الوسطية في اللغة مشتقة من مادة: وسط، وهي تدل على: العدل، والنِّصْف[1].
وكلمة (وسط) إذا سُكِّنت سينها فهي ظرف، تقول: جلست وَسْطَ القوم؛ أي: بينهم.
وإذا فتحت سينها فقد تكون:
1 ـ اسمًا لما بين طرفي الشيء وهو منه، كقولك: قبضت وَسَطَ الحبل، أو للشيء بين الجيد والرديء.
2 ـ اسما أو صفة بمعنى: خيار، وأفضل، وأجود. تقول: مرعى وسط؛ أي: خيار.
وتقول: هذا وسَطُ القوم؛ أي: أعدلهم[2].
[1] انظر: مقاييس اللغة (6/108) [دار الجيل، ط2].
[2] انظر: الصحاح (3/1167) [دار العلم للملايين، ط4]، ولسان العرب (7/427 ـ 430) [دار صادر، ط1]، والقاموس المحيط (2/405)، والمصباح المنير (252)، ووسطية أهل السُّنَّة لمحمد با كريم (15 ـ 17).
لقد جاء ذكر الوسط في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] ، ومعنى الوسط في الآية مقارب لمعناه اللغوي، حيث ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد فسر الوسط في هذه الآية بأنه: العدل[1].
كما جاء تفسير الوسطية بالخيرية، والتوسط بين الإفراط والتفريط[2]، وهي معانٍ متلازمة.
ويراد بوسطية أهل السُّنَّة: الحالة التي التزم بها أهل السُّنَّة والجماعة من التمسك بشرع الله، وسُنَّة مصطفاه صلّى الله عليه وسلّم بلا إفراط ولا تفريط، وما اعتقدوه من عقائد كانوا فيها بين طرفي الغلو والجفاء، حتى أصبحوا أولى الطوائف بالعدل والخيرية، فجانبوا أهل البدع والأهواء من أهل الإفراط أو التفريط[3].
[1] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3339). وانظر: فتح الباري لابن حجر (8/172) [دار المعرفة].
[2] انظر: تفسير الطبري (3/142) [مؤسسة الرسالة، ط1]، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج (2/219)، وتفسير ابن كثير (1/275) [دار طيبة، ط2، 1420هـ].
[3] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/373 ـ 375)، وانظر في تعريف الوسطية: الوسطية في ضوء القرآن الكريم لناصر العمر (40، 41)، والوسطية في القرآن للصلابي (41 ـ 47) [دار النفائس].
المعنى الاصطلاحي لأهل السُّنَّة والجماعة راجع إلى المعنيين اللغويين سالفَي الذكر.
فهم قد كانوا وسطًا بين طرفي الإفراط والتفريط في سائر أبواب الاعتقاد والعمل، وهو ما دل عليه المعنى اللغوي الأول.
وهم ـ بتمسكهم بالقرآن، وبسنَّة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم ـ قد كانوا بمجموعهم خيار الفرق المنتسبة لهذه الأمة، وأفضلها وأعدلها في الأقوال والأحكام، وهذا ما دل عليه المعنى اللغوي الثاني.
لقد تميز مذهب أهل السُّنَّة والجماعة بوسطيته واعتداله بين المذاهب الأخرى، والتي وقفت على طرفي نقيض، ما بين فرق غالية مُفْرِطة، وفرق جافية مُفَرِّطة، حيث أخذت كل فرقة ببعض الأدلة دون بعض، فوقعت في جانب الإفراط أو التفريط، وهدى الله أهل السُّنَّة، فجمعوا بين مدلولات النصوص جميعًا، فكان قولهم جامعًا للحق الذي وجد بعضه عند كل فرقة، كما كان مذهبهم سالمًا من الباطل الذي وقعت فيه فرق المبتدعة نتيجة إهمالها بعض أدلة الكتاب والسُّنَّة، فمذهب أهل السُّنَّة وسَطٌ بين مذاهب أهل البدع، كما أن أمة الإسلام وسطٌ بين أمم الكفر، ومن مظاهر وسطية أهل السُّنَّة ما يلي:
1 ـ وسطيتهم في باب أسماء الله وصفاته، حيث ذهب أهل السُّنَّة والجماعة إلى إثبات كل ما جاء في الكتاب، وصح في السُّنَّة من أسماء الله وصفاته وأفعاله، على ما يليق بعظمته وجلاله، ونزهوه عن النقص ومماثلة مخلوقاته، فهم قد أثبتوا بلا تكييف ولا تمثيل، ونزَّهوا بلا تحريف ولا تعطيل، فصار مذهبهم وسطًا بين طرفين:
أ ـ طرف الغلوِّ والإفراط، وهم أهل التمثيل، فمنهم من شبَّه الخالق بالمخلوق، فأثبتوا أسماء الله وصفاته على وجه يماثل أسماء وصفات المخلوقين، كبعض قدماء الروافض، ومنهم من شبَّه المخلوق بالخالق، فأضاف إلى بعض المخلوقين شيئًا من خصائص ربوبية الله أو ألوهيته، كما يقع عند غلاة الصوفية وغلاة الرافضة.
ب ـ طرف الجفاء والتفريط، وهم أهل التعطيل على اختلاف طوائفهم، حيث نفوا أسماء الله وصفاته أو بعضها، كمن يعتقد أن الله تعالى لم يستو على العرش.
2 ـ وسطيتهم في باب الوعد والوعيد. حيث يعتقد أهل السُّنَّة أن فاعل الكبيرة من أهل التوحيد لا يخرج عن الإسلام، ولا يخلَّد في النار.
فهو عندهم في الدنيا: مؤمنٌ ناقص الإيمان، فأصل الإيمان ثابت له، وأما كمال الإيمان الواجب فزائل عنه.
وهو عندهم في الآخرة: تحت مشيئة الله، إن شاء عفا عنه برحمته وأدخله الجنة ابتداءً بلا عذاب، وإن شاء عذبه بعدله بما يستحقه من العذاب، ثم يخرج من النار ويصير إلى الجنة، ولا يُخَّلد في النار خلود الكفار.
وهم بذلك وسط بين طرفين:
أ ـ طرف الغلوِّ والإفراط، وهم أهل الوعيد (الوعيدية) وتمثلهم فرقتا الخوارج والمعتزلة.
ففاعل الكبيرة في الدنيا عندهم: خارج عن الإسلام، إما كافر (كما تقول الخوارج)، أو أنه ليس بمؤمن ولا كافر، بل في منزلة بين المنزلتين (كما تقول المعتزلة).
وفاعل الكبيرة في الآخرة عندهم: خالدٌ مُخلَّدٌ في النار، لا يخرج منها أبدًا، بل لا يجوز لله أن يغفر له عندهم، فهم ينكرون شفاعة النبي صلّى الله عليه وسلّم وغيره من الشفعاء ممن يشفع في عصاة الموحدين أن يخرجوا من النار.
ب ـ طرف الجفاء والتفريط، وهم المرجئة، ويُسَمَّون: (أهل الوعد).
وفاعل الكبيرة عندهم في الدنيا: مؤمن كامل الإيمان، بل إيمانه كإيمان الأنبياء، ويرى غلاتهم أنه لا يضر مع الإيمان معصية، وأن الشخص لا يكفر حتى ولو فعل جميع المكفرات المجمع على التكفير بها ما دامت معرفة الله ثابتة في قلبه، وبعضهم يكذب بالوعيد والعقاب بالكليَّة تغليبًا لجانب الوعد، ففاعل الكبيرة عندهم لا يستحق دخول النار.
3 ـ وسطيتهم في باب القدر وأفعال العباد.
فأهل السُّنَّة يؤمنون بقضاء الله وقدره، ومن ذلك إيمانهم بعموم علم الله وكتابته، وعموم خلقه ومشيئته، وقد دخل في هذا العموم: علمه تعالى وكتابته وخلقه ومشيئته لأفعال العباد، سواء كانت من الطاعات أو من المعاصي، كما دل عليه عموم قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] ، فدخل في ذلك خلق الأعيان، وخلق صفات الأعيان وحركاتها، كما دلَّ عليه أيضًا خصوص قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ *} [الصافات] .
فأهل السُّنَّة قد أثبتوا للعبد فعلاً، وإرادة، ومشيئة، وقدرة، واختيارًا، وكسبًا، كل ذلك على الحقيقة، ولكنها عندهم داخلة تحت قدرة الله وإرادته ومشيئته، على ما جاء في قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ *وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ *} [التكوير] ، فالعباد هم الذين فعلوا أفعالهم وكسبوها باختيارهم على الحقيقة، وليسوا مجبورين عليها ولا مُكرَهين، بل للعباد قدرة حقيقية مؤثرة في وقوع الفعل منهم، ولكن الله هو الذي أقدرهم على ذلك، فالله هو الخالق لفعل العبد، وليس هو الفاعل له، والعبد هو الفاعل لفعله، وليس هو الخالق له، هذا حاصل قول أهل السُّنَّة في هذا الباب.
وهم بذلك قد توسطوا بين طرفين:
أ ـ طرف الغلوِّ والإفراط في جانب أفعال العباد، والجفاء والتفريط في جانب أفعال الرب، وهم القدرية النفاة، من المعتزلة وغيرهم، حيث ذهبوا إلى أن العبد هو الفاعل لفعله، وهو الخالق لفعله أيضًا، فغلاتهم أنكروا علم الله السابق بها، وخلقه لها، والمعتزلة أثبتوا العلم السابق، وأنكروا أن تكون أفعال العباد مخلوقة أو مقدورة للربِّ[1]، فأنكروا عموم قدرة الله ومشيئته وخلقه، ووصفوا الله بالنقص، حيث قالوا: إن الربَّ لا يقدر على عين مقدور العبد، وجعلوا العباد مشاركين لله في ربوبيته، حيث أثبتوا للعبد صفة من صفات الربوبية، وهي صفة الخلق، ولذا سُمُّوا: بمجوس هذه الأمة، لمشابهتهم المجوس في القول بتعدد الخالقين.
ب ـ طرف الجفاء والتفريط في جانب أفعال العباد، والغلو والإفراط في جانب أفعال الرب، وهم الجبرية، وهم على قسمين:
1 ـ جبرية خالصة، وهم الجهمية، حيث جعلوا الإنسان مجبورًا على أفعاله، كالريشة في مهب الريح، فلا قدرة له ولا استطاعة ولا اختيار ولا فعل على الحقيقة، بل الله هو الخالق لأفعال العباد، وهو الفاعل لها أيضًا.
2 ـ جبرية متوسطة، وهم الأشاعرة، حيث أثبتوا للإنسان فعلاً وقدرة، إلا أنها غير مؤثرة، والقدرة غير المؤثرة وجودها كعدمها، فقولهم راجع إلى قول الجبرية الخالصة، ونزاعهم معهم لفظي[2].
4 ـ وسطيتهم في أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وآل البيت رضوان الله عليهم.
فمن أصول أهل السُّنَّة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فهم يحبونهم، ويقرون بفضلهم، ويعتقدون أنهم أكمل الأمة إيمانًا وعلمًا وحكمة، وذلك لثناء الله تعالى عليهم ولسابقتهم في الدين، ونصرتهم سيد المرسلين صلّى الله عليه وسلّم، ولحسن بلائهم في الإسلام، وجهادهم لإعلاء كلمة التوحيد، كما أنهم يحبون أهل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويتولونهم، ويحفظون فيهم وصية النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث قال: «أذكِّركم الله في أهل بيتي» [3]، إلا أنهم لا يتجاوزون فيهم الحد، فلا يغلون فيهم، ولا يعتقدون عصمتهم، ولا يضيفون إليهم شيئًا مما يختص به الله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته.
وهم بذلك قد توسطوا بين طرفين:
أ ـ طرف الغلوِّ والإفراط في حق آل البيت، والجفاء والتفريط في حقِّ بقية الصحابة، ألا وهم الرافضة، الذين سبّوا صحابة النبي صلّى الله عليه وسلّم ولعنوهم، وكفَّروا أكثرهم[4].
وبالمقابل فقد غلوا في آل النبي صلّى الله عليه وسلّم، وجاوزوا بهم الحد، بل أضافوا إليهم بعض ما يختص به الله في ربوبيته وألوهيته، فتراهم يغالون في علي رضي الله عنه، وبعض ذريته، ويفضلونهم على الأنبياء والملائكة، ويعتقدون عصمتهم، ويثبتون لهم وحيًا، وعلمًا بالغيب، وتصرفًا في الكون، ويتوجهون إليهم بالدعاء وطلب الغوث وهم أموات[5].
ب ـ طرف الجفاء والتفريط في حق آل البيت، وغيرهم من الصحابة، ألا وهم النواصب، ومنهم الخوارج الذين قالوا بكفر عثمان، وعلي رضي الله عنهما، وغيرهما من الصحابة، واستحلوا دماءهم وأموالهم، وقدحوا في خلافة علي رضي الله عنه وإمامته، والرافضة أيضًا الذين طعنوا في أمهات المؤمنين، وبعض آل البيت كبني العباس وغيرهم[6].
هذه بعض مظاهر وسطية أهل السُّنَّة، وكذلك في سائر أبواب الاعتقاد ترى مذهب أهل السُّنَّة وسطًا بين الأقوال المتقابلة المتناقضة؛ لأنهم تمسكوا بكتاب الله وسُنَّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فكانوا أولى الطوائف بوصف الوسطية، المتضمن للعدل والخيرية، والتوسط بين غالي الأقوال وجافيها، والله أعلم.
[1] انظر: شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار المعتزلي (323، 772) [مكتبة وهبة، ط2، 1408هـ]، والمغني في أبواب العدل والتوحيد له (8/3)، والمنية والأمل لابن المرتضى (6).
[2] انظر: منهاج السُّنَّة النبوية (1/459 ـ 464) [مؤسسة قرطبة، ط1، 1406هـ]، وكذلك: مقالات الإسلاميين للأشعري (1/338) [دار إحياء التراث العربي، ط3]، لمع الأدلة للجويني (107) [دار عالم الكتب، ط2، 1407هـ]، والملل والنحل للشهرستاني (1/85) [دار المعرفة، 1404هـ]، وشفاء العليل لابن القيم (51) [دار الفكر، 1398هـ]، والمواقف للإيجي (428) [دار الجيل، ط1، 1417هـ]، والتعريفات للجرجاني (74) [دار الكتاب العربي، ط1، 1405هـ].
[3] أخرجه مسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2408).
[4] انظر: البرهان للسكسكي (65) [مكتبة المنار، ط2، 1417هـ]، والملل والنحل للشهرستاني (1/146)، والشيعة وآل البيت لإحسان إلهي ظهير (44، 191)، وكذلك: الأصول من الكافي للكليني (1/154)، والروضة من الكافي له (245)، وحق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر الرافضي (1/276، 308 ـ 325)، وكشف الأسرار للخميني (137، 175، 176).
[5] انظر: مقالات الإسلاميين (1/120)، والملل والنحل للشهرستاني (1/174)، والبدء والتاريخ المنسوب للمطهر بن طاهر المقدسي (5/125) [مكتبة الثقافة الدينية]، وكذلك: بحار الأنوار للمجلسي (25/209)، وأصول الكافي (1/147)، والكافي (1/134، 203)، وأوائل المقالات للمفيد (81)، وحق اليقين لعبد الله شبر (1/209)، والحكومة الإسلامية للخميني (52، 53).
[6] انظر: مقالات الإسلاميين (1/167)، والبدء والتاريخ للمقدسي (5/135)، والتنبيه والرد للملطي (51) [المكتبة الأزهرية للتراث، 1418هـ]، والملل والنحل للشهرستاني (1/115)، والفرقان بين الحق والباطل ضمن مجموع الرسائل الكبرى (22، 23).
دلَّ على فضل الوسطية آيات؛ منها:
قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]
وقوله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً *} [الإسراء]
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا *} [الفرقان]
قال الحافظ الخطيب البغدادي رحمه الله: «أما الكلام في الصفات: فإن ما رُوي منها في السنن الصحاح مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها، وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله، وحققها قوم من المثبتين فخرجوا في ذلك الى ضرب من التشبيه والتكييف، والقصد إنما هو سلوك الطريقة المتوسطة بين الأمرين، ودين الله بين الغالي فيه والمقصر عنه»[1].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «وهذا الذي جاءت به شريعة الاسلام هو الصراط المستقيم، وهو الذي يصلح به دين الانسان، وهذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، وهي وسط بين هذين الصنفين: أصحاب البدع، وأصحاب الفجور، أهل الإسراف، والتقشف الزائد. ولهذا كان السلف يحذرون من هذين الصنفين. قال الحسن: «هو المبتدع في دينه، والفاجر في دنياه»، وكانوا يقولون: احذروا صاحب الدنيا أغوته دنياه، وصاحب هوى متبع لهواه»[2].
وقال أيضًا: «ومذهب السلف بين مذهبين، وهدى بين ضلالتين، إثبات الصفات، ونفي مماثلة المخلوقات، فقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] رد على أهل التشبيه والتمثيل، وقوله {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *} رد على أهل النفي والتعطيل، فالمُمثِّل أعشى، والمعطِّل أعمى، المُمثل يعبد صنمًا والمُعطل يعبد عدمًا»[3].
[1] سير أعلام النبلاء (31/105) [مؤسسة الرسالة، ط9، 1413هـ]، وتذكرة الحفاظ للذهبي (3/1143) [دار الكتب العلمية، ط1].
[2] مجموع الفتاوى (14/459).
[3] المرجع السابق (5/196).
ـ مفاهيم خاطئة حول الوسطية.
المفهوم الخاطئ الأول : الخلط بين الوسطية الشرعية، و(بَينيَّة) النفاق:
أما بينيَّة النفاق، فهي ما جاء في قوله تعالى عن المنافقين: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً *مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً *} [النساء] ، فبينيَّة النفاق هي بينيَّة بين طرف الإسلام، وطرف الكفر، والتي أراد بها أصحابها المخادعة لأهل الإسلام، وخشية أن تصيبهم دائرة، فليست تلك وسطية بين غلوٍّ وجفاء ـ كما هي الحال في الوسطية الشرعية ـ بل هي بَينيَّة بين طرف الحق، والذي هو الوسط الشرعي، وطرف الكفر، أو هي بينية تردد وتذبذب وتحيُّر[1]، ولذا قال صلّى الله عليه وسلّم في وصفهم: «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين، تَعِيرُ إلى هذه مَرَّةً وإلى هذه مَرَّةً»[2].
ولمَّا كان حالهم على هذه البينية، صار أمرهم ملتبسًا على كثير من الناس، ولذا كثرت نصوص القرآن في التحذير منهم.
ويدخل في هذه الوسطية النفاقيَّة كثير من الطوائف العلمانية والتغريبيَّة ونحوها، ممن توهم أنه يقف وسطًا بين طرفي غلوٍّ وجفاء، وكذلك من ظن أن الوسطية إنما تكون بالتخلي عن بعض المبادئ والشرائع الراسخة التي قررها الإسلام، كشريعة الجهاد وعقيدة الولاء والبراء، ونحو ذلك، وربما لوَّح بعضهم بشعار الوسطية موهمًا العامة والغوغاء أنه ينادي بالوسطيَّة الشرعية، وواقعهُ أنه قد وافق الوسطية، ولكنها وسطية النفاق والخداع، والحيرة والشك، والعياذ بالله.
المفهوم الخاطئ الثاني : الخلط بين الوسطية الشرعية، و(بَينيَّة) الكفر.
بَينيَّة الكفر، قد ذكرها الله بعد بَينيَّة النفاق السالفة بآيات، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً *أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِيناً *} [النساء] .
فهذه وسطية من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، كفعل اليهود حين صدقوا بموسى صلّى الله عليه وسلّم وكذبوا بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وأرادوا أن يتخذوا من هذا السبيل طريقًا إلى الضلالة يخدعون به جهال الناس[3].
ويدخل في ذلك من لفق له مذهبًا أو معتقدًا أخذ بعضه من شريعة الله، وبعضه من شرع من سواه، وكذا من قرر قانونًا ونظامًا مزجه بين شرع الله، وشرع من سواه، ورأى أنه قد حقق التوسط بذلك، وقد قال تعالى في أمثال هؤلاء: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ *} [البقرة] .
المفهوم الخاطئ الثالث : التوهم أن كل قول بين قولين قد حقق الوسطية الشرعية، من غير اعتبار لموافقته للشرع.
وهذا غير لازم طردًا ولا عكسًا، فقد يكون القول صوابًا ولو لم يكن بين طرفين موجودين، طرفِ غلو وجفاء، كما أن من الأقوال ما يكون وسطًا بين قولين آخرين، ويكون هو باطلاً أيضًا، فالمعيار المُطَّرد في وصف الوسطية هو موافقة الشرع، وبهذه الموافقة يكون هو الأفضل والأعدل والخير (كما هي الأقوال الأشهر والأصح في معنى الوسطية)، ولو لم يكن بين قولي غلو وجفاء.
فالصحابة رضي الله عنهم هم أولى الناس بوصف الوسطية الشرعية، مع أنه لم يوجد في عصرهم أهل تعطيل وتشبيه، ولم يوجد في صدرهم جبرية ولا قدرية، وبالمقابل فلو قيل مثلاً إن المذهب الزيدي وسط بين أهل السُّنَّة والرافضة، أو إن المذهب الأشعري وسط بين أهل السُّنَّة والاعتزال، فإنه لو صحت هذه الوسطية و(البينيَّة) فليست هي الوسطية الشرعية قطعًا، وكذلك ما يتخذه بعض عوام الناس من سلوك منهج بين منهج أهل الاستقامة، ومنهج أهل الضلال، سواء كان في طرف الغلو أو الجفاء، فيتوهم أنه قد حقق الوسطية بمسلكه ذاك، فكل هذا من تلبيس الشيطان، وكذلك في المسائل الفقهية التي جرى الخلاف فيها على تحريم وكراهية وجواز مثلاً، فلا يلزم أن تكون الكراهية هي الصواب لكونها وسطًا بين التحريم والجواز، بل الصواب ما شهد له الدليل الصحيح بالتحريم أو الكراهة أو الجواز.
[1] انظر: تفسير الطبري (9/332).
[2] أخرجه مسلم (كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، رقم 2784).
[3] انظر: تفسير الطبري (9/352).
لقد كان لالتزام أهل السُّنَّة بمبدأ الوسطية آثارًا حميدة، تجلَّت في عقائدهم وأقوالهم، وفي سلوكهم وأعمالهم، وفي أخلاقهم وتعاملاتهم مما جعل منهجهم منهجًا متزنًا، موافقًا للفطر السليمة، وللأخلاق المستقيمة.
فمن ذلك: تحقيقهم لمقتضى شرع الله، وقيامهم بدينه، والتزامهم بالعدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، وأقرت به البشرية بجميع أطيافها، حتى فتحوا البلاد شرقًا وغربًا.
ومن آثار المنهج الوسطي عند أهل السُّنَّة: أن كان منهجهم هو الموافق لفطر الناس، فكان عامة المؤمنين ممن لم يتلبس بمذاهب أهل البدع على الاعتقاد الحق في الجملة، فيسمع نصوص الصفات فيفهمها على ظاهر معناها، ويسمع نصوص التنزيه، فيعلم أن ظاهر الصفات لا يجري على التشبيه، وهكذا في سائر أبواب الاعتقاد.
كما أثر فيهم ذلك أن لزموا منهج الوسط والعدل في عباداتهم العملية، فضرب أئمة السلف أروع الأمثلة في تعبداتهم، وزهدهم وورعهم، ملازمين للمنهج النبوي الوسطي في ذلك، فلم يسلكوا منهج أهل الغلو والشطح من أهل التصوف ونحوهم، ولا طريق أهل الفسق من أهل الجفاء والتقصير، بل كانوا في ذلك وسطًا.
ولقد بلغ بهم الحال أن صار المنهج الوسطي سجية عندهم، ينحون نحوها بدون تكلف، وحتى في الأمور الدقيقة والعادية، كانوا ملازمين للتوسط فيها، قال الإمام ابن القيم ـ بعد ذكره لأحوال بعض المتنطعين في اللباس ـ: «والصواب أن أفضل الطرق طريق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التي سنَّها وأمر بها ورغب فيها وداوم عليها، وهي أن هديه في اللباس أن يلبس ما تيسر من اللباس من الصوف تارة والقطن تارة والكتان تارة... فالذين يمتنعون عما أباح الله من الملابس والمطاعم والمناكح تزهدًا وتعبدًا بإزائهم طائفة قابلوهم، فلا يلبسون إلا أشرف الثياب، ولا يأكلون إلا ألين الطعام، فلا يرون لبس الخشن ولا أكله تكبرًا وتجبرًا، وكلا الطائفتين هديه مخالف لهدي النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولهذا قال بعض السلف: كانوا يكرهون الشُّهرتين من الثياب، العالي والمنخفض»[1]
كما أنهم قد التزموا منهج الوسط في تعاملهم مع مخالفيهم من أصحاب الفرق الضالة، فكانوا خير الناس للناس، وأرحم الخلق بالخلق، وخيرًا لتلك الفرق من بعضها لبعض، فلم يجعلوهم من أهل السُّنَّة، كما لم يلتزموا إخراج أعيانهم من دين الإسلام ما لم يقم فيهم مكفر عليه برهان من دين الله.
[1] زاد المعاد (1/143 ـ 145).
1 ـ «بحوث ندوة (أثر القرآن الكريم في تحقيق الوسطية ودفع الغلو)»، لمجموعة باحثين.
2 ـ «العقيدة الواسطية»، لابن تيمية
3 ـ «شرح العقيدة الواسطية»، لمحمد خليل هراس.
4 ـ «عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة»، لمحمد بن إبراهيم الحمد.
5 ـ «الفتوى وأثرها في حماية المعتقد وتحقيق الوسطية»، لفهد الجهني.
6 ـ «المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية»، لإبراهيم البريكان.
7 ـ «مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية»، لعثمان جمعة ضميرية.
8 ـ «وسطية أهل السُّنَّة بين الفرق»، لمحمد باكريم.
9 ـ «الوسطية في ضوء القرآن الكريم»، لناصر العمر.
10 ـ «الوسطية في القرآن الكريم»، لعلي الصلابي.
11 ـ «الوصية الكبرى»، لابن تيمية.