الإمامة: مصدر من فعل أمَّ، وهو أصل واحد يدل على أربعة معان متقاربة المعنى ترجع إلى ثلاثة أصول: القامة، والحين، والقصد؛ يقول ابن فارس رحمه الله: «وأما الهمزة والميم فأصل واحد، يتفرع منه أربعة أبواب، وهي الأصل، والمرجع، والجماعة، والدّين، وهذه الأربعة متقاربة، وبعد ذلك أصول ثلاثة، وهي القامة، والحين، والقصد»[1].
وأصل هذا الباب كله من القصد، يقال: أممته: إذا قصدته، فمعنى الأمة في الدين: أن مقصدهم واحد، ومعنى الأمة القامة: سائر مقصد الجسد، ومعنى الأمة في الرجل المنفرد الذي لا نظير له: أن قصده منفرد من قصد سائر الناس، فليس يخرج شيء من هذا الباب عن أن الأصل في معنى أممت؛ أي: قصدت[2].
والإمَّة: الإمامة، يقال: فلان أحق بإِمَّة هذا المسجد؛ أي: بالإمامة، والإمام كل من ائتم به قوم كانوا على الصراط المستقيم، أو كانوا ضالين، والنبي صلّى الله عليه وسلّم إمام أمته، والخليفة إمام رعيته، والقرآن إمام المسلمين[3].
[1] مقاييس اللغة (1/21) [دار الجيل، ط1421هـ].
[2] انظر: تهذيب اللغة (15/635 ـ 636) [دار الكتاب العربي].
[3] انظر: تهذيب اللغة (15/638)، ومقاييس اللغة (1/28)، ولسان العرب (12/22، 25) [دار صادر، ط1، 1410هـ].
الإمامة: في الاصطلاح عند الإطلاق يراد بها الإمامة العظمى، وموضوعها تولي أمور الناس، وأما عند التقييد فإنها تنصرف إلى المقصود من المتكلم[1].
فبالمعنى العام المطلق عرَّفها الماوردي بقوله: «الإمامة موضوعة لخلافة النبوة، في حراسة الدين، وسياسة الدنيا»[2].
وقال ابن خلدون: «هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليهم؛ إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع، في حراسة الدين، وسياسة الدنيا بها»[3].
[1] انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/135)، [دار الجيل، ط1405هـ].
[2] الأحكام السلطانية والولايات الدينية (3) [مكتبة دار ابن قتيبة، ط1، 1409هـ].
[3] مقدمة ابن خلدون (190) [دار الباز، ط4، 1398هـ].
يجب على الأمة عقد الإمامة، ونصب الإمام؛ إذ هي من فروض الكفايات، ولا قيام للدين والدنيا إلا بها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين؛ بل لا قيام للدين والدنيا إلا بها؛ فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع؛ لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد عند الاجتماع من رأس»[1].
[1] مجموع الفتاوى (28/390) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف، ط1].
منزلة الإمامة في الدين رفيعة، وأهميتها عظيمة؛ لما يقوم به الإمام من مصالح تنتظم بها أمور الدين والدنيا، ولكن ليست هي أهم المطالب في أحكام الدين، كما يقوله الرافضة، بل الإيمان بالله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم في كل زمان ومكان، أعظم من مسألة الإمامة، فلم تكن في وقت من الأوقات، لا الأهم، ولا الأشرف[1].
[1] انظر: منهاج السُّنَّة النبوية (1/1/78 ـ 79).
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ *} [البقرة] .
قال القرطبي: «هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة يُسمَع له ويطاع؛ لتجتمع به الكلمة، وتنفذ به أحكام الخليفة»[1]:
وقال تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص: 26] .
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] .
ومن السُّنَّة: عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع، وهو مسؤول عن رعيته»[2].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللَّهُمَّ من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن وليَ من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به»[3].
وعن حذيفة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»[4].
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «من بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا رقبة الآخر»[5].
[1] تفسير القرطبي (1/395) [مؤسسة الرسالة، ط1].
[2] أخرجه البخاري (كتاب الجمعة، رقم 893)، ومسلم (كتاب الإمارة، رقم 1829).
[3] أخرجه مسلم (كتاب الإمارة، رقم 1828).
[4] أخرجه البخاري (كتاب المناقب، رقم 3606)، ومسلم (كتاب الإمارة، رقم 1847).
[5] أخرجه مسلم (كتاب الإمارة، رقم 1844).
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «لا بدَّ للناس من إمارة برة كانت أو فاجرة، قيل له: هذه البرة قد عرفناها، فما بال الفاجرة؟ قال: يؤمّن بها السبيل، ويقام به الحدود، ويجاهد به العدو، ويقسم بها الفيء»[1].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ومن المعلوم أن الناس لا يصلحون إلا بولاة...، كما يقال: ستون سنة مع إمام جائر خير من ليلة واحدة بلا إمام...، والناس لا يمكنهم بقاء أيام قليلة بلا ولاة أمور بل كانت تفسد أمورهم»[2].
وقال الشوكاني: «ويجب على المسلمين شرعًا نصب إمام، وهذا معلوم لا يخالف فيه أحد، بل هو إجماع المسلمين أجمعين، منذ قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى هذه الغاية، فما هو مرتبط بالسلطان من مصالح الدين والدنيا، ولو لم يكن منها إلا جمعهم على جهاد عدوهم، وتأمين سبلهم، وإنصاف مظلومهم من ظالمه، وأمرهم بما أمرهم الله به، ونهيهم عما نهاهم الله عنه، ونشر السنن، وإماتة البدع، وإقامة حدود الله فمشروعية نصب السلطان هي من هذه الحيثية»[3].
[1] انظر: منهاج السُّنَّة النبوية (1/548). وأخرج عبد الرزاق في مصنفه (كتاب اللقطة، رقم 18654) عن علي رضي الله عنه قال: (لا بد للناس من إمارة، يعمل فيها المؤمن، ويستمتع فيها الفاجر والكافر).
[2] منهاج السُّنَّة النبوية (1/547 ـ 548).
[3] السيل الجرار (4/504) [دار الكتب العلمية، ط1].
اشترط أهل العلم للإمام شروطًا، منها: ما هو شرط صحة، ومنها: ما هو شرط كمال، وهي على النحو التالي[1]:
الأول: أن يكون من قريش، بشرط إقامتهم للدين، وطاعتهم لله عزّ وجل، ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، فإن خالفوا أمر الله عزّ وجل فغيرهم ممن يطيع الله تعالى، وينفذ أوامره أولى منهم، وعلى هذا إجماع الصحابة، ومن جاء بعدهم من أئمة السلف، ولم يخالف في هذا إلا شذوذ من أهل الأهواء والبدع.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبَّه الله على وجهه ما أقاموا الدين»[2].
قال ابن حجر: «ما أقاموا الدين: أنهم إذا لم يقيموا الدين خرج الأمر عنهم»[3].
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الناس تبع لقريش في هذا الشأن»[4].
قال القاضي عياض رحمه الله: «هذه الأحاديث وما في معناها في هذا الباب حجة أن الخلافة لقريش، وهو مذهب كافة المسلمين وجماعتهم، وبهذا احتج أبو بكر وعمر على الأنصار يوم السقيفة، فلم يدفعه أحد عنه، وقد عدَّها الناس في مسائل الإجماع؛ إذ لم يؤثر عن أحد من السلف فيها خلاف، قولاً ولا عملاً، قرنًا بعد قرن، إلا ذلك، وإنكار ما عداه»[5].
الثاني: من شروط الإمام الأعظم: كونه ذكرًا، فلا يجوز تولية المرأة الإمامة، وهو قول جمهور أهل العلم؛ بل قد حكى بعض أهل الإجماع على عدم تولية المرأة الإمامة، لما ثبت عن أبي بكرة رضي الله عنه أنه قال: لما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أهل فارس قد ملَّكوا عليهم بنت كسرى. قال: «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة»[6].
قال أبو عبد الله القرطبي: «وأجمعوا على أن المرأة لا يجوز أن تكون إمامًا»[7].
وقال ابن حجر رحمه الله: «والمنع من أن تلي المرأة الإمامة والقضاء قول الجمهور»[8].
وقال الشنقيطي: «من شروط الإمام الأعظم كونه ذكرًا، ولا خلاف في ذلك بين العلماء»[9].
الثالث: من شروط الإمام الأعظم: كونه حرًّا، فلا يجوز أن يكون عبدًا، وأجمعت الأمة على ذلك.
فإن قيل: ورد في «الصحيح» ما يدل على جواز إمامة العبد، فقد أخرج البخاري في «صحيحه» من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة»[10].
فالجواب عنه من أوجه؛ أظهرها[11]:
الأول: يتصور ولاية العبد إذا ولاَّه بعض الأئمة، أو تغلب على البلاد بشوكته وأتباعه، فإنه يسمع له حينئذ ويطاع.
الثاني: أنه قد يضرب المثل بما لا يقع في الوجود، فإطلاق العبد الحبشي لأجل المبالغة في الأمر بالطاعة، وإن كان لا يتصور شرعًا أن يلي ذلك ابتداءً.
الثالث: أن يكون أطلق عليه اسم العبد نظرًا لاتصافه بذلك سابقًا، مع أنه وقت التولية حر، ونظيره إطلاق اليتم على البالغ باعتبار اتصافه به سابقًا.
الرابع من شروطه: أن يكون بالغًا، فلا تجوز إمامة الصبي إجماعًا؛ لعدم قدرته على القيام بأعباء الخلافة.
الخامس: أن يكون عاقلاً، فلا تجوز إمامة المجنون ولا المعتوه، وهذا لا نزاع فيه.
[1] انظر: غياث الأمم للجويني (60) [دار الدعوة، ط1]، والأحكام السلطانية لأبي يعلى (20) [دار الكتب العلمية]، وتفسير القرطبي (1/404)، وأضواء البيان (1/73 ـ 80).
[2] أخرجه البخاري (كتاب الأحكام، رقم 7139).
[3] فتح الباري (13/146) [دار الكتب العلمية: ط1].
[4] أخرجه البخاري (كتاب المناقب، رقم 3495)، ومسلم (كتاب الإمارة، رقم 1818).
[5] إكمال المعلم بفوائد مسلم للقاضي عياض (6/214) [دار الوفاء، ط1، 1419هـ].
[6] أخرجه البخاري (كتاب المغازي، رقم 4425).
[7] تفسير القرطبي (1/404).
[8] فتح الباري لابن حجر (9/584) [دار طيبة، ط1].
[9] أضواء البيان (1/78).
[10] أخرجه البخاري (كتاب الأحكام، رقم 7142).
[11] انظر: إكمال المعلم بفوائد مسلم للقاضي عياض (6/220) [دار الوفاء، ط1، 1419هـ]، وشرح صحيح مسلم للنووي (12/242) [المطبعة المصرية بالأزهر، ط1، 1347هـ]، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني (16/626)، وأضواء البيان للشنقيطي (1/78 ـ 79).
المسألة الأولى: طرق انعقاد الإمامة:
ذكر أهل العلم أن الإمامة العظمى تنعقد بأربعة طرق[1]:
الطريق الأولى: أن ينص النبي صلّى الله عليه وسلّم أن فلانًا هو الإمام، وقال بعض العلماء: إن إمامة الصديق أبي بكر رضي الله عنه كانت من هذا القبيل.
وهذه الطريق مبنية على ثبوت ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من أصله، وأنه نص على خلافة أبي بكر رضي الله عنه ـ سواء كان بالنص الجلي، كما ذهب إليه جماعة من أهل العلم، أو كان بالإشارة أو النص الخفي ـ، أو لم ينص عليه؛ أي: أنه لم يستخلف أحدًا بعد موته[2].
الطريق الثانية: الاختيار: وهو اتفاق أهل الحل والعقد على اختيار الإمام ومبايعته، وقال بعض العلماء: إن إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه كانت من هذا القبيل أيضًا، وكذلك إمامة عثمان بن عفان رضي الله عنه كانت بمبايعة الناس له، ولم يتخلف عنها أحد.
قال ابن قدامة: «فإن أبا أبكر ثبتت إمامته بإجماع الصحابة على بيعته»[3].
وقال ابن تيمية: «عثمان لم يصر إمامًا باختيار بعضهم، بل بمبايعة الناس له، وجميع المسلمين بايعوا عثمان بن عفان، ولم يتخلف عنه أحد»[4].
وأهل الحل والعقد: هم أهل الاختيار، من أهل العقل والعلم، ووجهاء الناس ورؤسائهم. أو هم أهل الشوكة والقدرة، ممن تحصل بمبايعتهم للإمام القدرة والتمكن والسلطان.
قال ابن تيمية: «فإنه لا يشترط في الخلافة إلا اتفاق أهل الشوكة والجمهور، الذين يقام بهم الأمر، بحيث يمكن أن يقام بهم مقاصد الإمامة»[5].
الطريق الثالثة: العهد: وهو أن يعهد الإمام إلى خليفته من بعده، سواء بالمقال أو بالكتابة، كما وقع من أبي بكر الصديق رضي الله عنه للفاروق عمر رضي الله عنه.
قال ابن قدامة: «وعمر ثبتت إمامته بعهد أبي بكر»[6].
وقال ابن تيمية: «وأما عمر فإن أبا بكر عهد إليه، وبايعه المسلمون بعد موت أبي بكر، فصار إمامًا لما حصلت له القدرة والسلطان بمبايعتهم له»[7].
وأجمع أهل العلم على جواز انعقاد الإمامة بالعهد، قال الماوردي: «وأما انعقاد الإمامة بعهد من قبله فهو مما انعقد الإجماع على جوازه، ووقع الاتفاق على صحته»[8].
الطريق الرابعة: التغلب: وهي أن يتغلب الإمام بسيفه على الناس، وينتزع الخلافة بالقوة، فيستتب له الأمر، ويدخل الناس في طاعته.
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: «والسمع والطاعة للأئمة، وأمير المؤمنين، البر والفاجر، ومن ولي الخلافة، فاجتمع الناس عليه، ورضوا به، ومن غلبهم بالسيف، حتى صار خليفة، وسمي أمير المؤمنين»[9].
وقال ابن قدامة: «ولو خرج رجل على الإمام، فقهره، وغلب الناس بسيفه حتى أقروا له، وأذعنوا بطاعته، وبايعوه صار إمامًا يحرم قتاله، والخروج عليه، فإن عبد الملك بن مروان خرج على ابن الزبير فقتله، واستولى على البلاد وأهلها، حتى بايعوه طوعًا وكرهًا، فصار إمامًا يحرم الخروج عليه»[10].
المسألة الثانية: السمع والطاعة للأئمة وإن كانوا ظلمة فاسقين، وعدم الخروج عليهم، وإشهار السيف وقتالهم:
من أصول عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة السمع والطاعة لولاة الأمر دون معصية الله، وعدم الخروج عليهم، سواء كانوا بررة أم فجّارًا، إلا إذا رأى الناس كفرا بواحًا عندهم فيه من الله برهان، وقدروا على إزالته، دون ترتب المفاسد، وذلك لورود الأمر بطاعتهم في الكتاب والسُّنَّة، وإجماع أئمة سلف هذه الأمة.
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] .
وأولو الأمر في أحد الأقوال هم: الأمراء والولاة، وعلى ذلك جماهير السلف والخلف؛ قال النووي: «قال العلماء: المراد بأولي الأمر من أوجب الله طاعته من الولاة والأمراء، هذا قول جماهير السلف والخلف؛ من المفسرين والفقهاء، وغيرهم»[11].
وأما من السُّنَّة: فالأحاديث في هذا الباب كثيرة جدًّا: منها ما جاء عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: «إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان»[12].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كره من أميره شيئًا فليصبر فإنه من خرج من السلطان شبرًا مات ميتة جاهلية»[13].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة»[14].
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنكم سترون بعدي أثرة وأمورًا تنكرونها، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم»[15].
وأما من الإجماع وأقوال سلف الأمة: فقد نقل غير واحد من أهل العلم إجماع أهل السُّنَّة والجماعة على عدم الخروج على الأئمة الظالمين:
قال ابن بطة رحمه الله: «وقد أجمعت العلماء من أهل العلم، والفقه، والنُّسَّاك، والعبَّاد، والزُّهاد منذ أول هذه الأمة إلى وقتنا هذا: أن صلاة الجمعة، والعيدين، ومنى، وعرفات، والغزو، والحج والهدي مع كل أمير برٍّ وفاجر...، والسمع والطاعة لمن ولَّوه، وإن كان عبدًا حبشيًّا، إلا في معصية الله، فليس لمخلوق فيها طاعة»[16].
وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله: «الإجماع الخامس والأربعون: وأجمعوا على السمع والطاعة لأئمة المسلمين، وعلى أن كل من ولي شيئًا من أمورهم، عن رضا أو غلبة، وامتدت طاعته، من بر وفاجر، لا يلزم الخروج عليهم بالسيف، جار أو عدل»[17].
وقال الحافظ النووي رحمه الله: «وأما الخروج عليهم، وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته، وأجمع أهل السُّنَّة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق»[18].
وأما أقوالهم فكثيرة جدًّا: قال ابن تيمية رحمه الله: «وأما أهل العلم والدين والفضل فلا يرخصون لأحد فيما نهى الله عزّ وجل عنه من معصية ولاة الأمور، وغشهم، والخروج عليهم بوجه من الوجوه، كما قد عرف من عادات أهل السُّنَّة والدين قديمًا وحديثًا، ومن سيرة غيرهم، وقد ثبت في «الصحيح» عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ أنه قال: «ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدره» ، قال: «وإن من أعظم الغدر؛ يعني: بإمام المسلمين» [19]. وهذا حدَّث به عبد الله بن عمر لما قام قوم من أهل المدينة يخرجون عن طاعة ولي أمرهم ينقضون بيعته»[20].
وأما الخروج على الإمام إذا رأى الناس منه الكفر البواح فهو مشروط بالقدرة والتمكن على الإزالة، وعدم ترتب المفاسد والشرور عند إزالته.
قال ابن تيمية: «فإن الحاكم إذا ولاّه ذو الشوكة لم يمكن عزله إلا بفتنة، ومتى كان السعي في عزله مفسدة أعظم من مفسدة بقائه، لم يجز الإتيان بأعظم الفسادين، لدفع أدناهما، وكذلك الإمام الأعظم، ولهذا كان المشهور من مذهب أهل السُّنَّة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف، وإن كان فيهم ظلم، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم دون قتال ولا فتنة، فلا يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته»[21].
وقال ابن باز رحمه الله: «إلا إذا رأى المسلمون كفرًا بواحًا عندهم من الله فيه برهان، فلا بأس أن يخرجوا على هذا السلطان لإزالته، إذا كان عندهم قدرة، أما إذا لم يكن عندهم قدرة فلا يخرجوا، أو كان الخروج يسبب شرًّا أكثر فليس لهم الخروج رعاية للمصالح العامة، والقاعدة الشرعية المجمع عليها: أنه لا يجوز إزالة الشر بما هو أشر منه، بل يجب درء الشر بما يزيله، أو يخففه، أما درء الشر بشر أكثر منه فلا يجوز بإجماع المسلمين»[22].
وقال ابن عثيمين رحمه الله: «وإذا رأينا هذا مثلاً ـ يعني: الكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان ـ فلا تجوز المنازعة حتى تكون لدينا قدرة على إزاحته، فإن لم يكن لدينا قدرة فلا تجوز المنازعة؛ لأنه ربما إذا نازعنا وليس عندنا قدرة يقضي على البقية الصالحة، وتتم سيطرته»[23].
المسألة الثالثة: حكم الخروج على الإمام الجائر:
من أصول مذهب الخوارج والمعتزلة الخروج على الحاكم الظالم، ومنابذته بالسيف، وقتاله، وهذا المذهب مخالف لنصوص القرآن والسُّنَّة، ولإجماع سلف الأمة، وقد تقدم تقرير ذلك.
هذا وقد يستدل الخوارج وأتباعهم في كل عصر على فعل بعض التابعين في الصدر الأول، الذين خرجوا على الحجاج بن يوسف الثقفي، أو بفعل الحسين بن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن الزبير مع بني أمية، وغيرهم، وقد أجيب على ذلك بأجوبة من أظهرها:
أولاً: قد دلَّت النصوص الشرعية من الكتاب والسُّنَّة على تحريم الخروج على الحكام وإن كانوا ظلمة فسقة، وفعل أولئك الأئمة ومن وافقهم مخالف لتلك النصوص، وهم مجتهدون في ذلك، ومعذورون، لكن لا يجوز تقديم فعلهم على صريح وصحيح النصوص.
ثانيًا: خالفهم في فعلهم ذلك جمع كبير من الصحابة، والتابعين، وأنكروا عليهم صنيعهم، ولم يحمدوا على ذلك، وهم أولى بالاتباع؛ لأن القرآن والسُّنَّة حجة لهم.
قال ابن تيمية: «وكان أفاضل المسلمين ينهون عن الخروج والقتال في الفتنة، كما كان عبد الله بن عمر، وسعيد بن المسيب، وعلي بن الحسين، وغيرهم، ينهون عام الحرة عن الخروج على يزيد، وكما كان الحسن البصري، ومجاهد، وغيرهما ينهون عن الخروج في فتنة ابن الأشعث»[24].
ثالثًا: وهو أن يقال: إن خروج أولئك الأئمة، وغيرهم كان في أول الأمر، وقد كان عن تأويل، أو عن عدم بلوغ الحجة لديهم، أو نحو ذلك، هذا وإن كان أكثرهم قد تاب ورجع وندم، لكن بعد ذلك استقر أمر أهل السُّنَّة والجماعة على المنع من الخروج، وإشهار السيف، وقتال السلطان، وعلى وجوب السمع والطاعة، وإن كانوا ظلمة، وهذا الذي يذكره أهل السُّنَّة في عقائدهم، ويحكيه الآخر عن الأول.
قال القاضي عياض في بعض الأجوبة: «وقيل: بل كان في هذا الخلاف أولاً، ثم وقع الاتفاق بعد على ترك القتال»[25].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد كلامه السابق: «ولهذا استقر أمر أهل السُّنَّة على ترك القتال في الفتنة للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جور الأئمة، وترك قتالهم، وإن كان قد قاتل في الفتنة خلق كثير من أهل العلم والدين»[26].
المسألة الرابعة: تحريم سب الأئمة ولعنهم:
من عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة الدعاء للأئمة بالخير والصلاح، وتحريم سبهم ولعنهم، لما يفضي من اللعن والسب إلى إيغال صدور العامة عليهم، مما قد يترتب على ذلك من المفاسد العظيمة، في الدين والدنيا.
روى عوف بن مالك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم. قيل: يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئًا تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يدًا من طاعة»[27].
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: «نهانا كبراؤنا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: لا تسبوا أمراءكم ولا تغشوهم ولا تبغضوهم واتقوا الله واصبروا فإن الأمر قريب»[28].
روى أبو بكر الخلال عن أبي بكر المروذي أنه قال: «سمعت أبا عبد الله وذكر الخليفة المتوكل رحمه الله. فقال: إني لأدعو له بالصلاح والعافية»[29].
وقال الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله: «ولا نرى الخروج على أئمتنا، وولاة أمورنا، وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يدًا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عزّ وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة»[30].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولهذا كان السلف كالفضيل بن عياض، وأحمد بن حنبل، وغيرهما يقولون: لو كان لنا دعوة مجابة لدعونا بها للسلطان»[31].
المسألة الخامسة: تعدد الأئمة، ولها صورتان:
الأولى: أن تنعقد الإمامة ابتداء لإمامين في وقت واحد، وفي بلد واحد، وهذا حكمه المنع مطلقًا، وعليه انعقد الإجماع. قال القرطبي: «فأما إقامة إمامين أو ثلاثة في عصر واحد، وبلد واحد، فلا يجوز إجماعًا»[32].
ودليل المنع أحاديث من السُّنَّة النبوية:
منها: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ أنه قال: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما»[33].
ومنها: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا رقبة الآخر»[34].
ومنها: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه»[35].
الثانية: وهي عقد الإمامة لخليفتين كلاهما مستقل بقطر دون الآخر: الصواب في هذا جواز ذلك نظرًا للحاجة. قال ابن تيمية: «والسُّنَّة أن يكون للمسلمين إمام واحد، والباقون نوابه، فإذا فرض أن الأمة خرجت عن ذلك، لمعصية من بعضها، وعجز من الباقين، وكان لها عدة أئمة، لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود، ويستوفي الحقوق»[36].
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: «الأئمة مجمعون من كل مذهب، على أن من تغلب على بلد أو بلدان له حكم الإمام في جميع الأشياء، ولولا هذا ما استقامت الدنيا؛ لأن الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا ما اجتمعوا على إمام واحد، ولا يعرفون أحداً من العلماء ذكر أن شيئاً من الأحكام لا يصح إلا بالإمام الأعظم»[37].
وقال الشوكاني: «وأما بعد انتشار الإسلام، واتساع رقعته، وتباعد أطرافه، فمعلوم أنه قد صار في كل قطر أو أقطار الولاية إلى إمام أو سلطان، وفي القطر الآخر، أو الأقطار كذلك، ولا ينفذ لبعضهم أمر ولا نهي في قطر الآخر، وأقطاره التي رجعت إلى ولايته، فلا بأس بتعدد الأئمة، أو السلاطين، ويجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة له على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه، وكذلك صاحب القطر الآخر، فإذا قام من ينازعه في القطر الذي قد ثبتت فيه ولايته، وبايعه أهله، كان الحكم فيه أن يقتل إذا لم يتب، ولا تجب على أهل القطر الآخر طاعته، ولا الدخول تحت ولايته؛ لتباعد الأقطار، فإنه قد لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانها، ولا يدر من قام منهم، أو مات، فالتكليف بالطاعة والحال هذه تكليف بما لا يطاق»[38].
المسألة السادسة: المراد بأولي الأمر في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] :
اختلف أهل العلم بالمراد بأولي الأمر في هذه الآية على أقوال؛ أظهرها ثلاثة أقوال[39]:
القول الأول: المراد بأولي الأمر في الآية: هم الأمراء والولاة، وإلى هذا القول ذهب جماعة من الصحابة والتابعين؛ كأبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهما ومن وافقهم من الأئمة؛ كابن جرير الطبري، بل نقله الحافظ النووي عن جماهير السلف والخلف.
قال ابن جرير: «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: هم الأمراء والولاة؛ لصحة الأخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالأمر بطاعة الأئمة والولاة فيما كان لله طاعة، وللمسلمين مصلحة»[40].
وقال النووي: «قال العلماء: المراد بأولي الأمر: من أوجب الله طاعته من الولاة والأمراء، هذا قول جماهير السلف والخلف؛ من المفسرين والفقهاء، وغيرهم»[41].
القول الثاني: أن المراد بهم العلماء وأهل الفقه، وقد روي عن جماعة من الصحابة؛ كابن عباس وجابر رضي الله عنهم، وقال به مجاهد وغيره.
القول الثالث: وهو أن الآية عامة في الأمراء والعلماء، وهو قول جماعة من أهل العلم المحققين؛ كأبي عبد الله القرطبي، وابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، وغيرهم من المتأخرين من أهل العلم.
قال القرطبي: «وأصح هذه الأقوال الأول والثاني»[42].
وقال ابن تيمية: «فلهذا كان أولو الأمر صنفين: العلماء والأمراء، فإذا صلحوا صلح الناس، وإذا فسدوا فسد الناس، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه للأحمسية لما سألته: ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح؟ قال: ما استقامت لكم أئمتكم[43]، ويدخل فيهم الملوك والمشايخ، وأهل الديوان، وكل من كان متبوعًا فهو من أولي الأمر، وعلى كل واحد من هؤلاء أن يأمر بما أمر الله عزّ وجل به، وينهى عما نهى الله عزّ وجل عنه، وعلى كل واحد ممن عليه طاعته أن يطيعه في طاعة الله عزّ وجل، ولا يطيعه في معصية الله»[44].
وقال ابن القيم: «والقولان ثابتان عن الصحابة في تفسير الآية، والصحيح أنها متناولة للصنفين معًا؛ فإن العلماء والأمراء ولاة الأمر الذي بعث الله به رسوله، فإن العلماء ولاته حفظًا وبيانًا وذبًّا عنه، وردًّا على من ألحد فيه وزاغ عنه، وقد وكّلهم الله بذلك؛ فقال تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ *} [الأنعام] ، فيا لها من وكالة أوجبت طاعتهم، والانتهاء إلى أمرهم، وكون الناس تبعًا لهم، والأمراء ولاته قيامًا وعناية وجهادًا وإلزامًا للناس به، وأخذهم على يد من خرج عنه، وهذان الصنفان هما الناس، وسائر النوع الإنساني تبع لهما ورعية»[45].
المسألة السابعة: واجبات وحقوق الرعية:
الرعية هم كل من تحت ولاية الإمام، من رجل أو امرأة، أو حر أو عبد، أو كافر أو مسلم، ولهم حقوق وواجبات:
فمن أظهر واجبات الرعية: السمع والطاعة لولاة الأمر فيما أمروا به، إلا في معصية، وعدم الخروج عليهم، أو قتالهم، كما تقدم تقريره.
ومن أظهرها أيضًا: بذل النصح لولاة الأمر كما ورد في الحديث «الصحيح» عن تميم الدَّاري؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الدين النصيحة» . قلنا: لمن؟ قال: «لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»[46].
وحقيقة النصيحة لهم: معاونتهم على الحق وطاعتهم فيه، وأمرهم به وتذكيرهم به بلطف ورفق، وعلى أحسن الوجوه، وتحريم الخروج عليهم، والصلاة خلفهم، والجهاد معهم، والدعاء لهم بالتوفيق والصلاح، ونحو ذلك[47].
وقد تخص النصيحة لولاة الأمر بتذكيرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وهذه النصيحة من شرطها أن لا تكون على الملأ وعلانية، بل يجب أن تبذل لهم النصيحة سرًّا فيما بينهم.
عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: «قيل له: ألا تدخل على عثمان فتكلمه؟ فقال: أترون أني لا أكلمه إلا أُسمِعُكُم! والله لقد كلمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتتح أمرًا لا أحب أن أكون أول من فتحه»[48].
قال القاضي عياض في شرحه للأثر: «يعني: في المجاهرة بالنكير، والقيام بذلك على الأمراء، وما يخشى من سوء عقباه، كما تولد من إنكارهم جهارًا على عثمان بعد هذا، وما أدى إلى سفك دمه، واضطراب الأمور بعده. وفيه التلطف مع الأمراء، وعرض ما ينكر عليهم سرًّا»[49].
وغير ذلك من الواجبات، وأما حقوق الرعية فكثيرة هي أيضًا، وهي من واجبات الأئمة والولاة والأمراء تجاه رعيتهم:
فمِن أظهرها: إقامة العدل في الرعية، وإعطاء كل ذي حق حقه، وإنصاف المظلوم، والأخذ على يد الظالم.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم، وما وُلُّوا»[50].
وكذلك الرفق بالرعية، ورفع المشقة عليهم، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «اللَّهُمَّ من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به»[51].
وكذلك النصح للرعية، والنصيحة كلمة جامعة لأنواع الخير كلها، فهي بذل المعروف للرعية، وإزالة المنكر عنها وكل ما هو مؤذٍ.
دخل عبيد الله بن زياد على معقل بن يسار في مرضه. فقال معقل: إني محدثك بحديث لولا أني في الموت لم أحدثك به؛ سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة»[52].
وفي رواية أخرى: «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرَّم الله عليه الجنة»[53].
[1] انظر: الأحكام السلطانية لأبي يعلى (23)، والأحكام السلطانية للماوردي (4)، وإكمال المعلم للقاضي عياض (6/220)، وتفسير القرطبي (1/401 ـ 403)، وأضواء البيان (1/72 ـ 73) [دار عالم الفوائد].
[2] انظر: المعتمد في أصول الدين لأبي يعلى (223) [دار الجيل، ط2]، والفِصَل في الملل لابن حزم (4/176) [دار الجيل، ط2]، وتفسير القرطبي (1/396)، ومنهاج السُّنَّة (1/487).
[3] المغني (12/243) [دار عالم الكتب، ط3].
[4] منهاج السُّنَّة (1/532).
[5] منهاج السُّنَّة (8/336)، وانظر: المصدر نفسه (1/527).
[6] المغني (12/243).
[7] منهاج السُّنَّة (1/532).
[8] الأحكام السلطانية (11).
[9] اعتقاد الإمام أحمد بن حنبل ضمن كتاب أصول اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة للالكائي (1/180) [مؤسسة الحرمين الخيرية، ط8، 1424هـ]
[10] المغني (12/243).
[11] شرح صحيح مسلم للنووي (12/223) [المطبعة المصرية بالأزهر، ط1، 1347هـ].
[12] أخرجه البخاري (كتاب الفتن، رقم 7055، 7056)، ومسلم (كتاب الإمارة، رقم 1709).
[13] أخرجه البخاري (كتاب الفتن، رقم 7053)، ومسلم (كتاب الإمارة، رقم 1849).
[14] أخرجه البخاري (كتاب الأحكام، رقم 7144)، ومسلم (كتاب الإمارة، رقم 1839).
[15] أخرجه البخاري (كتاب الفتن، رقم 6644)، ومسلم (كتاب الإمارة، رقم 1843).
[16] الشرح والإبانة، الإبانة الصغرى (183 ـ 186) [دار الأمر الأول، ط2، 1433هـ].
[17] رسالة إلى أهل الثغر (296 ـ 297) [مكتبة العلوم والحكم، ط2، 1422هـ].
[18] شرح صحيح مسلم للنووي (12/229).
[19] أخرجه البخاري (كتاب الفتن، رقم 7111)، ومسلم (كتاب الجهاد والسير، رقم 1735)، ولفظ ابن عمر كما عند البخاري: أنه جمع حشمه وولده فقال بعد رواية الحديث: «وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله وإني لا أعلم غدرًا أعظم من أن يبايع رجل بيع الله ورسوله ثم ينصب له القتال، وإني لا أعلم أحدًا منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه».
[20] مجموع الفتاوى (35/12) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف، 1416هـ].
[21] منهاج السُّنَّة (3/391).
[22] مجموع فتاوى ابن باز (8/203).
[23] شرح رياض الصالحين (4/515) [دار الوطن].
[24] منهاج السُّنَّة (4/529).
[25] إكمال المعلم (6/247).
[26] منهاج السُّنَّة (4/529).
[27] أخرجه مسلم (كتاب الإمارة، رقم 1855).
[28] أخرجه ابن أبي عاصم في السُّنَّة (2/488) [المكتب الإسلامي، ط1، 1400هـ]، والبيهقي في شعب الإيمان (6/69) [دار الكتب العلمية، ط1، 1421هـ]، وقال الألباني: إسناده جيد. ظلال الجنة (2/488).
[29] السُّنَّة للخلال (1/84) [دار الراية، ط1، 1410هـ].
[30] العقيدة الطحاوية مع شرح ابن أبي العز (2/540) [مؤسسة الرسالة، ط13، 1419هـ].
[31] مجموع الفتاوى (28/391).
[32] تفسير القرطبي (1/408).
[33] أخرجه مسلم (كتاب الإمارة، رقم 1853).
[34] أخرجه مسلم (كتاب الإمارة، رقم 1844)
[35] أخرجه مسلم (كتاب الإمارة، رقم 1852).
[36] مجموع الفتاوى (35/175).
[37] الدرر السنية في الأجوبة النجدية (9/5).
[38] السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار (4/481) [دار الكتب العلمية، ط1، 1404هـ].
[39] انظر: تفسير الطبري (7/176) [المطبعة المصرية بالأزهر، ط1]، وزاد المسير (2/116) [المكتب الإسلامي، ط3]، وتفسير القرطبي (6/428).
[40] تفسير القرطبي (7/182).
[41] شرح صحيح مسلم للنووي (12/223) [المطبعة المصرية بالأزهر، ط1، 1347هـ].
[42] تفسير القرطبي (6/430).
[43] أخرجه البخاري (كتاب المناقب، رقم 3834).
[44] قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابن تيمية (82) [مكتبة المدني، جدة].
[45] الرسالة التبوكية (46) [دار عالم الفوائد].
[46] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 55).
[47] انظر: إكمال المعلم للقاضي عياض (1/307)، وشرح النووي على مسلم (2/38).
[48] أخرجه البخاري (كتاب بدء الخلق، رقم 3267)، ومسلم (كتاب الزهد والرقائق، رقم 2989).
[49] إكمال المعلم (8/538).
[50] أخرجه مسلم (كتاب الإمارة، رقم 1827).
[51] أخرجه مسلم (كتاب الإمارة، رقم 1828).
[52] أخرجه مسلم (كتاب الإمارة، رقم 142).
[53] أخرجه البخاري (كتاب الأحكام، رقم 7150)، ومسلم (كتاب الإمارة، رقم 142).
1 ـ المخالفون في الإمامة على مذهبين:
المذهب الأول: من يرى الخروج على الإمام، وقتاله، وأن ليس له طاعة أو بيعة إذا ظلم، أو عصى، وهم الخوارج والمعتزلة، ومن وافقهم، ومذهبهم باطل بنص القرآن والسُّنَّة.
الثاني: من يرى أن الإمامة أعظم ركن من أركان الإسلام، وأصل أصيل من أصول الإيمان لا يتم إيمان المرء إلا باعتقادها، ولا يقبل منه عمل إلا بتحقيقها[1]، وهذا باطل، مخالف للكتاب والسُّنَّة، والإجماع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رادًّا على ادعاءات ابن المطهر الحلي السابقة في الإمامة: «إن قول القائل: إن مسألة الإمامة أهم المطالب في أحكام الدين، وأشرف مسائل المسلمين، كذب بإجماع المسلمين سنِّيهم وشيعيهم، بل هذا كفر؛ فإن الإيمان بالله ورسوله، أهم من مسألة الإمامة، وهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام؛ فالكافر لا يصير مؤمنًا حتى يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهذا هو الذي قاتل عليه الرسول صلّى الله عليه وسلّم الكفار أولاً كما استفاض عنه في الصحاح وغيرها... وقد قال تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] ، فأمر بتخلية سبيلهم إذا تابوا من الشرك، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وكذلك قال لعلي لما بعثه إلى خيبر، وكذلك كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يسير في الكفار فيحقن دماءهم بالتوبة من الكفر، لا يذكر لهم الإمامة بحال، وقد قال تعالى بعد هذا: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11] فجعلهم إخوانًا في الدين بالتوبة، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ولم يذكر الإمامة بحال، ومن المتواتر أن الكفار على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانوا إذا أسلموا أجرى عليهم أحكام الإسلام، ولم يذكر لهم الإمامة»[2].
2 ـ هذا، وقد ادعى الرافضة عصمة الإمام، وأنه لا يجوز عليه الخطأ، والنسيان، وهو باطل، مخالف للشرع والعقل.
ويُردّ عليهم بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] ؛ فليس يخلو أولو الأمر من أن يكونوا الفقهاء، أو الأمراء، أو الإمام الذي يدعونه، فإن كان المراد الفقهاء والأمراء فقد بطل أن يكون الإمام، والفقهاء والأمراء يجوز عليهم الغلط، والسهو، والتبديل، والتغيير، وقد أمرنا بطاعتهم، وهذا يبطل أصل الإمامة؛ فإن شرط الإمامة عندهم أن يكون معصومًا لا يجوز عليه الغلط، والخطأ، والتبديل، والتغيير، ولا يجوز أن يكون المراد الإمام؛ لأنه قال في نسق الخطاب: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] فلو كان هناك إمام مفروض الطاعة لكان الرد إليه واجبًا، وكان هو يقطع الخلاف والتنازع، فلما أمر برد المتنازع فيه من الحوادث إلى الكتاب والسُّنَّة دون الإمام؛ دل ذلك على بطلان قولهم في الإمامة، ولو كان هناك إمام تجب طاعته لقال: فردوه إلى الإمام؛ لأن الإمام عندهم هو الذي يقضي قوله على تأويل الكتاب والسُّنَّة، فلما أمر بطاعة أمراء السرايا والفقهاء، وأمر برد المتنازع فيه من الحوادث إلى الكتاب والسُّنَّة دون الإمام ثبت أن الإمام غير مفروض الطاعة في أحكام الحوادث المتنازع فيها، وأن لكل واحد من الفقهاء أن يردها إلى نظائرها من الكتاب والسُّنَّة.
وزعمت هذه الطائفة أن المراد بقوله تعالى: {وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهذا تأويل فاسد؛ لأن أولي الأمر جماعة، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه رجل واحد، وأيضًا فقد كان الناس مأمورين بطاعة أولي الأمر في زمان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومعلوم أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يكن إمامًا في أيام النبي صلّى الله عليه وسلّم، فثبت أن أولي الأمر في زمان النبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا أمراء، وقد كان المولّى عليهم طاعتهم ما لم يأمروهم بمعصية، وكذلك حكمهم بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم في لزوم اتباعهم، وطاعتهم ما لم تكن معصية[3].
3 ـ خالف في وجوب نصب الإمامة، وأن الأمة لا بد لها من إمام: شذوذ من طوائف أهل الأهواء والبدع؛ كالنجدات من فرق الخوارج، وكأبي بكر الأصم المعتزلي، وغيرهم، ولا عبرة بخلافهم.
قال ابن حزم رحمه الله: «اتفق جميع أهل السُّنَّة، وجميع المرجئة، وجميع الشيعة، وجميع الخوارج على وجوب الإمامة، وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل؛ يقيم فيهم أحكام الله عزّ وجل، ويسوسهم بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حاشا النجدات من الخوارج؛ فإنهم قالوا: لا يلزم الناس فرض الإمامة، وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم، وهذه فرقة ما نرى بقي منهم أحد، وهم المنسوبون إلى نجدة بن الحنفي القائم باليمامة»[4].
وقال أبو عبد الله القرطبي: «ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة، ولا بين الأئمة، إلا ما روي عن الأصم، حيث كان عن الشريعة أصم»[5].
4 ـ خالف ضرار بن عمرو الكوفي في تقديم إمامة القرشي إذا اجتمع مع غيره، فقال: إذا اجتمع قرشي وحبشي كلاهما قائم بالكتاب والسُّنَّة قدم الحبشي؛ لأنه أسهل لخلعه إذا حاد، وهذا مخالف للأحاديث الصحيحة الواردة في وجوب تقديم القرشي على غيره، ومخالف لإجماع الصحابة، ومن بعدهم، وقد تقدم تقرير ذلك.
[1] انظر: عقائد الشيعة الإمامية الاثني عشرية الرافضة لأشرف الجيزاوي (59) [دار اليقين، ط1، 1430هـ].
[2] منهاج السُّنَّة لابن تيمية (1/75 ـ 76).
[3] انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/177 ـ 178) [دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ].
[4] الفصل في الملل والنحل (4/149).
[5] تفسير القرطبي (1/395).
1 ـ «الأحكام السلطانية»، للقاضي أبي يعلى.
2 ـ «الأحكام السلطانية»، للماوردي.
3 ـ «المعتمد في أصول الدين»، للقاضي أبي يعلى.
4 ـ «الفصل في الملل والأهواء والنحل»، لابن حزم.
5 ـ «منهاج السُّنَّة النبوية»، لابن تيمية.
6 ـ «الآداب الشرعية»، لابن مفلح.
7 ـ «معاملة الحكام في ضوء الكتاب السُّنَّة»، لعبد السلام برجس.
8 ـ «ضوابط معاملة الحكام عند أهل السُّنَّة والجماعة»، لخالد ضحوي الظفيري.