قال ابن فارس رحمه الله: «الواو والراء والعين: أصل صحيح يدل على الكف والانقباض، منه الورع: العفة، وهي الكف عما لا ينبغي»[1].
الورع : التحرج، والكف عن المحارم، يقال: تورع عن كذا؛ أي: تحرج، والورِع: الرجل التقي المتحرِّج، وقد ورِع يرِع ورعًا ورِعة، ويقال: فلان سيِّئ الرِّعة؛ أي: قليل الورع[2].
[1] مقاييس اللغة (6/100) [دار الجيل، ط2].
[2] انظر: مقاييس اللغة (6/100)، والصحاح للجوهري (3/1296) [دار العلم للملايين، ط3]، ولسان العرب (15/272) [دار إحياء التراث العربي، ط3، 1419هـ].
الورع قسمان من حيث الحكم[1]:
الورع الواجب : وهو اتقاء ما يكون سببًا للذم والعقاب، وهو فعل الواجب المحقق البيِّن، وترك المحرم المحقق البين، اللذين لا شبهة فيهما.
الورع المستحب : هو اتقاء ما يخاف أن يكون سببًا للذم والعقاب، عند عدم المعارض الراجح.
[1] انظر: مجموع الفتاوى (20/137، 138)، وجامع المسائل لابن تيمية (1/45) [دار عالم الفوائد، ط1، 1422هـ].
حقيقة الورع : هو اجتناب الفعل واتقاؤه، والكف والإمساك عنه، والحذر منه، وهو يعود إلى كراهة الأمر والنفرة منه، والبغض له، وهو اتقاء ما يكون سببًا للذم والعقاب، ويدخل فيه فعل الواجبات، وترك المحرمات، واتقاء من يخاف أن يكون سببًا للذم والعذاب، عند عدم المعارض الراجح، ويدخل في ذلك أداء الواجبات، والمشتبهات التي تشتبه الواجب، وترك المحرمات، والمشتبهات التي تشبه الحرام، وإن أدخلت فيها المكروهات، يقال: يخاف أن تكون سببًا للنقص والعذاب[1].
[1] انظر: مجموع الفتاوى (10/21، 511، 617).
من السُّنَّة قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنّك لن تدع شيئًا لله عزّ وجل إلاّ أبدلك الله به ما هو خير لك منه»[1].
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قال: «أربع إذا كنّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدّنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفّة في طعمة»[2].
وعن النّعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما مشبّهات لا يعلمها كثير من النّاس، فمن اتّقى المشبّهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشّبهات كراعٍ يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإنّ لكلّ ملك حمى، ألا إنّ حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب»[3].
[1] أخرجه أحمد (38/170) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وقال الهيثمي في المجمع (10/296) [مكتبة القدسي]: (رجاله رجال الصحيح)، وصححه الألباني في السلسلة الضعيفة (1/62).
[2] أخرجه أحمد (11/233) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والحاكم (كتاب الرقاق، رقم 7876)، وحسنه المنذري في الترغيب والترهيب (2/345) [دار الكتب العلمية، ط1]، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 733) [مكتبة المعارف، ط1، 1415هـ].
[3] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 52) واللفظ له، ومسلم (كتاب المساقاة، رقم 1599).
عن الضحاك بن مزاحم رحمه الله أنه قال: «لقد رأيتنا، وما نتعلم إلا الورع»[1].
قال ابن تيمية رحمه الله: «الورع المشروع: هو الورع عما قد تخاف عاقبته؛ وهو ما يعلم تحريمه، وما يشك في تحريمه، وليس في تركه مفسدة أعظم من فعله، مثل محرم معين، مثل من يترك أخذ الشبهة ورعًا مع حاجته إليها، ويأخذ بدل ذلك محرمًا بينًا تحريمه، أو يترك واجبًا تركه أعظم فسادًا من فعله مع الشبهة»[2].
وقال ابن القيم رحمه الله: «الورع يطهر دنس القلب ونجاسته؛ كما يطهر الماء دنس الثوب ونجاسته»[3].
[1] الزهد لوكيع (474) [مكتبة الدار، المدينة، ط1، 1404هـ].
[2] مجموع الفتاوى (10/511، 512).
[3] مدارج السالكين (2/23) [دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، 1416هـ].
المسألة الأولى: الورع في المباحات:
مما ذمه النبي صلّى الله عليه وسلّم الورع في الأمور المباحة؛ لأنه لا مضرة فيها، أو قد تكون فيها مضرة مرجوحة؛ فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: صنع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمرًا فترخص فيه، فبلغ ذلك ناسًا من أصحابه فكأنهم كرهوه وتنزهوا عنه، فبلغه ذلك فقام خطيبًا فقال: «ما بال رجال بلغهم عنِّي أمر ترخصت فيه فكرهوه وتنزهوا عنه، فوالله لأنا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية»[1].
قال ابن تيمية رحمه الله: «وأما الورع عما لا مضرة فيه، أو فيه مضرة مرجوحة، لما تقترن به من جلب منفعة راجحة، أو دفع مضرة أخرى راجحة: فجهل وظلم؛ وذلك يتضمن ثلاثة أقسام لا يتورع عنها: المكافأة، والراجحة، والخالصة: كالمباح المحض، أو المستحب، أو الواجب فإن الورع عنها ضلالة»[2].
المسألة الثانية: أمور ليست من الورع:
1 ـ يعتقد كثير من الناس أن الورع من باب الترك فقط، فلا يرون الورع إلا في ترك الحرام، لا في أداء الواجب، فترى أحدهم يتورع عن الكلمة الكاذبة، وعن الدرهم فيه شبهة؛ لكونه من مال ظالم، أو معاملة فاسدة، أو نحو ذلك، ومع هذا يترك أمورًا واجبة عليه؛ إما عينًا وإما كفاية، وقد تعيَّنت عليه: من صلة رحم، وحق جار ومسكين، وصاحب ويتيم، وحق مسلم، وذي سلطان، إلى غير ذلك مما فيه نفع للخلق في دينهم ودنياهم مما وجب عليه[3].
قال شيخ الإسلام: «تمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين وشرّ الشّرّين، ويعلم أنّ الشّريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وإلاّ فمن لم يوازن ما في الفعل والتّرك من المصلحة الشّرعيّة، والمفسدة الشّرعيّة فقد يدع واجبات ويفعل محرّمات، ويرى ذلك من الورع»[4].
2 ـ يقع بعض من يريد أن يتورع عن الشبه والدقائق في انتهاك المحرمات، ويزعم أنه من الورع، وهذا باطل، فيجب أن ينكر عليه[5].
عن ابن أبي نعم قال: كنت شاهدًا لابن عمر رضي الله عنهما وسأله رجل عن دم البعوض؟ فقال: ممن أنت؟ فقال: من أهل العراق، قال: انظروا إلى هذا يسألني عن دم البعوض وقد قتلوا ابن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وسمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم: «هما ريحانتاي من الدنيا»[6].
[1] أخرجه البخاري (كتاب الأدب، رقم 6101)، ومسلم (كتاب الفضائل، رقم 2365)، واللفظ له.
[2] مجموع الفتاوى (10/615).
[3] انظر: المرجع السابق (20/139، 140).
[4] مجموع الفتاوى (10/512).
[5] انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (1/303، 304) [دار السلام، ط2، 1424هـ].
[6] أخرجه البخاري (كتاب الأدب، رقم 5994)، وأخرجه أيضًا في (كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، رقم 3753).
الفرق بين الورع والزهد:
الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما يخشى ضرره في الآخرة[1].
والزهد: هو من باب عدم الرغبة والإرادة في المزهود فيه، والورع: من باب وجود النفرة والكراهة للمتورَّع عنه.
والزهد يصلح في المباحات، دون الورع، فلا يجوز التورع عن المباحات، فكل ما يصلح فيه الورع يصلح فيه الزهد، من غير عكس[2].
[1] انظر: مجموع الفتاوى (10/21، 511)، ومدارج السالكين (2/12) [دار الكتاب العربي، بيروت، ط5]، والفوائد لابن القيم (171) [دار عالم الفوائد، ط1، 1429هـ]، وعدة الصابرين (264) [دار ابن كثير، 1419هـ].
[2] انظر: مجموع الفتاوى (10/618، 619).
ـ يصون النفس ويحفظها عما يشينها ويعيبها ويزري بها عند الله تعالى، وعند ملائكته، وعباده المؤمنين، وسائر خلقه.
ـ يزيد في إيمان العبد، ويصونه ويحفظه؛ لأن القبائح تذهب بالإيمان، أو تقِّلله.
ـ توفير الحسنات، وذلك من وجهين؛ أحدها: توفير زمانه في اكتساب الحسنات. والثاني: توفير الحسنات المفعولة عن نقصانها[1].
[1] انظر: مدارج السالكين (1/448، 449) [مؤسسة المختار، ط1، 1422هـ].
الخوارج والروافض والمعتزلة والصوفية ونحوهم يرون أن الورع من باب الترك، فلا يرون الورع إلا في ترك الحرام، لا في أداء الواجب.
قال شيخ الإسلام: «وهذا الورع قد يوقع صاحبه في البدع الكبار؛ فإن ورع الخوارج والروافض والمعتزلة ونحوهم من هذا الجنس، تورعوا عن الظلم وعن ما اعتقدوه ظلمًا من مخالطة الظلمة في زعمهم، حتى تركوا الواجبات الكبار من الجمعة والجماعة؛ والحج والجهاد؛ ونصيحة المسلمين والرحمة لهم، وأهل هذا الورع ممن أنكر عليهم الأئمة كالأئمة الأربعة وصار حالهم يذكر في اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة»[1].
[1] مجموع الفتاوى (20/140).
1 ـ «استنشاق نسيم الأنس»، لابن رجب.
2 ـ «الفوائد»، لابن القيم.
3 ـ «قوت القلوب»، لأبي طالب المكي.
4 ـ «الزهد»، لأحمد بن حنبل.
5 ـ «شعب الإيمان»، للبيهقي.
6 ـ «جامع العلوم والحكم»، لابن رجب.
7 ـ «طريق الهجرتين وباب السعادتين»، لابن القيم.
8 ـ «مختصر منهاج القاصدين» لابن قدامة.
9 ـ «مجموع الفتاوى» (ج10)، لابن تيمية.
10 ـ «مدارج السالكين»، لابن القيم.