قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] ، وقال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ *} [الرحمن] ، إلى غير ذلك من الآيات.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما نزلت هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام: 65] . قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أعوذ بوجهك» . فقال: {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام: 65] . فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أعوذ بوجهك» . قال: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} [الأنعام: 65] . فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «هذا أيسر»[1].
وعن أبي موسى الأشعري قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخمس كلمات فقال: «إن الله عزّ وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه»[2].
[1] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7406).
[2] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 179).
قال عبد الرحمن بن القاسم من تلاميذ الإمام مالك: «لا ينبغي لأحد أن يصف الله إلا بما وصف به نفسه في القرآن، ولا يُشَبِّه يديه بشيء، ولا وجهه بشيء، ولكن يقول: له يدان كما وصف نفسه في القرآن، وله وجه كما وصف نفسه، يقف عندما وصف نفسه به في الكتاب، فإنه تبارك وتعالى لا مثل له وشبيه، ولكن هو الله لا إله إلا هو كما وصف نفسه»[1].
وقال ابن خزيمة: «أثبت الله لنفسه وجهًا وصفه بالجلال والإكرام، وحكم لوجهه بالبقاء، ونفى الهلاك عنه، فنحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز وتهامة واليمن والعراق والشام ومصر مذهبنا: أَنَّا نثبت لله ما أثبته الله لنفسه، نقر بذلك بألسنتنا، ونصدق ذلك بقلوبنا من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين، عز ربنا عن أن يَشْبَه المخلوقين، وجل ربنا عن مقالة المعطلين، وعز أن يكون عدمًا كما قاله المبطلون؛ لأن ما لا صفة له عدم، تعالى الله عما يقول الجهميون الذين ينكرون صفات خالقنا الذي وصف بها نفسه في محكم تنزيله وعلى لسان نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم»[2].
وقال ابن تيمية: «ثبوت الوجه والصورة لله قد جاء في نصوص كثيرة من الكتاب والسُّنَّة المتواترة، واتفق على ذلك سلف الأمة، وأما لفظ الوجه فلا يمكن استقصاء النصوص المثبتة له»[3].
[1] نقله عنه ابن أبي زمنين في أصول السُّنَّة (75) [مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة المنورة، ط1، 1415هـ].
[2] كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب (1/25 ـ 27) [مكتبة الرشد، الرياض، ط5، 1414هـ].
[3] بيان تلبيس الجهمية (6/526) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف، ط1، 1426هـ].
المسألة الأولى: ما أثر عن بعض السلف في تفسير قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] لا يعتبر تأويلاً:
لقد فسر جماعة من السلف قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] بالقبلة، وهو مروي عن ابن عباس[1] ومجاهد[2] والشافعي[3]، وهذا الرأي انتصر له ابن تيمية، وذكر أن هذه الآية ليست من نصوص الصفات[4]، وهذا المسلك قد ارتضاه الدكتور عبد الرزاق بن طاهر معاش[5] في توجيه الآية المذكورة، ولكن لا يلزم من تفسيرهم لقوله تعالى: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} بالقبلة عدم ثبوت صفة الوجه لله تعالى، فهناك آيات وأحاديث كثيرة تدل على ذلك من غير شك، وتفسير من فسرها من السلف بالقبلة لا يفهم منه أنهم لا يرون ثبوت صفة الوجه لله تعالى، فإن إثبات صفة الوجه لله تعالى كما يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه أمر متفق عليه عند سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة الدين.
المسألة الثانية: حكم السؤال بوجه الله تعالى:
لا يسأل بوجه الله عزّ وجل إلا الجنة أو ما هو وسيلة لها ومقرب إليها، ولا يسأل بوجه الله الأشياء الحقيرة من مطالب الدنيا وحوائجها التافهة الفانية، وهذا من باب إجلال وجه الله عزّ وجل وإكرامه وتعظيمه سبحانه، وسؤال المرء بوجه الله عزّ وجل أمرًا من أمور الدنيا دليل على نقصان توحيده وعدم تعظيمه لوجه الله تعالى حق تعظيمه سبحانه[6].
[1] أخرج عنه ابن أبي حاتم في تفسيره (1/212) [مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1، 1417هـ]، كما في التفسير الصحيح المسبور (1/221) [دار المآثر، المدينة المنورة، ط1، 1420هـ].
[2] أخرج عنه ابن جرير الطبري في تفسيره (1/660) [دار السلام، القاهرة، ط3، 1429هـ]، والبيهقي في الأسماء والصفات (2/107) [مكتبة السوادي، ط1، 1413هـ]، وإسناده لا ينزل عن درجة الحسن كما في التفسير الصحيح المسبور (1/221).
[3] ذكره البيهقي في الأسماء والصفات (2/106، 107).
[4] انظر: مجموع الفتاوى (2/429 و3/193 و6/15 ـ 17).
[5] انظر: مسالك أهل السُّنَّة فيما أشكل من نصوص العقيدة (2/385 ـ 387) [دار ابن القيم، الرياض، ودار ابن عفان، القاهرة، ط1، 1425هـ].
[6] انظر: المنتقى من فتاوى الشيخ صالح الفوزان (2/6، 7) [دار العسل، الرياض، ط3، 1419هـ]، والتمهيد لشرح كتاب التوحيد (526 ـ 528) لصالح آل الشيخ [وزارة الشؤون الإسلامية، الرياض، ط2، 1430هـ] وغيره من شروح كتاب التوحيد.
الوجه صفة من الصفات الذاتية الخبرية، فهي من جملة الصفات التي أنكرها الفلاسفة والجهمية والمعتزلة الذين ينكرون الصفات بالكلية، ومن جملة الصفات التي أنكرها المتأخرون من الأشاعرة ومن وافقهم، وأوَّلوا النصوص الواردة فيها بتأويلات باطلة، فتارة زعموا أن لفظ الوجه في النصوص المذكورة زائد، وتارة زعموا أن المراد به الذات وليس الوجه، وهذا عين الأول، وتارة أوَّلوها بالثواب والإنعام والجزاء، وتارة زعموا أن المراد بها القبلة، وكل هذه التأويلات باطلة؛ فإن كلام الله عزّ وجل منزَّه عن الحشو والزيادة واللغو، وقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم استعاذ بوجه الله، فلو كان المراد بالوجه الثواب أو الجزاء أو القبلة لما استعاذ النبي صلّى الله عليه وسلّم بالوجه؛ لأنها كلها مخلوقة، والاستعاذة بالمخلوق لا يجوز[1]، وإن فسرت بعض هذه النصوص بالقبلة من قبل جماعة من السلف وكان مقبولاً في موضعه فلا يمكن تطبيقه في النصوص الأخرى الكثيرة الدالة على ثبوت صفة الوجه والصورة لله تعالى.
فالقول الصحيح والمذهب الحق هو ما دلت عليه نصوص الكتاب والسُّنَّة وأجمع عليه أهل السُّنَّة والجماعة، وهو أنه يجب إثبات هذه الصفة لله عزّ وجل كما يليق بجلاله وعظمته، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
[1] انظر من كتب أهل السُّنَّة: نقض الدارمي على المريسي (417 ـ 437) [أضواء السلف، ط1، 1419هـ]، ومختصر الصواعق المرسلة (2/174 ـ 188)، وانظر من كتب المعتزلة: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار (227) [مكتبة وهبة، ط2]، والكشاف للزمخشري (4/531، و5/9) [مكتبة العبيكان، ط1، 1418هـ]، ومن كتب الأشاعرة: أصول الدين لعبد القاهر البغدادي (109، 110) [مدرسة الإلهيات بدار الفنون التركية، إستانبول، ط1، 1346هـ]، وأساس التقديس للرازي (151 ـ 156) [مكتبة الكليات الأزهرية بالقاهرة، 1406هـ]، ومن كتب الماتريدية: مدارك التنزيل للنسفي (1/324، و3/249).
1 ـ «الأسماء والصفات» (ج2)، للبيهقي.
2 ـ «أصول السُّنَّة»، لابن أبي زمنين.
3 ـ «اعتقاد أئمة أهل الحديث»، للإسماعيلي.
4 ـ «بيان تلبيس الجهمية» (ج6)، لابن تيمية.
5 ـ «الحجة في بيان المحجة» (ج1 و2)، للتيمي.
6 ـ «كتاب التوحيد» (ج1)، لابن خزيمة.
7 ـ «مجموع الفتاوى» (ج2 و3 و6)، لابن تيمية.
8 ـ «مختصر الصواعق المرسلة» (ج2)، للموصلي.
9 ـ «معجم ألفاظ العقيدة»، لعالم عبد الله فالح.
10 ـ «نقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله في التوحيد»، للدارمي.