الوعيد : أصل مادتها الواو والعين والدال، وهي كلمة صحيحة تدل على ترجية بقول. والوعيد والتوعد: بمعنى التهدُّد.
والوعد أعم من الوعيد، فالوعد قد يطلق في الخير والشر، فيقال: وعدتُ الرجل خيرًا وشرًّا، وإن كان الغالب استخدامه في الخير. أما الوعيد فهو في الشر، يقال: أوعدت الرجل، ومنه قول كعب بن زهير رضي الله عنه في قصيدته المشهورة (بانت سعاد):
نبِّئتُ أن رسول الله أوعدني
والعفو عند رسول الله مأمول
قال ابن سيده: «وفي الخير: الوعدُ والعِدَة، وفي الشر: الإيعاد والوعيد».
وأنشدوا لعامر بن الطفيل:
وإني وإن أوعدته أو وعدته
لأخلف إيعادي وأنجز موعدي[1]
وقد جاء في القرآن: الوعد المطلق بمعنى الوعيد، حيث قال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الحج: 47] .
[1] انظر: مقاييس اللغة (6/125)، والدر النقي لابن عبد الهادي (2/573) [محقق في رسالة دكتوراه بجامعة أم القرى]، ولسان العرب (3/463)، والقول السديد في خلف الوعيد لملا علي قاري (19) [دار الصحابة، ط1، 1412هـ]، وروح المعاني للآلوسي (2/3/40) [دار الفكر، 1408هـ].
إن الناظر في النصوص يجد أن الوعيد لأهل المعاصي على نوعين:
النوع الأول: وعيد عام مطلق، وهذا النوع من الوعيد هو وعيد الله عزّ وجل لأهل معصيته من الكفار والمشركين بالعذاب الدنيوي والأخروي، وذلك مثل قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ *} [البقرة] ، وقوله تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ *} [آل عمران] ، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ *} [المائدة] .
وهذا الوعيد المتعلق بالكفار نافذ فيهم بسبب كفرهم؛ لأن النصوص صريحة بإنفاذ ذلك فيهم، ومنها قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ *} [المائدة] ، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ *وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ *} [فاطر] ، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ *خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ *} [البقرة] ، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ *إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ *} [آل عمران] .
النوع الثاني: الوعيد على أعمال معينة دون الشرك والكفر، وذلك مثل قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا *} [النساء] ، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا *} [النساء] ، وقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ *} [البقرة] ، وهذا النوع من الوعيد إن كان صاحبه من الكفار ومات على كفره فإن الوعيد نافذ فيه، أما إن كان من أهل التوحيد والإسلام فهو تحت المشيئة إن شاء الله عفا عنه وإن شاء عاقبه، وسيأتي مزيد إيضاح لذلك عند الحديث عن نصوص الوعيد.
مذهب أهل السُّنَّة في الوعيد يتحصَّل بما يلي:
أولاً: تحقق وعيد الكفار وإنفاذه، فقد وقع اتفاق المسلمين على إنفاذه، فلا يجوز خلف الوعيد في حق الكفار إجماعًا[1].
ثانيًا: وأما وعيد الفساق (أصحاب الكبائر من المسلمين)، فإن أهل السُّنَّة يقطعون بإنفاذ الوعيد في حقهم في الجملة؛ أي: يقطعون بأن من أصحاب الكبائر من المسلمين من يدخل النار ما شاء الله، ثم يخرج منها، دون أن يضيفوا ذلك إلى شخص معين من أهل الكبائر، وهؤلاء إذا دخلوا النار فإنهم لا يخلدون فيها أبدًا، بل يمكثون ما شاء الله، ثم يخرجون منها.
ثالثًا: كما يقطع أهل السُّنَّة أن من أهل الكبائر من لا يدخل النار، بل يعفو الله عنهم[2] بأسباب، من الشفاعة، أو المصائب المكفرة، أو رحمة أرحم الراحمين أو غير ذلك. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فأهل السُّنَّة والجماعة لا يوجبون العذاب في حق كل من أتى كبيرة، ولا يشهدون لمسلم بعينه بالنار لأجل كبيرة واحدة عملها، بل يجوز عندهم أن صاحب الكبيرة يدخله الله الجنة بلا عذاب، إما لحسنات تمحو كبيرته منه، أو من غيره، وإما لمصائب كفَّرتها عنه، وإما لدعاء مستجاب منه أو من غيره فيه، وإما لغير ذلك»[3].
[1] انظر: القول السديد في خلف الوعيد، لملا علي قاري (24، 28).
[2] ويذكر في هذه النقطة ما أثر عن ابن عباس رضي الله عنهما من القطع بإنفاذ وعيد القتل العمد العدوان، ووافقه على ذلك جماعة من السلف، كزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وعبيد بن عمير. انظر: تفسير ابن كثير (1/536)، فتح الباري لابن حجر (8/496). ومع أن قول الجماهير من أهل السُّنَّة على خلاف ذلك، وأن للقاتل توبة، إلا أنه مما يلزم الإشارة إليه أن هؤلاء الذين قطعوا بإنفاذ الوعيد في حق القاتل العمد ليسوا موافقين للوعيدية من الخوارج في قولهم، فإن هذا الفريق من أهل السُّنَّة لا يقول بخلود القاتل في النار، بل يجزمون بخروج من دخل النار من الموحدين، لتواتر الأحاديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بخروج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، فإن «النزاع في التوبة غير النزاع في التخليد، وذلك أن القتل يتعلق به حق آدمي، فلهذا حصل فيه النزاع» مجموع الفتاوى لابن تيمية (7/222، 223)، وانظر: مدارج السالكين (1/394) [دار الكتاب العربي، ط2]، وتفسير ابن كثير (1/537) [مكتبة دار التراث]، والوعد الأخروي (2/531، 532) [دار عالم الفوائد، ط1].
[3] مجموع الفتاوى لابن تيمية (12/480) (16/19). وينظر: القول السديد في خلف الوعيد لملا علي قاري (33).
سبق ذكر الأدلة على الوعيد للكفار، وكذلك بعض النصوص الدالة على الوعيد على أعمال معينة، ويدخل فيها من وقع في ذلك من المسلمين، وسبق بيان أن وعيد الكفار نافذ فيهم، أما أهل الإسلام والتوحيد فإن قول أهل السُّنَّة أنهم تحت المشيئة، وسنذكر الأدلة على ذلك، ومنها:
قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] . قال ابن عمر رضي الله عنه عن هذه الآية: «كنا نوجب لأهل الكبائر النار حتى نزلت هذه الآية على النبي صلّى الله عليه وسلّم: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ، فنهانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن نوجب لأحد من أهل الدين النار»[1]. وعنه أيضًا قال: «ما زلنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من فيِّ نبيِّنا صلّى الله عليه وسلّم يقول: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] قال: «إني أخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة» ، فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا»[2]، وفي رواية قال: «ثم نطقنا بعد ورجونا»[3].
وحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحوله عصابة من أصحابه: «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه» فبايعناه على ذلك[4].
وكذلك النصوص التي تدل على إخراج أهل التوحيد من النار، كأحاديث الشفاعة ومنها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وفيه: «فأقول: يا رب، أمتي أمتي ، فيقول: انطلق فأُخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، فأنطلق فأفعل»[5]، وعن أنس رضي الله عنه، عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن ذرة من خير»[6].
وكذلك إذا قوبلت بأحاديث الوعد كحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاكٍّ فيهما، إلا دخل الجنة»[7].
وحديث عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من مات وهو يعلم أنّه لا إله إلا الله، دخل الجنة»[8].
وحديث عتبان بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله، وأنّي رسول الله، فيدخل النّار، أو تطعمه»[9].
فهذه النصوص بمجموعها استدل بها أهل السُّنَّة على أن مرتكب الكبيرة من أهل الإسلام، إذا مات ولم يتب فهو تحت المشيئة، فإن شاء الله عاقبه، وإن شاء عفا عنه، والخلود في النار مدفوع عنه بالتوحيد، فإن دخل النار فإنه لا يخلد فيها، ولا بد أن يخرج منها برحمة الله عزّ وجل، ولا يخلد في النار إلا الكفار. قال السفاريني: «فدل الكتاب والسُّنَّة واتفاق الفرقة الناجية على أنه لا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد»[10]. وقال ابن بطال: «أجمع الفقهاء وأهل السُّنَّة أن من قتل نفسه لا يخرج بذلك من الإسلام، وأنه يصلى عليه وإثمه عليه ويدفن في مقابر المسلمين»[11].
كما ذكر أهل العلم أن الوعيد الوارد على بعض الكبائر له موانع تمنع من إنفاذه، ومنها[12]:
1 ـ التوبة، وهي أمر متفق عليه بين المسلمين، حتى الوعيدية منهم.
قال الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] .
وقال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11] .
والتوبة تمحو جميع السيئات، وليس شيء يغفر جميع الذنوب إلا التوبة، فإن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. وأما التوبة فإنه قال تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ *} [الزمر] ، وهذه لمن تاب.
2 ـ الاستغفار.
3 ـ الأعمال الصالحة، فإن الله تعالى يقول: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] . وأعظم الأعمال الصالحة: توحيد الله، كما في الصحيح: «لن يوافي عبد يوم القيامة، يقول: لا إله إلا الله، يبتغي به وجه الله، إلا حرم الله عليه النار» [13].
4 ـ دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم واستغفاره في حياته وبعد مماته كشفاعته يوم القيامة، وكذا شفاعة غير النبي صلّى الله عليه وسلّم من المؤمنين.
5 ـ دعاء المؤمنين لصاحب الإثم واستغفارهم له.
6 ـ ما يفعل بعد الموت من عمل صالح يهدى له، مثل من يتصدق عنه ويحج عنه ويصوم عنه، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»[14].
7 ـ المصائب الدنيوية التي يكفر الله بها الخطايا، كما في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما يصيب المؤمن من وصب، ولا نصب، ولا سقم، ولا حزن حتى الهمّ يهمه، إلا كفر به من سيئاته»[15].
8 ـ إقامة الحدود في الدنيا. ودل على ذلك حديث عبادة بن الصامت السابق، وفيه: «ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه»[16].
9 ـ ما يبتلى به المؤمن في قبره من الضغطة وفتنة الملكين.
10 ـ ما يحصل له في الآخرة من كرب أهوال يوم القيامة.
11 ـ ما ثبت في الصحيح أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وُقِفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هُذِّبوا ونقوا أُذن لهم في دخول الجنة[17].
12 ـ رحمة الله تعالى وعفوه عن الذنوب، دون ذنب الشرك، بلا سبب من العباد، كما قال: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ، والمراد بهذه الآية من لم يتب من الذنب؛ لأن التوبة سبب لمغفرة الذنوب جميعًا، حتى الشرك، فالتائب لا فرق في حقه بين الشرك وغيره، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا *يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً *إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا *} [الفرقان] ، وعلى التوبة حمل قوله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ *} [الزمر] .
فمغفرة الذنوب جميعًا بالتوبة أمر لم يعلقه الله تعالى بالمشيئة في النصوص، وهذا يدل على أن المغفرة المعلقة بالمشيئة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ، هي مغفرة لذنوب دون الشرك لم يتب منها صاحبها، إن شاء الله غفرها وإن شاء لم يغفرها، وعلى هذا المعنى اتفق سلف الأمة وسائر أهل السُّنَّة[18].
[1] أخرجه ابن أبي عاصم في السُّنَّة (2/471، 472) [المكتب الإسلامي، ط1]، وجوَّد إسناده الألباني في ظلال الجنة.
[2] أخرجه ابن أبي عاصم في السُّنَّة (2/398) [المكتب الإسلامي، ط1]، والبزار (12/186) [مكتبة العلوم والحكم، ط1]، وغيرهما، وحسنه الألباني في ظلال الجنة.
[3] أخرجها أبو يعلى في مسنده (10/185) [دار المأمون، ط1]، وابن الضريس في فضائل القرآن (28) [دار الفكر، ط1]، وقال الهيثمي في المجمع (7/5) [مكتبة القدسي]: رجاله رجال الصحيح، غير حرب بن سريج، وهو ثقة. وصحح سنده السيوطي في الدر المنثور (2/557) [دار الفكر].
[4] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 18)، ومسلم (كتاب الحدود، رقم 1709).
[5] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7510)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 193).
[6] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 44)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 193).
[7] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 27).
[8] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 26).
[9] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 33).
[10] لوامع الأنوار البهية (1/370).
[11] التوضيح لشرح الجامع الصحيح (10/138) [دار النوادر، دمشق، ط1، 1429هـ].
[12] انظر: منهاج السُّنَّة (6/205 ـ 239)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (7/487 ـ 501)، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (367 ـ 371)، ومدارج السالكين (1/396، 397)، والوعيد الأخروي (2/534).
[13] أخرجه البخاري (كتاب الرقاق، رقم 6423).
[14] أخرجه مسلم (كتاب الهبات، رقم 1631).
[15] أخرجه مسلم (كتاب البر والصلة والآداب، رقم 2573).
[16] تقدم تخريجه.
[17] أخرجه البخاري (كتاب الرقاق، رقم 6535).
[18] انظر: مجموع الفتاوى (4/475) (7/484، 485)، ومدارج السالكين (1/394)، وشرح الطحاوية (419).
قال يحيى بن معاذ: «الوعد والوعيد حق. فالوعد حق العباد على الله، ضمن لهم إذا فعلوا كذا أن يعطيهم كذا، ومن أولى بالوفاء من الله. الوعيد حقه على العباد، قال: لا تفعلوا كذا فأعذبكم، ففعلوا فإن شاء عفا، وإن شاء أخذ؛ لأنه حقه، وأولاهما بربنا تبارك وتعالى العفو والكرم إنه غفور رحيم»[1].
قال ابن أبي زمنين: «ومن قول أهل السُّنَّة أن الوعد فضل الله عزّ وجل ونعمته، والوعيد عدله وعقوبته، وأنه جعل الجنة دار المطيعين بلا استثناء، وجهنم دار الكافرين بلا استثناء، وأرجى لمشيئته من المؤمنين العاصين من شاء، والله يحكم لا معقب لحكمه ولا يسأل عن فعله...فوعده تبارك وتعالى للمؤمنين المطيعين صدق، ووعيده للكفار والمشركين حق، ومن مات من المؤمنين مصرًّا على ذنبه فهو في مشيئته وخياره»[2].
وقال يحيى العمراني الشافعي: «ومن أوعده عذابًا على ذنب أذنبه، فإن الوعيد حق له، وترك الوفاء بالوعيد كرم وجود، وربنا موصوف بالجود والكرم، وكيف لا يحسن من الله العفو عن الذنب وقد أمرنا به وحضَّنا عليه ومدح فاعله»[3].
[1] الحجة في بيان المحجة (2/74) [دار الراية].
[2] أصول السُّنَّة لابن أبي زَمَنِين (256) [مكتبة الغرباء، المدينة، السعودية ط1، 1415هـ].
[3] الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار للعمراني اليمني الشافعي (3/376) [أضواء السلف، ط1].
نصوص الوعيد: نصوص الوعيد الواردة في الشرع لأهل المعاصي سبق بيان أنها على نوعين:
الأول: متعلق بوعيد الكفار، وهذا نافذ فيهم وعقوبتهم به محققة لا محالة لكل من مات كافرًا أو مشركًا، وليس بين أهل العلم خلاف في هذا.
الثاني: وهي مجال الحديث هنا، وهي نصوص الوعيد التي ذكرت على أعمال قد يفعلها أناس من أهل الإسلام، وذلك مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا *} [النساء] ، وحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر»[1] ، وحديث معقل بن يسار رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة» [2]. ومثلها الأحاديث التي وردت تنفي الإيمان عن فاعل بعض المعاصي وكذلك الأحاديث التي تنفي أن يكون من النبي صلّى الله عليه وسلّم كحديث عَبْدِ الله بن مسعود رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «ليس منا من ضرب الخدود، وشقَّ الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية»[3].
فهذه الأحاديث يؤمن بها أهل السُّنَّة ويقولون: إن معناها يجب أن يتوافق مع سائر النصوص الأخرى الشرعية، والتي دلت على أن الله عزّ وجل قد يعفو عن أهل التوحيد، مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] . قال ابن عمر رضي الله عنهما عن هذه الآية: «كنا نوجب لأهل الكبائر النار حتى نزلت هذه الآية على النبي صلّى الله عليه وسلّم: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ، فنهانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن نوجب لأحد من أهل الدين النار»[4]. وعنه أيضًا قال: «ما زلنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من فيِّ نبينا صلّى الله عليه وسلّم يقول: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] قال: «إني أخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة» ، فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا»[5]، وفي رواية قال: «ثم نطقنا بعد ورجونا»[6].
وحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحوله عصابة من أصحابه: «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه» فبايعناه على ذلك[7].
وكذلك النصوص التي تدل على إخراج أهل التوحيد من النار، كأحاديث الشفاعة، ومنها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، ومما جاء فيه قوله صلّى الله عليه وسلّم بعد أن يؤذن له صلّى الله عليه وسلّم بالشفاعة: «فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقول: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، فأنطلق فأفعل »[8]. وعن أنس رضي الله عنه، عن النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن بُرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن ذرة من خير»[9].
وكذلك إذا قوبلت بأحاديث الوعد كحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاكٍّ فيهما، إلا دخل الجنة»[10].
وحديث عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من مات وهو يعلم أنّه لا إله إلا الله، دخل الجنة»[11].
وحديث عتبان بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله، وأنّي رسول الله، فيدخل النّار، أو تطعمه»[12].
فهذه النصوص بمجموعها استدل بها أهل السُّنَّة على أن مرتكب الكبيرة من أهل الإسلام، إذا مات ولم يتب فهو تحت المشيئة، فإن شاء الله عاقبه، وإن شاء عفا عنه، والخلود في النار مدفوع عنه بالتوحيد، فإن دخل النار فإنه لا يخلد فيها، ولا بد أن يخرج منها برحمة الله عزّ وجل، ولا يخلد في النار إلا الكفار. قال السفاريني: «فدل الكتاب والسُّنَّة واتفاق الفرقة الناجية على أنه لا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد»[13]. وقال ابن بطال: «أجمع الفقهاء وأهل السُّنَّة أن من قتل نفسه لا يخرج بذلك من الإسلام، وأنه يصلى عليه وإثمه عليه ويدفن في مقابر المسلمين»[14].
كما أن المعيَّن من أهل التوحيد لا يقطع له بمضمون ذلك الوعيد وإنما يقولون بمضمونه جملة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق، لكن الشخص المعيَّن لا يشهد عليه بالوعيد، فلا يشهد لمعيَّن من أهل القبلة بالنار؛ لجواز أن لا يلحقه الوعيد؛ لفوات شرط أو ثبوت مانع، فقد لا يكون التحريم بلغه، وقد يتوب من فعل المحرم وقد تكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة ذلك المحرم، وقد يبتلى بمصائب تكفر عنه، وقد يشفع فيه شفيع مطاع. وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها، قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولكن لم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهدًا في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائنًا ما كان، سواء كان في المسائل النظرية أو العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم»[15].
ومن أهل العلم من يقول بعدم جواز إطلاق إخلاف الوعيد، ويصرح بأن الخلف على الله تعالى غير جائز، وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ *} [آل عمران] ، وقال: {وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ *} [الرعد] ، وقال: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الحج] ؛ أي: إيعاده بإجماع المفسرين[16]، وقال تعالى: {قَالَ لاَ تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ *مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ *} [ق] .
وعليه؛ فيقال: الخلف في الوعيد لا يجوز في حق الكافر إجماعًا.
وأما في حق عصاة المسلمين، فلم يطلقوا القول بإخلاف الوعيد، بل صرح بعضهم بعموم امتناعه، ولكن قالوا: إن النص قد أثبت العقوبة للعصاة، ووقوع هذه العقوبة على المعيَّن متوقف على تحقق الشروط، وانتفاء الموانع، فإن العذاب قد يتخلف عن المعيَّن من العصاة لأسباب، وهذه الشروط والموانع قد جاءت في النص، فعدم وقوع العذاب على المعيَّن ليس إخلافًا للوعد، بل هو تحقيق للوعد الوارد في نصوص أخرى، فنصوص الوعيد للفساق مشروطة كلها بعدم العفو.
قال ابن الصلاح: «لا يقع أصلاً شيء من أخباره تعالى على خلاف مخبَره، ومن ذلك الوعد، وأما الوعيد فالعفو متطرق إليه، وليس ذلك خُلْفًا في خبره فيه، فإن الوعيد مقيد من حيث المعنى بحالة عدم العفو، فإذا قال: «لأعذبن الظالم» مثلاً فتقديره: إن لم أعف عنه، أو إلى أن أسامحه أو أتكرم عليه، ونحو هذا، وهذا القيد عرف من عادة العرب في إيعاداتها، ومن أخبار الشارع عن ذلك على الجملة والعموم»[17].
وقال الملا علي قاري في كلامه على آية: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] : «عدم تجويز خُلف الوعيد في الكفار لما يلزم منه الخُلف في الأخبار، وهذه العلة بعينها موجودة فيما عدا الشرك، فيتعين أن لا يجوز الخلف فيه أيضًا، إلا أن قوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} يفيد التقييد بالمشيئة، فلا يتصور الخلف فيه أيضًا، فإنه تعالى إذا قال: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وحملناه على ما عدا الكفر، وغفر لبعض عباده من عصاة المؤمنين، وعذب بعضهم، كيف يصح أن يقال: خالف في وعيده، والحال أن وعيده مقيد بالمشيئة، لا يقال: يجوز أن يكون خُلف الوعيد في حق من لم يشأ الله العفو عنه، فإنا نقول: هذا باطل لما طبق عليه أهل السُّنَّة من أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن»[18].
هذه عمومًا تقعيدات أهل السُّنَّة في نصوص الوعيد، أما تفصيل أقوالهم في تلك النصوص فهي على النحو التالي:
النصوص التي ورد فيها الوعيد خمسة أنواع نذكر كل نوع منها ونبين كلام أهل العلم في معناه:
النوع الأول: نصوص نفت الإيمان عن مرتكبي بعض الذنوب:
هناك نصوص عديدة نفت الإيمان عن فاعل بعض الكبائر ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة، يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن» [19]، وعن شريح الخزاعي رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن» قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: «الذي لا يأمن جاره بوائقه»[20] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا زنى العبد خرج منه الإيمان، وكان كالظّلة، فإذا انقلع منها رجع إليه الإيمان»[21].
وقد اختلف العلماء في معنى هذه الأحاديث إلى أقوال عدة، وذلك بعد أن أجمعوا على أن المعاصي لا يخرج صاحبها من الدين ولا يكون بها كافرًا، خلافًا للخوارج والمعتزلة[22].
القول الأول: إن المراد بذلك أن الإيمان يرتفع عنه حال المعصية، ثم إذا أقلع وتاب رجع إليه إيمانه، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق.
وممن قال بهذا ابن عباس رضي الله عنهما. فقد روي عنه أنه كان يقول لغلمانه: «من أراد منكم الباءة زوجناه، لا يزني منكم زان إلا نزع منه نور الإيمان، فإن شاء أن يرده عليه رده عليه، وإن شاء أن يمنعه منعه»[23].
وبه قال أبو هريرة رضي الله عنه أيضًا فقد روي عنه أنه قال: «الإيمان نزه، فمن زنى فارقه الإيمان، فإن لام نفسه وراجع رجع إليه الإيمان»[24].
وبه قال عطاء وطاووس والإمام أحمد رحمهم الله [25]، ومن قال بهذا القول لا يعني أن إيمان العاصي زال عنه بالكلية بحيث خرج من الدين بالكلية، وإنما المقصود زال عنه نوره الذي يدفعه للخير ويحجز عنه الشر، وبقي له من الإيمان اسم لا يدفع عنه العقوبة يوم القيامة.
قال ابن تيمية في حديث أبي هريرة: «قوله: «خرج منه الإيمان فكان فوق رأسه كالظلة» دليل على أن الإيمان لا يفارقه بالكلية، فإن الظلة تظل صاحبها وهي متعلقة ومرتبطة به نوع ارتباط»[26].
القول الثاني: إنه بارتكابه للكبائر يخرج من الإيمان إلى الإسلام، وذلك أن الإيمان مرتبة عالية والإسلام دونها، فارتكابه للذنوب ووقوعه في القبائح يتنافى مع الرتبة العالية في الدين، وهي الإيمان، فيخرج منها إلى المرتبة التي دونها وهي الإسلام، ولا يعني ذلك أنه لم يبق في قلبه شيء من الإيمان، وإنما معه إيمان ينجيه من الخلود في النار، وقد قال بهذا أبو جعفر الباقر وهو قول للإمام أحمد[27].
القول الثالث: أن المنفي في هذه الأحاديث هو الكمال الواجب الذي يعاقب تاركه، قال أبو عبيد القاسم بن السلام رحمه الله: «فكلما خالطت هذه المعاصي هذا الإيمان المنعوت تعبيرها[28]، قيل: ليس هذا من الشرائط التي أخذها الله على المؤمنين، ولا الأمارات التي يعرف بها أنه الإيمان، فنفت عنهم حينئذ حقيقته ولم يزل عنهم اسمه. فإن قال قائل: كيف يجوز أن يقال: ليس بمؤمن، واسم الإيمان غير زائل عنه؟ قيل: هذا كلام العرب المستفيض عندنا غير المستنكر في إزالة العمل عن عامله إذا كان عمله على غير حقيقته، ألا ترى أنهم يقولون للصانع إذا كان ليس بمحكم لعمله: ما صنعت شيئًا ولا عملت عملاً، وإنما وقع معناها هاهنا على نفي التجويد لا على الصنعة نفسها، فهو عندهم عامل بالاسم وغير عامل في الإتقان»[29].
وهو قول الإمام أحمد، وأخذ به القاضي أبو يعلى، ورجحه بقوة المروزي، وقال به النووي، وابن عبد البر، وابن تيمية، والسفاريني[30].
القول الرابع: إن أحاديث الوعيد كلها تمر كما جاءت ولا تفسر، وأنها على التأكيد والتشديد.
وممن روي عنه ذلك الزهري، حيث سئل عن قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ليس منا من لطم الخدود» وما أشبهه، فأطرق ساعة، ثم رفع رأسه فقال: «من الله عزّ وجل العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم»[31].
وهو قول للإمام أحمد، وعزاه ابن تيمية إلى عامة علماء السلف أنهم يقرون هذه الأحاديث ويمرونها كما جاءت، ويكرهون أن تتأول تأويلات تخرجها عن مقصود الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وكذلك عزا ابن حجر إلى كثير من السلف إطلاق لفظ الأخبار في الوعيد، وعدم التعرض لتأويله ليكون أبلغ في الزجر[32].
القول الخامس: قول من يرى أن أحاديث الوعيد عمومًا خرجت مخرج التغليظ والمبالغة في الزجر عن المعاصي، وعزا هذا القول ابن حجر إلى الطيبي، وقد استنكر هذا القول أبو عبيد وقال عنه: أفظع ما تأول على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، أن جعلوا الخبر عن الله وعن دينه وعيدًا لا حقيقة له، وهذا يؤول إلى إبطال العقاب؛ لأنه إن أمكن ذلك في واحد منها كان ممكنًا في العقوبات كلها[33].
القول السادس: أن المراد به مستحل الزنا وشرب الخمر، وأن المنفي في ذلك هو الإيمان بالكلية[34].
فهذه أشهر الأقوال في معنى هذه الأحاديث، وظاهر منها أن الأقوال الأربعة الأولى متقاربة، وهي تؤكد أن الكبيرة والذنب عمومًا يؤثر على الإيمان، إما بنفي كماله، أو نوره وما يكون به خضوع لهيبة الله وجلاله، أو بإخراجه من دائرة أهل الإيمان إلى مرتبة أدنى في الدين وهي الإسلام، وإما أن يترك اللفظ الشرعي كما ورد ولا يؤول؛ ليكون أبلغ في الزجر، مع اعتقاد أن مرتكب الكبيرة لا يكفر بذلك.
النوع الثاني: النصوص التي ورد فيها وصف مرتكب بعض الذنوب بالكفر:
وردت نصوص تصف مرتكبي بعض الذنوب بالكفر، فمن ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه»[35].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا ترغبوا عن آبائكم، فمن رغب عن أبيه فهو كُفر»[36].
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر»[37].
فهذه الأحاديث ونحوها عند أهل السُّنَّة لا تدل على أن مرتكب ما ذكر فيها من ذنوب يكون كافرًا خارجًا من الإسلام، وذلك أن الله تبارك وتعالى قد وصف بعض مرتكبي الذنوب بالإيمان، ولم يكفرهم، كما قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] ، فسماهم مؤمنين مع وجود الاقتتال، وكذلك فإن الله تعالى قد أوجب الجلد على القاذف، والقطع على السارق، وجلد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الزاني البكر وشارب الخمر، فلو كان هؤلاء كفارًا بارتكابهم للكبائر لوجب قتلهم لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة»[38].
وأجمع الصحابة على عدم كفر مرتكبي الذنوب، فقد روى أبو عبيد عن أبي سفيان أنه قال: «جاورت مع جابر بن عبد الله بمكة ستة أشهر فسأله رجل: هل كنتم تسمون أحدًا من أهل القبلة كافرًا؟ فقال: معاذ الله! قال: فهل تسمونه مشركًا؟ قال: لا»[39]، فلهذا صرح أصحاب كتب العقائد بذلك في عقائدهم فقال الطحاوي رحمه الله: «ولا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحلّه»[40].
وقد أجاب العلماء عن معنى الكفر الوارد في الأحاديث السابقة بعدة أجوبة:
الجواب الأول: أن الفعل الوارد فيه لفظ الكفر إنما ذكر هكذا؛ لأنه يؤول بفاعله إلى الكفر، وذلك لأن المعاصي كما قالوا: بريد الكفر، ويخشى على المكثر منها أن يكون عاقبة شؤمها المصير إلى الكفر.
الجواب الثاني: أنه أطلق عليه ذلك من باب المبالغة في التحذير والزجر عن الفعل[41].
الجواب الثالث: أنه أطلق عليها ذلك؛ لأنها من الأخلاق والسُّنن التي إنما يتلبس بها الكفار والمشركون.
الجواب الرابع: أنه محمول على المستحل لذلك.
الجواب الخامس: أن المراد به الكفر، إلا أنه ليس الكفر المخرج من الملة، وإنما هو كفر دون كفر، وهو من الكفر العملي الذي لا يخرج صاحبه من الإسلام.
وهذا الأخير أرجحها؛ لأن الأدلة قد دلت على أن لفظ الكفر ومثله الظلم والشرك قد ورد في الشرع على معنيين أكبر وأصغر، فمما ورد في الظلم ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه لما نزل قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] شق ذلك على أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله أيُّنا لا يظلم نفسه؟ قال: «ليس ذلك إنّما هو الشّرك، ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه وهو يعظه: {يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ *} [لقمان] »[42].
فهنا ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن للظلم معنيين: ظلم أكبر: وهو الشرك، وظلم أصغر: وهو ظلم العبد لنفسه بالذنوب.
ومما ورد في الشرك ما روى محمود بن لبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشّرك الأصغر، قالوا: وما الشِّرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرّياء ، يقول الله عزّ وجل لهم يوم القيامة إذا جزي النّاس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء»[43].
وعن شدّاد بن أوس رضي الله عنه قال: «كنّا نعد على عهد رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم أنّ الرياء الشرك الأصغر»[44]، فهنا بيَّن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن من الشرك نوع هو أصغر، أما الشرك الأكبر فهو عبادة غير الله.
ومثل ذلك في الكفر أيضًا، فقد ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أُريت النّار فإذا أكثر أهلها النساء، يكفرن» قيل: أيكفرن بالله؟ قال: «يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهنّ الدهر، ثم رأت منك شيئًا، قالت: ما رأيت منك خيرًا قطّ»[45].
فهنا بيَّن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن الكفر يرد شرعًا على غير الكفر بالله وهو دونه في الحكم.
ومثله ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله عزّ وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ *} [المائدة] قال: «هي به كفر، وليس كفرًا بالله وملائكته وكتبه ورسله»[46]. وفي رواية أنه قال: «كفر دون كفر»[47]. ومثله ورد عن عطاء وطاووس وغيره[48]. فهذا يدل على أن الشارع أطلق الكفر على ما دون الكفر الأكبر، وهو ما يسميه العلماء: كفرًا دون كفر.
فيكون المقصود والمعنى بما ورد في الشرع إطلاق اسم الكفر عليه من المعاصي التي لا توجب كفرًا مخرجًا من الملة هو الكفر العملي، أو كفرًا دون كفر، وهذا أرجح الأقوال في ذلك وهو الذي عليه كثير من العلماء[49].
ثالثًا: النصوص التي ورد فيها قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس منا»:
وردت نصوص عن النبي صلّى الله عليه وسلّم يصف فيها مرتكب بعض الذنوب: بأنه ليس منه، ومن هذه النصوص:
حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهليّة»[50].
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من حمل علينا السّلاح فليس منّا، ومن غشّنا فليس منّا»[51].
فهذه النصوص ونحوها للعلماء رحمهم الله أقوال في معناها:
القول الأول: أنه ليس على ديننا الكامل، أي أنه خرج من فرع من فروع الدين، وإن كان معه أصله، حكى هذا القول ابن العربي[52].
القول الثاني: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بريء من فاعل ذلك، فيكون كأنه توعده بأنه لا يدخل في شفاعته مثلاً، وهذا تفسير ابن حجر حملاً لحديث: «ليس منا» على حديث: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بريء من الصّالقة والحالقة والشّاقّة»[53]
القول الثالث: أن معناه: ليس من أهل الإيمان المستحقين للثواب بلا عقاب، ولهم الموالاة المطلقة والمحبة المطلقة، وإنما هو بارتكابه لذلك الفعل نقص إيمانه وصار ممن يستحق العقوبة[54].
القول الرابع: أن هذا من أحاديث الوعيد التي يجب أن نؤمن بما ورد فيها، وتمرّ كما جاءت ولا يتكلم في تأويلها؛ حتى يكون ذلك أبلغ في الزجر، وهذا مروي عن الزهري[55].
وعلى هذا القول الإمام أحمد، فقد روى الخلال عنه أنه سئل عن قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من غشنا فليس منا...» قال: «على التأكيد والتشديد، ولا أكفر إلا بترك الصلاة»[56].
قال ابن حجر: والأولى عند كثير من السلف إطلاق لفظ الخبر من غير تعرض لتأويله؛ ليكون أبلغ في الزجر[57]
القول الخامس: أن معناها أنه ليس من المطيعين لنا، ولا من المقتدين بنا، ولا من المحافظين على شرائعنا، وقال بهذا أبو عبيد[58].
القول السادس: أنها خرجت مخرج التغليظ[59].
القول السابع: أن المعنى: ليس مثلنا، واستنكر هذا عبد الرحمن بن مهدي والإمام أحمد وغيرهم، قال عبد الرحمن بن مهدي مستنكرًا له: «لو أن رجلاً عمل بكل حسنة أكان يكون مثل النبي صلّى الله عليه وسلّم؟!»[60].
فهذه الأقوال فيها تقارب في بيان معنى الحديث، والمستنكر فيها القولان الأخيران، وما عداهما فإن معناه وفحواه متقارب جدًّا، والواجب في ذلك إبطال المعنى الفاسد، وهو التكفير والإخراج من الدين، ثم إثبات اللفظ أو ما يدل عليه والتشديد فيه؛ ليكون ذلك أبلغ في زجر الفاعل عن الفعل، ونهيه عنه، والله أعلم.
النوع الرابع: نصوص ورد فيها تحريم الجنة.
وردت نصوص نبوية ورد فيها تحريم الجنة على من ارتكب بعض الكبائر، منها: حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه، أنّه سمع النّبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يدخل الجنّة قاطع»[61].
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يدخل الجنّة من لا يأمن جاره بوائقه»[62].
وحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر»[63].
وحديث معقل بن يسار رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيّته، إلا حرّم الله عليه الجنّة»[64].
وحديث أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النّار، وحرم عليه الجنّة» ، فقال له رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: «وإن قضيبًا من أراك»[65].
ولأهل العلم عدة أقوال في بيان معناها بعد اتفاقهم على أن من مات على التوحيد فإن مآله الجنة وإن عذب قبل ذلك، قال الطيبي: «فلا يخلد في النار أحد مات على التوحيد، ولو عمل من المعاصي ما عمل، كما أنه لا يدخل الجنة أحد مات على الكفر، ولو عمل من أعمال البر ما عمل. هذا هو المذهب الحق الذي تظاهرت أدلة الكتاب والسُّنَّة، وإجماع من يعتد به عليه، وتواترت بذلك نصوص تحصل العلم القطعي»[66]، وأجابوا عن هذه النصوص بعدة إجابات، منها:
الأول: أنه محمول على المستحلّ لذلك إذا مات عليه.
الثاني: أنه قد استحق النار ويجوز العفو عنه.
الثالث: أنه قد حرم عليه دخول الجنة أول وهلة مع الفائزين.
الرابع: هو على معنى الدعاء منه صلّى الله عليه وسلّم؛ أي: بوأه الله ذلك، والمعنى: أنَّ هذا جزاؤه وقد يعفى عنه[67].
النوع الخامس: نصوص توعَّدت أصحاب بعض الذنوب بالخلود في النار:
قد وردت نصوص في الشرع فيها الوعيد على بعض الأعمال بالخلود في النار أو تحريم الجنة، وذلك مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا *} [النساء] .
وقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ *} [البقرة] .
ومن الأحاديث حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن شرب سمًّا فقتل نفسه فهو يتحسَّاه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تردَّى من جبل فقتل نفسه فهو يتردَّى في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا»[68].
فهذه النصوص وردت بالعذاب والخلود في النار، وهي أشد نصوص الوعيد التي يدخل فيها أهل التوحيد، وأهل السُّنَّة يقولون: بأنه لا يخلد أحد من أهل التوحيد في النار بناء على نصوص أخرى قطعية.
يقول السفاريني رحمه الله: «فدلَّ الكتاب والسُّنَّة واتفاق الفرقة الناجية على أنه لا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد»[69]. وقال ابن بطال: «أجمع الفقهاء وأهل السُّنَّة أن من قتل نفسه لا يخرج بذلك من الإسلام، وأنه يصلى عليه وإثمه عليه ويدفن في مقابر المسلمين»[70].
وأما معنى هذه النصوص وما أشبهها فقد اختلف أهل العلم في بيان المقصود به إلى ستة أقوال:
الأول: أن الوعيد في حق المستحل لها؛ لأنه كافر، وأما من فعلها غير مستحل لها لم يلحقه وعيد الخلود، وإن لحقه وعيد الدخول. قال السفاريني معقبًا على هذا القول: وقد أنكر الإمام أحمد رحمه الله هذا القول، وقال: لو استحل ذلك ولم يفعله كان كافرًا، والنبي صلّى الله عليه وسلّم إنما قال من فعل كذا وكذا[71].
والثاني: أن المراد بالخلود طول المدة والإقامة المتطاولة لا حقيقة الدوام، كما يقال: خلَّد الله ملك السلطان.
والثالث: أن هذا جزاؤه، ولكن تكرم سبحانه وتعالى فأخبر أنه لا يخلد في النار من مات مسلمًا وأنه يخرج أهل التوحيد منها[72]، قال ابن كثير في آية النساء في القاتل: «قال أبو هريرة[73] وجماعة من السلف: هذا جزاؤه إن جازاه، ومعنى هذه الصيغة: أن هذا جزاؤه إن جوزي عليه، وكذا كل وعيد على ذنب، لكن قد يكون كذلك معارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه، على قولي أصحاب الموازنة أو الإحباط، وبتقدير دخول القاتل إلى النار، أما على قول ابن عباس[74] ومن وافقه أنه لا توبة له، أو على قول الجمهور حيث لا عمل له صالحًا ينجو به، فليس يخلد فيها أبدًا، بل الخلود هو المكث الطويل»[75].
والرابع: أن في الكلام إضمارًا، وهو: إن شاء، ومنهم من قال بإضمار الاستثناء، والتقدير: فجزاؤه كذلك إلا أن يعفو.
والخامس: أن هذا وعيد، وإخلاف الوعيد لا يذم بل يمدح، والله تعالى يجوز عليه إخلاف الوعيد، ولا يجوز عليه خلف الوعد، والفرق بينهما أن الوعيد حقه فإخلافه عفو وهبة وإسقاط، وذلك موجب كرمه وجوده وإحسانه، والوعد حق عليه أوجبه على نفسه والله لا يخلف الميعاد.
قالوا: ولهذا مدح به كعب بن زهير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيث يقول:
نُبِّئتُ أن رسول الله أوعدني
والعفو عند رسول الله مأمول
وتناظر في هذه المسألة أبو عمرو بن العلاء وعمرو بن عبيد، فقال عمرو بن عبيد: يا أبا عمرو لا يخلف الله وعده وقد قال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93] الآية، فقال له أبو عمرو: ويحك يا عمرو، من العُجمة أُتيت، إن العرب لا تعد إخلاف الوعيد ذمًّا بل جودًا وكرمًا، أما سمعت قول الشاعر:
ولا يرهبُ ابن العم ما عشتُ صولتي
ولا يختشي من سطوة المتهدد
وإني إن أوعدته أو وعدته
لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
والسادس: أن هذه النصوص وأمثالها مما ذكر فيه المقتضي للعقوبة، ولا يلزم من وجود مقتضي الحكم وجوده، فإن الحكم إنما يتم بوجود مقتضيه وانتفاء مانعه، وغاية هذه النصوص الإعلام بأن كذا سبب للعقوبة ومقتض لها، وقد قام الدليل على ذكر الموانع، فبعضها بالإجماع، وبعضها بالنص، فالتوبة مانع بالإجماع، والتوحيد مانع بالنصوص المتواترة التي لا مدفع لها، والحسنات العظيمة الماحية مانعة، والمصائب الكبار المكفرة مانعة، وإقامة الحدود في الدنيا مانع بالنص، ولا سبيل إلى تعطيل هذه النصوص فلا بد من إعمال النصوص من الجانبين.
ومن هاهنا قامت الموازنة بين الحسنات والسيئات اعتبارًا بمقتضي العقاب ومانعه وإعمالاً لأرجحها[76].
وبه يتبيَّن أن أهل السُّنَّة لا يقولون بإنفاذ الوعيد قطعًا ولا يردونه قطعًا وإنما يتأولون ما ورد من النصوص في ذلك تأويلاً يتوافق مع بقية النصوص التي تدل على أن أهل الإسلام تحت المشيئة على ما سبق تفصيله.
[1] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 91).
[2] أخرجه البخاري (كتاب الأحكام، 7150)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 142) واللفظ له.
[3] أخرجه البخاري (كتاب الجنائز، رقم 1297)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 103).
[4] تقدم تخريجه.
[5] تقدم تخريجه.
[6] تقدم تخريجه.
[7] تقدم تخريجه.
[8] تقدم تخريجه.
[9] تقدم تخريجه.
[10] تقدم تخريجه.
[11] تقدم تخريجه.
[12] تقدم تخريجه.
[13] لوامع الأنوار البهية (1/370).
[14] التوضيح لشرح الجامع الصحيح (10/138) [دار النوادر، دمشق، ط1، 1429هـ].
[15] مجموع الفتاوى لابن تيمية (23/346) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، 1416هـ].
[16] القول السديد في خلف الوعيد (29).
[17] فتاوى ابن الصلاح (160).
[18] القول السديد في خلف الوعيد (29، 30). وانظر نفس المرجع (33، 40 ـ 43، 46 ـ 55)، ومرقاة المفاتيح (5/312، 313) [دار الكتب العلمية، ط1، 1422هـ]، والوعد الأخروي للسعدي (1/228).
[19] أخرجه البخاري (كتاب المظالم والغصب، رقم 2475)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 57).
[20] أخرجه البخاري (كتاب الأدب، رقم 6016).
[21] أخرجه أبو داود (كتاب السُّنَّة، رقم 4690)، والحاكم (كتاب الإيمان، رقم 56) وصححه، وصححه العراقي أيضًا، كما في فيض القدير (1/367) [المكتبة التجارية الكبرى، ط1]، والألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 509).
[22] سيأتي ذكر قولهم في أقوال المخالفين.
[23] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (كتاب الإيمان والرؤيا، رقم 30352)، والآجري في الشريعة (2/596) [دار الوطن، ط2].
[24] أخرجه عبد الله بن أحمد في السُّنَّة (1/351) [دار ابن القيم، ط1]، والآجري في الشريعة (2/596) [دار الوطن، ط2].
[25] السُّنَّة للخلال (3/607). وانظر: مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى (319)، والتمهيد لابن عبد البر (9/255).
[26] مجموع الفتاوى (7/670 ـ 676). وانظر: تعظيم قدر الصلاة للمروزي (2/573).
[27] انظر: سنن الترمذي (5/16)، تعظيم قدر الصلاة للمروزي (2/506)، والشريعة للآجري (113)، ومسائل الإيمان لأبي يعلى (320)، ومجموع الفتاوى (7/244).
[28] يقصد بذلك الآيات التي وصف المؤمنين بالصفات الكاملة.
[29] الإيمان لأبي عبيد (90). وانظر نحوه عند المروزي في تعظيم قدر الصلاة (2/409 ـ 516).
[30] مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى (319)، وشرح النووي على مسلم (2/41، 42)، ومجموع الفتاوى (7/524)، والانتصار في الرد على المعتزلة (3/701)، والتمهيد لابن عبد البر (9/243)، ولوامع الأنوار البهية (1/416)، وتعظيم قدر الصلاة للمروزي (2/535).
[31] السُّنَّة للخلال (3/579)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (7/674).
[32] انظر مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى (317)، مجموع الفتاوى (7/674)، فتح الباري (13/24).
[33] الإيمان لأبي عبيد (88)، والانتصار في الرد على القدرية (3/701)، وفتح الباري (12/60).
[34] تعظيم قدر الصلاة (2/644).
[35] أخرجه البخاري (كتاب الأدب، رقم 6104)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 60).
[36] أخرجه البخاري (كتاب الفرائض، رقم 6768)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 62).
[37] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 48)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 64).
[38] أخرجه البخاري (كتاب الديات، رقم 6878)، ومسلم (كتاب القسامة، رقم 1676).
[39] الإيمان لأبي عبيد (95) [مكتبة المعارف، ط1]، وقال الألباني في التعليق عليه: «إسناده صحيح على شرط مسلم». وانظر: التمهيد (9/251).
[40] شرح العقيدة الطحاوية (316).
[41] وقد سبق بيان ما في هذا القول من الخطأ.
[42] أخرجه البخاري، (كتاب تفسير القرآن، رقم 4776)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 124).
[43] أخرجه أحمد (39/39) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وحسن إسناده ابن حجر في بلوغ المرام رقم (1484) [دار أطلس، ط3]، وجوَّد إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 950).
[44] أخرجه البزار (8/406) [مكتبة العلوم والحكم، ط1]، والحاكم (كتاب الرقاق، رقم 7937) وصححه، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، غير يعلى بن شداد، وهو ثقة. مجمع الزوائد (10/222) [مكتبة القدسي].
[45] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 29)، ومسلم (كتاب الكسوف، رقم 907).
[46] أخرجه الطبري (10/356) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (2/521) [مكتبة الدار، ط1]، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (6/113).
[47] أخرجه الحاكم (كتاب التفسير، رقم 3219) وصححه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (6/113).
[48] انظر: تفسير ابن جرير (10/354)، والتمهيد لابن عبد البر (4/237)، والسُّنَّة للخلال (4/159 ـ 161).
[49] انظر: الإيمان لأبي عبيد (93)، وتعظيم قدر الصلاة للمروزي (2/517 ـ 529)، وفتح الباري لابن حجر (1/83)، ومجموع الفتاوى (7/350 ـ 355)، ومدارج السالكين (1/336)، والتمهيد لابن عبد البر (4/236)، وشرح الطحاوية (363).
[50] أخرجه البخاري (كتاب الجنائز، رقم 1294)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 103).
[51] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 101).
[52] انظر: فتح الباري (3/164).
[53] أخرجه البخاري (كتاب الجنائز، رقم 1296)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 104).
[54] مجموع الفتاوى (19/294). وانظر منه: (7/524).
[55] أخرجه الخلال في السُّنَّة (3/579) وسبق ذكره.
[56] السُّنَّة للخلال (3/579). وانظر: مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى (317).
[57] فتح الباري (13/24).
[58] الإيمان لأبي عبيد (92)، والسُّنَّة للخلال (3/578).
[59] حكى هذا القول القاسم بن سلام في الإيمان (88)، وذكره الباقلاني في التمهيد (422)، وسبق بيان بطلان مثل هذا القول.
[60] السُّنَّة للخلال (3/576).
[61] أخرجه البخاري (كتاب الأدب، رقم 5984)، ومسلم (كتاب البر والصلة والآداب، رقم 2556).
[62] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 46).
[63] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 91).
[64] أخرجه البخاري (كتاب الأحكام، 7150)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 142) واللفظ له.
[65] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 137).
[66] شرح الطيبي على مشكاة المصابيح (2/447)
[67] انظر هذه الأقوال في: إِكمَالُ المُعْلِمِ بفَوَائِدِ مُسْلِم للقاضي عياض (1/434)، وشرح الطيبي على مشكاة المصابيح (8/2610) [مكتبة الباز، ط1، 1417]، وعمدة القاري (19/21)، والتوضيح لشرح الجامع الصحيح (3/546) [دار النوادر، دمشق ط1، 1429هـ]، وشرح سنن أبي داود للعيني (6/454) [مكتبة الرشد، الرياض، ط1، 1420هـ]، وشرح صحيح البخاري لابن بطال (9/203) [مكتبة الرشد، الرياض ط2، 1423هـ].
[68] أخرجه البخاري (كتاب الطب، رقم 5778)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 109)، واللفظ له.
[69] لوامع الأنوار البهية (1/370).
[70] التوضيح لشرح الجامع الصحيح (10/138).
[71] لوامع الأنوار البهية (1/370).
[72] شرح صحيح مسلم للنووي (2/125) [دار إحياء التراث العربي، ط2]، وفتح الباري لابن حجر (3/228) [دار المعرفة، 1379] والتوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن (33/267)، وإِكمَالُ المُعْلِمِ بفوائد مسلم لعياض اليحصبي (1/387) [دار الوفاء، مصر، ط1، 1419هـ].
[73] أخرج قول أبي هريرة رضي الله عنه: ابن أبي حاتم في التفسير (3/1038) [مكتبة الباز، ط3]، والطبراني في الأوسط (8/270) [دار الحرمين]، وقال الهيثمي: فيه محمد بن جامع العطار، وهو ضعيف. مجمع الزوائد (7/8).
[74] أخرج قول ابن عباس رضي الله عنه: مسلم (كتاب التفسير، رقم 3023).
[75] تفسير ابن كثير (1/537).
[76] مدارج السالكين (1/401) [دار الكتاب العربي، ط3، 1416هـ]، ولوامع الأنوار البهية (1/370).
إن ما تقدم تقريره في مذهب أهل السُّنَّة والجماعة في الوعيد من شأنه أن يثمر في سلوك العابد ثمرات جليلة، ومن أَجَلِّها:
1 ـ حسن الظن بالله، والجمع بين أوصاف كماله وجلاله ـ من شدة عقابه وبطشه، وصدق وعده، وعظيم عقوبته ـ وبين أوصاف جماله، من عظم رحمته وعفوه، وتوبته على التائبين.
2 ـ أن يجمع السالك في سيره إلى الله بين الخوف والرجاء، وأن يحسن ظنه بربه ومولاه، ولا يأمن مكر خالقه، حيث يوقن أن ما أتاه من الذنوب غير مضمون له فيه المغفرة، بل هو فيه بين الخوف من أن يؤاخذ بجريرة عمله، وبين أن يُغفَر له ذنبه، وذلك معلق بمشيئة الله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] [1]، فتتم عنده المحاذرة من الوقوع في الذنب، والمبادرة إلى التوبة منه عند وقوعه.
3 ـ كما يثمر في العبد عظم خوفه من الذنب الذي لا يغفره الله لصاحبه، وهو الشرك بالله، والبعد عن أسبابه، ومفارقة أهله والبراءة منهم.
4 ـ حسن الظن بالناس، وعدم إسقاط ما عندهم من خير بذنب واحد ـ كما هو مذهب الوعيدية ـ بل يرجى للمحسن منهم، دون القطع له بعينه بالنجاة، ويخاف على المسيء منهم دون القطع على المعين منهم بالعذاب.
5 ـ أن يحرص المذنب على فعل ما يستطيعه مما يرجى معه زوال موجب الوعيد، من التوبة والاستغفار، والأعمال الصالحة، واحتساب الأجر وتكفير الوزر فيما يصيبه من مصائب.
[1] انظر: القول السديد في خلف الوعيد (49).
المخالفون في حكم أهل الوعيد من المسلمين فرقتان: الوعيدية وهم الخوارج والمعتزلة، والفرقة الأخرى هم المرجئة.
أولاً: الوعيدية (الخوارج والمعتزلة):
ذهب الوعيدية ـ من الخوارج والمعتزلة ومن تبعهم ـ إلى أن الإيمان هو اعتقاد بالقلب، وقول باللسان وعمل بالجوارح[1]، وهذا القدر لا إشكال فيه في الجملة[2]، وإنما الغلط عندهم أنهم قد ذهبوا إلى أن الإيمان حقيقة واحدة، إذا ذهب بعضه ذهب كله، فهو كُلٌّ لا يتبعَّض ولا يتفاضل ولا يزيد ولا ينقص[3]، فمن أخلَّ بهذا الإيمان، وارتكب كبيرة (عند بعضهم) أو أي معصية (عند بعضهم) ولقي الله على غير توبة لم يكن من أهل الوعد بالجنة، بل هو عندهم من أهل الوعيد بالنار، وهذا الوعيد لازم الإنفاذ عندهم، لا يتخلف بأي سبب غير التوبة[4].
وبناء على مذهب هؤلاء الوعيدية في الإيمان، فقد قالوا بأمرين:
1 ـ التكفير والتفسيق لأصحاب الكبائر.
فالكبيرة عندهم تزيل اسم الإيمان بالكلية عن فاعلها، فإما أن يسمى صاحبها كافرًا، أو مشركًا، أو كافر نعمة، أو فاسقًا، على خلاف بينهم.
2 ـ الجزم بإنفاذ الوعيد بأهل الكبائر من عصاة الموحدين، ممن ترك فرضًا واجبًا، أو فعل كبيرة من الكبائر، ولهذا جزموا بإنفاذ وعيد أهل الكبائر، وقطع جمهورهم بخلودهم في النار[5].
يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي: «لا خلاف بينهم [يعني المعتزلة] أن وعيد الله بالعقاب حق لا يجوز عليه الإخلاف ولا الكذب، كما أن وعده بالثواب حق، ولا خلاف بينهم في أن مرتكب الكبائر من أهل النار، وأن من يدخل النار يكون مخلدًا فيها كالكافر، وإن كان حاله في العقاب دونه»[6].
وقال أبو الحسن الأشعري: «وأجمعوا ـ الخوارج ـ على أن كل كبيرة كفر إلا النجدات، فإنها لا تقول ذلك، وأجمعوا على أن الله سبحانه يعذب أصحاب الكبائر عذابًا دائمًا»[7].
[1] انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري (105) [دار إحياء التراث، ط3]، والكشاف للزمخشري (1/128، 129) [دار الفكر، ط1، 1397هـ]، والانتصار للخياط (92، 93) [المطبعة الكاثوليكية، 1957هـ]، وكذلك: مجموع الفتاوى لابن تيمية (12/480). وانظر أيضًا: طبقات المعتزلة لابن المرتضى (7، 8) [المطبعة الكاثوليكية، ط 1380هـ]، والتفسير الكبير للرازي (2/23 ـ 25) [دار الكتب العلمية، طهران، ط2].
[2] يقع الغلط عند بعضهم في بعض تفصيلاته، كقول الإباضية وبعض المعتزلة: إن الإيمان لا يشمل كل الطاعات الواجبة والمندوبة، بل هو مختص بالطاعات الواجبة التي يكفر من تركها عندهم. انظر: شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار (707)، ومشارق الأنوار للسالمي الإباضي الخارجي (332، 333)، والوعيد الأخروي للسعدي (1/437، 438)، ومقالات الإسلاميين (438).
[3] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (7/223).
[4] انظر: مشارق أنوار العقول (334، 335).
[5] انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري (86)، والفصل لابن حزم (4/79)، والتفسير الكبير (3/144، 145)، ومشارق أنوار العقول للسالمي (294)، والوعيد الأخروي (1/456).
[6] فضل الاعتزال للقاضي عبد الجبار (350)، وانظر: شرح الأصول الخمسة له (135، 136، 647 ـ 650)، ورسالة للقاسم الرسي الزيدي ضمن رسائل العدل والتوحيد (1/127، 128) [دار الهلال]، على أن هناك من نازع في كون هذا إجماعًا عند المعتزلة، وأثبت عن بعض المعتزلة القول بجواز مغفرة الله لصاحب الكبيرة من غير توبة منه. انظر: الفرق بين الفرق للبغدادي (116).
[7] مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين (86) [دار فرانز شتايز، ألمانيا، ط3، 1400هـ] وقوله هنا: إلا النجدات؛ يقصد أن نجدة بن عامر لا يكفر أصحاب الحدود من موافقيه، وقال: لعل الله يعذبهم بذنوبهم في غير نار جهنم ثم يدخلهم الجنة، وزعم أن النار يدخلها من خالفه في دينه وأن من نظر نظرة صغيرة أو كذب كذبة صغيرة وأصرَّ عليها فهو مشرك، ومن زنى وسرق وشرب الخمر غير مصر عليه فهو مسلم إذا كان من موافقيه على دينه، فهو يستثني موافقيه من الخوارج. انظر: الفرق بين الفرق (81).
ما زعمه الوعيدية من الجزم بإنفاذ وعيد من لقي الله على غير توبة من أصحاب الكبائر هو أمر لا يسلّم؛ لأن نصوص الوعيد مبنية على نصوص الوعد الدالة على تعليق المغفرة بمشيئة الله لما دون الشرك من الذنوب، أو على سبب آخر من الخلق، كالشفاعة، على ما تقدم تفصيله.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] .
وعن ابن عمر قال: «كنا نوجب لأهل الكبائر النار حتى نزلت هذه الآية على النبي صلّى الله عليه وسلّم: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ، فنهانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن نوجب لأحد من أهل الدين النار»[1].
وعنه أيضًا قال: «ما زلنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من فيِّ نبينا صلّى الله عليه وسلّم يقول: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ، قال: «إني أخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة» ، فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا»[2]، وفي رواية قال: «ثم نطقنا بعد ورجونا»[3].
وما احتج به الوعيدية من نصوص الوعيد يجاب عنه بما تقدم من دلالة النصوص الأخرى على بعض الموانع التي تمنع إنفاذه، من التوبة والحسنات والمصائب ونحوها، وتلك النصوص بمثابة المخصصات لعموم نصوص الوعيد، والمقيدات لإطلاقها، فلا يقطع بتحقق نصوص الوعيد على جميع الأعيان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «والتحقيق أن يقال: الكتاب والسُّنَّة مشتمل على نصوص الوعد والوعيد، كما أن ذلك مشتمل على نصوص الأمر والنهي، وكل من النصوص يفسر الآخر ويبيِّنه، فكما أن نصوص الوعد على الأعمال الصالحة مشروطة بعدم الكفر المحبط؛ لأن القرآن قد دل على أن من ارتد فقد حبط عمله، فكذلك نصوص الوعيد للكفار والفساق مشروطة بعدم التوبة؛ لأن القرآن قد دل على أن الله يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب، وهذا متفق عليه بين المسلمين، فكذلك في موارد النزاع.
فإن الله قد بيَّن بنصوص معروفة أن الحسنات يذهبن السيئات، وأن من يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًّا يره، وأنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وأن مصائب الدنيا تكفر الذنوب، وأنه يقبل شفاعة النبي في أهل الكبائر، وأنه لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، كما بيَّن أن الصدقة يبطلها المن والأذى، وأن الربا يبطل العمل، وأنه إنما يتقبل الله من المتقين؛ أي: في ذلك العمل، ونحو ذلك.
فجعل للسيئات ما يوجب رفع عقابها، كما جعل للحسنات ما قد يبطل ثوابها، لكن ليس شيء يبطل جميع السيئات إلا التوبة، كما أنه ليس شيء يبطل جميع الحسنات إلا الردة.
وبهذا تبيَّن أنا نشهد بأن: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا *} [النساء] ، على الإطلاق والعموم، ولا نشهد لمعين أنه في النار؛ لأنا لا نعلم لحوق الوعيد له بعينه؛ لأن لحوق الوعيد بالمعين مشروط بشروط وانتفاء موانع، ونحن لا نعلم ثبوت الشروط وانتفاء الموانع في حقه، وفائدة الوعيد بيان أن هذا الذنب سبب مقتضٍ لهذا العذاب، والسبب قد يقف تأثيره على وجود شرطه وانتفاء مانعه»[4].
وقال البيضاوي مجيبًا عن قول المعتزلة واحتجاجهم: «وأجيب بأن وعيد الفساق مشروط بعدم العفو، لدلائل منفصلة، كما هو مشروط بعدم التوبة وفاقًا»[5].
الثانية: المرجئة.
المرجئة يرون أن من أتى بعقد الإسلام فليس فيه وعيد وأن أهل الإسلام ناجون بعقد الإسلام بدون الحاجة إلى عمل، فهم مخالفون للنصوص الشرعية التي تدل على العقوبة المرتبة على الذنوب.
[1] تقدم تخريجه.
[2] تقدم تخريجه.
[3] تقدم تخريجه.
[4] مجموع الفتاوى لابن تيمية (12/482 ـ 484).
[5] تفسير البيضاوي (97).
1 ـ «الجزاء الأخروي»، لمحمد عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني [رسالة ماجستير مقدمة لجامعة أم القرى].
2 ـ «حادي الأرواح»، لابن القيم.
3 ـ «شرح العقيدة الطحاوية»، لابن أبي العز.
4 ـ «فتاوى ابن الصلاح».
5 ـ «القول السديد في خلف الوعيد»، لملا علي قاري.
6 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
7 ـ «مدارج السالكين»، لابن القيم.
8 ـ «الملل والنحل»، للشهرستاني.
9 ـ «منهاج السُّنَّة».
10 ـ «موانع إنفاذ الوعيد»، لعيسى السعدي.
11 ـ «الوعيد الأخروي»، لعيسى السعدي.