينسى ما يحدثه به.
رابعها: أن عبد الله كان قد ظفر في الشام بحمل جمل من كتب أهل الكتاب، فكان ينظر فيها ويحدث منها، فتجنب الأخذ عنه لذلك كثير من أئمة التابعين»[4].
المسألة الثانية: ما قيل في كتابة أبي هريرة للحديث:
لم يكن أبو هريرة يكتب كما تقدم نقله عن الصحيح، ولكن جاءت رواية أشار إليها الحافظ في الفتح بقوله: «قوله: (ولا أكتب) قد يعارضه ما أخرجه ابن وهب من طريق الحسن بن عمرو بن أمية قال: تُحُدِّث عند أبي هريرة بحديث، فأخذ بيدي إلى بيته، فأرانا كتبًا من حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: هذا هو مكتوب عندي»[5]، وجمع بينها وبين رواية الصحيح الحافظ ابن عبد البر، فحمل رواية الصحيح على أنه لم يكن يكتب في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم كتب بعد ذلك، وتعقبه الحافظ ابن حجر فذكر أنه لا يلزم من وجود الحديث عنده مكتوبًا أن يكون هو كاتبه، فقال: «وأقوى من ذلك أنه لا يلزم من وجود الحديث مكتوبًا عنده أن يكون بخطه، وقد ثبت أنه لم يكن يكتب، فتعيَّن أن المكتوب عنده بغير خطه»[6].
المسألة الثالثة: كونه من أهل الصُّفّة[7]:
كان أبو هريرة رضي الله عنه من أهل الصفة، وهم: «أضياف الإسلام، لا يأوون إلى أهل ولا مال، إذا أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صدقة، أرسل بها إليهم، ولم يصب منها شيئًا، وإذا جاءته هدية أصاب منها، وأشركهم فيها»[8].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كنت في الصفة، فبعث النبي رضي الله عنه إلينا بتمر عجوة، فسكب إلينا، فكنا نقرن الاثنتين من الجوع، فكنا إذ قرن أحدنا قال لأصحابه: إني قد قرنت فاقرنوا»[9].
وهذا في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأما بعد ذلك فقد تحسنت حاله، ويدل على ذلك ما رواه البخاري بسنده عن محمد بن سيرين قال: «كنا عند أبي هريرة وعليه ثوبان ممشقان من كتان، فتمخط، فقال: بخ بخ؛ أبو هريرة يتمخط في الكتان، لقد رأيتني وإني لأخر فيما بين منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى حجرة عائشة مغشيًّا علي، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أني مجنون، وما بي من جنون، ما بي إلا الجوع»[10]. قال الحافظ ابن حجر في هذا الحديث: «وقال ابن بطال عن المهلب: وجه دخوله في الترجمة الإشارة إلى أنه لما صبر على الشدة التي أشار إليها من أجل ملازمة النبي صلّى الله عليه وسلّم في طلب العلم، جوزي بما انفرد به من كثرة محفوظه ومنقوله من الأحكام وغيرها، وذلك ببركة صبره على المدينة»[11].
وللشيخ عبد الكريم الخضير تعليق نفيس في تمخط أبي هريرة في أحد الثوبين، ينص فيه على أن حصوله على الثوبين كان بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فيقول: «وتمخطه إما لحاجته إلى ذلك، أو إزدراء بهذين الثوبين اللذين حصل عليهما بعد مفارقة الحبيب صلّى الله عليه وسلّم، فلو كان حصولهما خيرًا لوجدا في عهده صلّى الله عليه وسلّم»[12].
المسألة الرابعة: المراد بالوعاء الذي لم يبثه أبو هريرة خوفًا من القتل، وما يتعلق به من مسائل:
ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «حفظت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعاءين: فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر: فلو بثثته قطع هذا البلعوم»[13].
وقد بيَّن العلماء المراد بهذا الوعاء الذي كتمه أبو هريرة خوفًا من القتل، وردّوا على من زعم أنه علم الباطن. ويمكن بيان هذا على النحو التالي:
أولاً: ما يتعلق بحقيقة الوعاء الذي لم يبثه أبو هريرة.
هذا الوعاء الذي لم يبلّغه أبو هريرة ليس «فيه من حقائق الدين، وإنما كان في ذلك الجراب الخبر عما سيكون من الملاحم والفتن، فالملاحم والحروب التي بين المسلمين والكفار، والفتن ما يكون بين المسلمين، ولهذا قال عبد الله بن عمر: لو أخبركم أبو هريرة أنكم تقتلون خليفتكم، وتفعلون كذا وكذا، لقلتم: كذب أبو هريرة. وإظهار مثل هذا مما تكرهه الملوك وأعوانهم؛ لما فيه من الإخبار بتغير دولهم. ومما يبيِّن هذا أن أبا هريرة إنما أسلم عام خيبر، فليس هو من السابقين الأولين، ولا من أهل بيعة الرضوان، وغيرُه من الصحابة أعلم بحقائق الدين منه، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يحدثه وغيره بالحديث فيسمعونه كلهم، ولكن كان أبو هريرة أحفظهم للحديث ببركة حصلت له من جهة النبي صلّى الله عليه وسلّم»[14].
قال الحافظ ابن حجر: «وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم، وقد كان أبو هريرة رضي الله عنه يكني عن بعضه ولا يصرح به؛ خوفًا على نفسه منهم، كقوله: أعوذ بالله من رأس الستين، وإمارة الصبيان، يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية؛ لأنها كانت سنة ستين من الهجرة، واستجاب الله دعاء أبي هريرة فمات قبلها بسنة...وإنما أراد أبو هريرة بقوله: «قطع»؛ أي: قطع أهل الجور رأسه إذا سمعوا عيبه لفعلهم وتضليله لسعيهم... وقال غيره: يحتمل أن يكون أراد مع الصنف المذكور ما يتعلق بأشراط الساعة وتغير الأحوال والملاحم في آخر الزمان فينكر ذلك من لم يألفه، ويعترض عليه من لا شعور له به»[15]. وكتمان هذا النوع من العلوم ليس من كتمان العلم في شيء، قال الإمام الذهبي: «وقد صح أن أبا هريرة كتم حديثًا كثيرًا مما لا يحتاجه المسلم في دينه، وكان يقول: «لو بثثته فيكم، لقطع هذا البلعوم». وليس هذا من باب كتمان العلم في شيء، فإن العلم الواجب يجب بثه ونشره، ويجب على الأمة حفظه، والعلم الذي في فضائل الأعمال مما يصح إسناده يتعين نقله ويتأكد نشره، وينبغي للأمة نقله، والعلم المباح لا يجب بثه، ولا ينبغي أن يدخل فيه إلا خواص العلماء»[16].
بل كان أبو هريرة ـ كغيره من الصحابة ـ من أبعد الناس عن كتمان العلم؛ ولذا كان يقول: «والله لولا آيتان في كتاب الله ما حدثتكم شيئًا أبدًا: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} ـ إلى ـ {الرَّحِيمُ *} [البقرة] »[17]. قال الحافظ ابن حجر معلقًا على هذا الحديث والآية: «إن الأحاديث المكتومة لو كانت من الأحكام الشرعية ما وسعه كتمانها؛ لما ذكره في الحديث الأول من الآية الدالة على ذم من كتم العلم»[18].
وبهذا يعرف بطلان الادعاء بأن الوعاء الذي لم يبثه أبو هريرة رضي الله عنه هو علم الباطن كما يقوله بعض الصوفية وغيرهم من الباطنية.
قال ابن تيمية: «ولم ينقل أحد قط عن أبي هريرة حديثًا يوافق الباطنية، ولا حديثًا يخالف الظاهر المعلوم من الدين. ومن المعلوم أنه لو كان عنده شيء من هذا، لم يكن بدٌّ أن ينقل عنه أحد شيئًا منه، بل النقول المتواترة عنه كلها تصدق ما ظهر من الدين، وقد روى من أحاديث صفات الله وصفات اليوم الآخر وتحقيق العبادات ما يوافق أصول أهل الإيمان، ويخالف قول أهل البهتان»[19].
وقال ابن كثير: «وهذا الوعاء الذي كان لا يتظاهر به هو الفتن والملاحم، وما وقع بين الناس من الحروب والقتال وما سيقع، التي لو أخبر بها قبل كونها لبادر كثير من الناس إلى تكذيبه، وردوا ما أخبر به من الحق، كما قال: «لو أخبرتكم أنكم تقتلون إمامكم وتقتتلون فيما بينكم بالسيوف لما صدقتموني». وقد يتمسك بهذا الحديث طوائف من أهل الأهواء والبدع الباطلة، والأعمال الفاسدة، ويسندون ذلك إلى هذا الجراب الذي لم يقله أبو هريرة، ويعتقدون أن ما هم عليه كان في هذا الجراب الذي لم يخبر به أبو هريرة، وما من مبطل ـ مع تضاد أقوالهم وأعمالهم ـ إلا ويدعي شيئًا من هذا، وكلهم يكذبون، فإذا لم يكن أبو هريرة قد أخبر به فمن علمه من بعده!؟ وإنما كان الذي فيه شيء من الفتن والملاحم قد أخبر بها هو وغيره من الصحابة»[20].
المسألة الخامسة: قصة أبي هريرة مع الشيطان وأن ذلك لا يتنافى مع ما في القرآن:
فقد ثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «وكلني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه فأصبحت، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنه سيعود، فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال لا أعود، فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك؟ قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم لا تعود ثم تعود، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] حتى تختم الآية؛ فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: ما هي؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] ، وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح ـ وكانوا أحرص شيء على الخير ـ، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ قال: لا، قال: ذاك شيطان»[21].
ورؤية أبي هريرة للشيطان وحواره معه لا يتنافى مع قوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27] ؛ لأن المقصود بنفي رؤية الشيطان هو رؤيته على صورته التي خُلِق عليها. قال ابن حجر في حديث أبي هريرة هذا: «إن الشيطان من شأنه أن يكذب، وقد يتصور ببعض الصور فتمكن رؤيته، وأن قوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} مخصوص بما إذا كان على صورته التي خلق عليها»[22].
[1] أخرجه البخاري (كتاب العلم، رقم 113).
[2] فتح الباري لابن حجر (1/207).
[3] المصدر نفسه (1/207).
[4] المصدر نفسه (1/207).
[5] المصدر نفسه (1/207).
[6] المصدر نفسه (1/207).
[7] الصُّفّة: موضع مظلل في المسجد النبوي كانت تأوي إليه المساكين. انظر: فتح الباري لابن حجر (1/145).
[8] دلائل النبوة لأبي نعيم (1/422) [دار النفائس، بيروت، ط2] وسير أعلام النبلاء (2/591).
[9] أخرجه ابن حبان (كتاب الأطعمة، رقم 5233)، والحاكم (كتاب الأطعمة، رقم 7132) وصححه، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (رقم 4880).
[10] أخرجه البخاري (كتاب الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة، رقم 7324).
[11] فتح الباري لابن حجر (13/307).
[12] انظر الموقع الرسمي للشيخ عبد الكريم الخضير الدرس: الشمائل النبوية (13) تاريخ النشر: 23 محرم 1436هـ.
[13] أخرجه البخاري (كتاب العلم، رقم 120).
[14] مجموع الفتاوى لابن تيمية (13/255، 256).
[15] فتح الباري لابن حجر (1/216، 217).
[16] سير أعلام النبلاء (10/603، 604).
[17] أخرجه البخاري (كتاب العلم، رقم 118).
[18] فتح الباري لابن حجر (1/217).
[19] مجموع الفتاوى (13/256).
[20] البداية والنهاية لابن كثير (11/369).
[21] أخرجه البخاري (كتاب الوكالة، رقم 2311).
[22] فتح الباري لابن حجر (4/489).
نال من أبي هريرة كثيرٌ من أهل الأهواء والبدع، وقد ذكر الإمام أبو بكر بن خزيمة أن الطاعن في أبي هريرة رضي الله عنه إما معطل جهمي، وإما خارجي، أو قدري، أو جاهل، رأى كل واحد منهم فيما رواه أبو هريرة ما يبطل مذهبه ويفند بدعته[1].
ومنهم أيضًا الروافض وبعض أذناب المستشرقين ممن يدعي الانتماء إلى أهل السُّنَّة والجماعة، وبيان هذا على النحو التالي:
أ ـ الروافض:
اتهم الروافض الصحابيّ الجليل أبا هريرة رضي الله عنه بالكذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبغض آل البيت، ووضع الأحاديث في ذمهم وتنقصهم؛ تحقيقًا لرغبة معاوية كما يدعون، وأنه كان من الموالين لبني أمية العدوِّ الأكبر لآل البيت على حسب زعمهم[2].
ب ـ بعض أذناب المستشرقين:
طعن بعض أذناب المستشرقين ـ منهم محمود أبو ريّة ـ في صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبي هريرة رضي الله عنه في عدالته، وسلك مسلك الروافض في اتهام هذا الصحابي الجليل راوية الإسلام، تارةً برواية الإسرائيليات ونسبها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتارة أخرى برميه بالكذب والافتراء على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ووضع الأحاديث في ذم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، واتهمه بالخيانة وسرقة أموال الدولة[3]، فقد عقد ترجمة فقال: «وضعه أحاديث على علي»، ثم أورد ما نقله ابن أبي الحديد عن أبي جعفر الإسكافي: «إن معاوية حمل قومًا من الصحابة، وقومًا من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي رضي الله عنه تقتضي الطعن فيه والبراءة منه، وجعل لهم على ذلك جعلاً يرغب في مثله، فاختلقوا له ما أرضاه، منهم أبو هريرة»[4].
بل وصل الأمر بالرجل ـ في سبيل تكذيب أبي هريرة رضي الله عنه ـ إلى ادعاء أنه لم يصاحب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا عامًا واحدًا وتسعة أشهر[5].
[1] انظر: المستدرك للحاكم مع التلخيص للذهبي (3/513) [دار المعرفة، بيروت].
[2] إحقاق الحق لنور الله التستري (195)، والصراط المستقيم لعلي البياضي (3/250، 251) [المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية].
[3] انظر: أضواء على السُّنَّة المحمدية لمحمود أبي رية (180، و191) [دار المعارف، القاهرة، ط6]، والأنوار الكاشفة لما في كتاب (أضواء على السُّنَّة) من الزلل والتضليل والمجازفة، لعبد الرحمن المعلمي (163، و180) [عالم الكتب، بيروت، 1406هـ].
[4] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (1/358). وانظر: أبو هريرة لشرف الدين (42) [مؤسسة أنصاريان، قُم].
[5] أضواء على السُّنَّة المحمدية (173)، وشيخ المضيرة أبو هريرة لأبي رية (124) [منشورات الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ط3].
أما طعن الخارجي والجهمي والقدري والجاهل في أبي هريرة، فقد بيَّن الإمام ابن خزيمة بطلانه بقوله: «وإنما يتكلم في أبي هريرة رضي الله عنه ـ لدفع أخباره من قد أعمى الله قلوبهم فلا يفهمون معاني الأخبار ـ إما معطل جهمي يسمع أخباره التي يرونها خلاف مذهبهم الذي هو كفر، فيشتمون أبا هريرة رضي الله عنه، ويرمونه بما الله تعالى قد نزّهه عنه؛ تمويهًا على الرعاء والسفل، أن أخباره لا تثبت بها الحجة.
وإما خارجي يرى السيف على أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، ولا يرى طاعة خليفة ولا إمام، إذا سمع أخبار أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم خلاف مذهبهم الذي هو ضلال، لم يجد حيلة في دفع أخباره بحجة وبرهان، كان مفزعُهُ الوقيعةَ في أبي هريرة رضي الله عنه.
أو قدري اعتزل الإسلام وأهله، وكفَّر أهل الإسلام، الذين يتبعون الأقدار الماضية التي قدرها الله تعالى، وقضاها قبل كسب العباد لها، إذا نظر إلى أخبار أبي هريرة رضي الله عنه التي قد رواها عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في إثبات القدر، لم يجد بحجة يريد صحة مقالته التي هي كفر وشرك، كانت حجته عند نفسه أن أخبار أبي هريرة رضي الله عنه لا يجوز الاحتجاج بها.
أو جاهل: يتعاطى الفقه ويطلبه من غير مظانه، إذا سمع أخبار أبي هريرة رضي الله عنه فيما يخالف مذهب من قد اجتبى مذهبه وأخباره؛ تقليدًا بلا حجة ولا برهان تكلم في أبي هريرة رضي الله عنه، ودفع أخباره التي تخالف مذهبه، ويحتج بأخباره على مخالفته إذا كانت أخباره موافقة لمذهبه»[1].
وأما اتهام الروافض للصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه بشتى أنواع التهم، كالكذب على الرسول صلّى الله عليه وسلّم من أجل المال، وبغض علي وآله، فهو اتهام باطل ظالم، دافعهم إليه حقد دفين وغل شديد، فيه بوجه خاص، وفي الصحابة رضي الله عنهم بوجه عام، وهم متبوع محمود أبي رية، فما هو إلا بوق من أبواقهم، يجترّ مروياتهم المكذوبة، وينادي بأفكارهم المأفونة[2]. ومن الأدلة على ذلك ما تقدم في فضائل أبي هريرة رضي الله عنه، وبيان ما كان عليه من الحرص على العلم، ودعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم له بالحفظ وعدم النسيان، وشهادة الصحابة له بالصدق والحفظ، كما تقدم في بيان منزلته. ومع هذا كله لم يثبت قط عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه روى رواية إسرائيلية وجعلها من أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكيف يمكن ذلك وهو ممن روى حديث تحريم الكذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقد روى الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار»[3] . وبهذا يظهر أيضًا بطلان دعوى رواية أبي هريرة الإسرائيليات، ونسبه إياها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم.
[1] المستدرك للحاكم مع التلخيص للذهبي (3/513).
[2] يراجع في نقض مفترياتهم وأباطيلهم كتاب: الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السُّنَّة من الزلل والتضليل والمجازفة، للعلامة عبد الرحمن المعلمي.
[3] أخرجه البخاري (كتاب العلم، رقم 110)، ومسلم (المقدمة، رقم 3).
1 ـ «الاستيعاب في معرفة الأصحاب» (ج4)، لابن عبد البر.
2 ـ «الإصابة في تمييز الصحابة» (ج7)، لابن حجر.
3 ـ «الأنوار الكاشفة لما في كتاب (أضواء على السُّنَّة) من الزلل والتضليل والمجازفة»، لعبد الرحمن المعلّمي.
4 ـ «البداية والنهاية» (ج11)، لابن كثير.
5 ـ «تاريخ دمشق» (ج67)، لابن عساكر.
6 ـ «دلائل النبوة» (ج1)، لأبي نعيم.
7 ـ «سير أعلام النبلاء» (ج2)، للذهبي.
8 ـ «الطبقات»، لخليفة بن خياط.
9 ـ «فتح الباري» (ج1) لابن حجر.
10 ـ «نسب معد واليمن الكبير» (ج2)، للكلبي.