الولاء : مادته في اللغة تدل على معنى القرب، قال ابن فارس: «الواو واللام والياء: أصل صحيح يدل على قرب. من ذلك الوَلْي: القرب. يقال: تباعد بعد ولْي؛ أي: قرب. وجلس مما يليني؛ أي: يقاربني»[1].
والولي: ضد العدو. يقال منه: تولاه. والولي: التابع المحب. ووالى فلان فلانًا: إذا أحبه، والموالاة: المتابعة. والمولى: المعتِق، والمعتَق، وابن العم، والناصر، والجار، والمحب. والولي: الصهر، وكل من ولِي أمر واحد فهو وليه. وتولاَّه: اتخذه وليًّا، والأمر: تقلده. وإنه لبيِّن الولاءة، والولية، والتولي، والولاء، والوَلاية ويكسر[2].
البراء : مصدر برئت، وهو مأخوذ من مادّة (برأ) الّتي تدلّ على التّباعد من الشّيء ومزايلته، ومن ذلك: البُرء، وهو السّلامة من السّقم، والوصف من ذلك: براء على لغة أهل الحجاز، وأنا بريء منك على لغة غيرهم، وقد جاءت اللّغتان في القرآن الكريم، والبراءة تكون من العيب والمكروه ونحوهما، فتقول: برئت منك ومن الدّيون والعيوب براءة وبرئت من المرض بُرءًا، وأهل الحجاز يفتحون الرّاء في الفعل والباء في المصدر، فيقولون: برأت بَرءًا، وبارأت شريكي؛ إذا فارقته. ويقال: برئ إذا تخلّص، وبرئ إذا تنزّه وتباعد، وبرأ: إذا أعذر وأنذر. وأصل البرء والبراء والتّبرّؤ: التّقصّي ممّا يكره مجاورته، ولذلك قيل: برأت من المرض، ومن فلان وتبرّأت وأبرأته من كذا، وبرأته[3].
فيتلخص مما سبق أن البراء يأتي بمعنى: التنزه، والتخلص، والبعد، والبغض.
[1] مقاييس اللغة (1064) [دار إحياء التراث العربي، ط1، 1422هـ].
[2] انظر: مقاييس اللغة (1064، 1065)، والصحاح للجوهري (7/379) [دار العلم للملايين، ط4، 1990م]، وتهذيب اللغة (15/321 ـ 325) [دار إحياء التراث العربي، ط1، 2001م]، والقاموس المحيط (1232) [دار إحياء التراث العربي، ط2، 1424هـ].
[3] انظر: مقاييس اللغة (1/236، 237) [دار الفكر، ط 1399هـ]، ولسان العرب (1/32) [دار صادر، ط3، 1414هـ]، والصحاح للجوهري (1/36، 37)، ومفردات ألفاظ القرآن للراغب (1/86) [دار القلم].
الولاء هو : «التقارب بين المسلمين بقلوبهم، وتحابهم في الله، وتناصرهم وتعاضدهم لله عزّ وجل»[1].
والبراء : هو بغضُ جميع الأمور التي تُسخط الله تعالى من الكفر والفسوق والعصيان ومخالفة ذلك كله ومعاداته والتخلص منه.
وقيل: هو بُغض الطواغيت التي تُعبَدُ من دون الله تعالى (من الأصنام الماديّة والمعنويّة: كالأهواء والآراء)، وبُغْضُ الكفر ـ بجميع ملله ـ وأتباعِه الكافرين، ومعاداة ذلك كُلِّه[2].
[1] محاضرات في العقيدة والدعوة (1/256) [دار العاصمة، ط1، 1422هـ].
[2] الولاء والبراء في الإسلام لأبي عاصم الشحات البركاتي (4) [دار الدعوة الإسلامية، ط1، 1433هـ]. وانظر: محاضرات في العقيدة والدعوة (1/256).
يجب على المؤمن أن يوالي الله ورسوله والمؤمنين، وأن يحذر من موالاة الكفار والمشركين.
كما يجب على كل مسلم أن يبرأ من كل ما برأ منه الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، ويبغض ذلك ويعاديه ويجانبه، ولا يركن ويوالي الكفرَ وأهلَه ولا الفسوقَ وأهلَه أبدًا على الدوام. وأن يُحقق عقيدة البراء بقلبه تحقيقًا كاملاً ويُظهر مقتضياتها على الجوارح واللسان بحسب القدرة والإمكان.
الولاء يقتضي التحاب والجمع، فحقيقته إنما هي بحب ما أحبه الله تعالى، وبجمع ما جمع الله بينه، فالمؤمن يجمع بين المؤمنين في المحبة والنصرة، ولا يفرق بينهم لأجل ما يتميز به بعضهم عن بعض مثل الأنساب، والبلدان، والتحالف على المذاهب، والطرائق، والمسالك، والصداقات وغير ذلك؛ بل يُعطي كلّ من ذلك حقه[1].
والبراء: هو بغضُ جميع الأمور التي تُسخط الله تعالى من الكفر والفسوق والعصيان ومخالفة ذلك كله، ومعاداته والتخلص منه[2].
[1] انظر: قاعدة في المحبة لابن تيمية (133) [مكتبة التراث الإسلامي].
[2] انظر: محاضرات في العقيدة والدعوة (1/256).
الولاء له أهمية جليلة ومكانة سامية في الدين، لما يأتي:
1 ـ هو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إن تحقيق الشهادة بالتوحيد يقتضي أن لا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، ولا يوالي إلا لله، ولا يعادي إلا لله، وأن يحب ما يحبه الله، ويبغض ما أبغضه»[1].
2 ـ هو أوثق عرى الإيمان، دلَّ على ذلك ما رواه ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي ذر رضي الله عنه: «أي عرى الإيمان أظنه قال: أوثق؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله»[2].
3 ـ لأنه يترتب عليه أعمال كثيرة من أعمال القلوب والجوارح.
قال الشيخ عبد اللطيف بن حسن آل الشيخ: «أصل الموالاة: الحب. وأصل المعاداة: البغض، وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة كالنصرة، والأنس، والمعاونة، وكالجهاد، والهجرة، ونحو ذلك»[3].
4 ـ بتحقيقه يستكمل الإيمان الواجب، كما دل على ذلك ما رواه أبو أمامة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان»[4].
5 ـ بتحقيقه يجد العبد طعم الإيمان، فعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار»[5].
كما تظهر أهمية البراء من كل ما يسخط الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم في النقاط الآتية:
1 ـ أنه من لوازم لا إله إلا الله.
2 ـ أنَّ الإيمان لا يتحقق إلا به.
3 ـ تحقيقه أوثق عُرى الإيمان.
4 ـ يجد الإنسان إذا حققه حلاوة الإيمان.
5 ـ أن التبرؤ من الكافرين دأب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ونحن مأمورون بالسير على طريقهم.
6 ـ عناية المصطفى صلّى الله عليه وسلّم بغرز هذه العقيدة في نفوس أصحابه.
[1] مجموع الفتاوى (8/337) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط 1416هـ].
[2] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (11/215) [مكتبة العلوم والحكم، ط2، 1404هـ]، والبيهقي في شعب الإيمان (7/70) [دار الكتب العلمية، ط1]، وسنده ضعيف جدًّا، كما ذكر الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 1729). لكن هناك شواهد لجملة الحب والبغض في الله.
[3] الرسائل المفيدة للشيخ عبد اللطيف آل الشيخ (296) [دار العلوم ط، 1389هـ].
[4] أخرجه أبو داود (كتاب السُّنَّة، رقم 4681)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 380).
[5] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 16)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 43).
1 ـ من أدلة الولاء:
قال الله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ *} [المائدة] ، وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *} [التوبة] ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 79] ، فأخبر تعالى أن المهاجرين والأنصار بعضهم أولياء بعض.
2 ـ ومن أدلة البراء:
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة: 1] ، وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4] .
وقال تعالى: {لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28] .
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم جهارًا غير سر يقول: «إن آل أبي[1] ليسوا بأوليائي، إنما وليي الله وصالح المؤمنين، ولكن لهم رحم أبلّها ببِلالها»[2].
وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان»[3].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار»[4].
وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله اشترط عليَّ. فقال: «تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتصلي الصلاة المكتوبة، وتؤدِّي الزكاة المفروضة، وتنصح للمسلم، وتبرأُ من الكافر»[5].
[1] أي: أقربائي من النسب من لم يُسلم منهم.
[2] أخرجه البخاري (كتاب الأدب، رقم 5990)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 215).
[3] تقدم تخريجه.
[4] تقدم تخريجه.
[5] أخرجه أحمد (31/491) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والطبراني في المعجم الكبير (2/314) [مكتبة ابن تيمية، ط2، 1415هـ]، وصححه محققو المسند.
قال الطبري رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينِ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً *} [النساء] : «وهذا نهي من الله عباده المؤمنين أن يتخلقوا بأخلاق المنافقين، الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، فيكونوا مثلهم في ركوب ما نهاهم عنه من موالاة أعدائه.
يقول لهم جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله، لا توالوا الكفار فتؤازروهم من دون أهل مِلَّتكم ودينكم من المؤمنين، فتكونوا كمن أوجبت له النار من المنافقين. ثم قال جلَّ ثناؤه متوعدًا: من اتخذ منهم الكافرين أولياء من دون المؤمنين، إن هو لم يرتدع عن موالاته، وينزجر عن مخالته أن يلحقه بأهل ولايتهم من المنافقين الذين أمر نبيّه صلّى الله عليه وسلّم بتبشيرهم بأن لهم عذابًا أليمًا، يقول: لا تعرضوا لغضب الله، بإيجابكم الحجة على أنفسكم في تقدمكم على ما نهاكم ربكم من موالاة أعدائه وأهل الكفر به»[1].
وقال ابن عطية: «نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء في النصرة والخلطة المؤدية إلى الامتزاج والمعاضدة. وحُكم هذه الآية باق. وكل من أكثر مخالطة هذين الصنفين فله حظه من هذا المقت الذي تضمنه قوله تعالى: {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] ، وأما معاملة اليهودي والنصراني من غير مخالطة ولا ملابسة فلا تدخل في النهي، وقد عامل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يهوديًّا ورهنه درعه[2]»[3].
وقال ابن تيمية: «والبراءة ضد الولاية، وأصل البراءة البغض، وأصل الولاية الحب، وهذا لأن حقيقة التوحيد: أن لا يحب إلا الله ويحب ما يحبه الله، فلا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله»[4].
وقال أيضًا: «على المؤمن أن يعادي في الله، ويوالي في الله، فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه ـ وإن ظلمه ـ فإنّ الظّلم لا يقطع الموالاة الإيمانيّة. وإذا اجتمع في الرّجل الواحد: خير وشرّ وفجور، وطاعة ومعصية، وسنّة وبدعة، استحقّ من الموالاة والثّواب بقدر ما فيه من الخير، واستحقّ من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشّرّ»[5].
وقال عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ: «وأصل الموالاة: الحب، وأصل المعاداة: البغض؛ وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة، كالنصرة، والأنس، والمعاونة، وكالجهاد، والهجرة، ونحو ذلك من الأعمال»[6].
وقال السعديّ: «وحيث إنّ الولاء والبراء تابعان للحبّ والبغض فإنّ أصل الإيمان أن تحبّ في الله أنبياءه وأتباعهم، وتبغض في الله أعداءه وأعداء رسله»[7].
[1] تفسير الطبري (9/336) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1420هـ].
[2] أخرجه البخاري (كتاب الجهاد والسير، رقم 2916).
[3] تفسير ابن عطية (2/203) [دار الكتب العلمية، ط1، 1422هـ].
[4] مجموع الفتاوى (10/465). وانظر: المرجع نفسه (20/499)، وتفسير ابن كثير (3/140) [دار طيبة، ط2، 1420هـ].
[5] مجموع الفتاوى (28/208، 209).
[6] الدرر السنية في الأجوبة النجدية (2/325) [ط6، 1417هـ].
[7] الفتاوى السعدية (1/98) [مكتبة المعارف، ط2، 1402هـ].
الناس فيما يجب في حقهم من الولاء والبراء على ثلاثة أنواع[1]:
النوع الأول: من يحب محبة خالصة، وهم الأنبياء، والصديقون، والشهداء، والصالحون، وعلى رأسهم نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم، فإن محبته متقدمة على محبة كل أحد، كما دل عليه ما رواه أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده، وولده، والناس أجمعين»[2].
ثم الصحابة، وعلى رأسهم أمهات المؤمنين، وأهل بيته الطاهرين، والخلفاء الأربعة، ثم سائر الصحابة أجمعين على مراتب بينهم في الفضل والتقدم، ثم التابعون، وسلف هذه الأمة من أهل القرون المفضلة.
النوع الثاني: من يبغض بغضًا مطلقًا بحيث لا مودة معها، وهم الكفار والمشركون والمنافقون. قال تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهُ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *} [المجادلة] .
النوع الثالث: من يحب من وجه، ويبغض من وجه آخر، وهم العصاة من المؤمنين، فيحبون بقدر ما فيهم من طاعة، ويبغضون بقدر ما فيهم من معصية[3].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والواجب على كل مسلم أن يكون حبه وبغضه، وموالاته ومعاداته تابعًا لأمر الله ورسوله، فيحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، ويوالي من يوالي الله ورسوله، ويعادي من يعادي الله ورسوله. ومن كان فيه ما يوالى عليه من حسنات، وما يعادي عليه من سيئات عومل بموجب ذلك، كفساق أهل الملة؛ إذ هم مستحقون للثواب والعقاب، والموالاة والمعاداة، والحب والبغض بحسب ما فيهم من البر والفجور فإن من يعمل مثقال ذرةٍ خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرةٍ شرًّا يره»[4].
ـ كما ينقسم البراء إلى قسمين:
القسم الأول: البراء المشروع، وهو البراءة والبغض لكل ما يسخط الله تعالى ويبغضه، من الفساد والكفر والمعاصي، ومن تلبس بشيء من ذلك اعتقادًا أو قولاً أو عملاً.
القسم الثاني: البراء الممنوع، هو التبرؤ من الإسلام وأهله، وبغض كل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأشياء والأشخاص وكراهية ذلك ومعاداته[5].
وللبراء مرتبتان:
ـ الأولى: البراء القلبي، المتمثل في حب القلب وبغضه وإرادته وكراهته لكل ما يغضب الله تعالى ويسخطه. وهذه البراءة القلبية لا بد أن تكون كاملة جازمة، لا يوجب نقص ذلك إلا نقصُ الإيمان.
ـ الثانية: البراء العملي، وهو فعل البدن، فهذا منوط بالقدرة والاستطاعة[6].
[1] الولاء والبراء للفوزان (27 ـ 32) [دار الوطن، 4111هـ]، والإرشاد إلى صحيح الاعتقاد (317 ـ 319).
[2] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 15)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 44).
[3] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (28/208، 209)، و(35/95)، وشرح الطحاوية لابن أبي العز (359، 384).
[4] مجموع الفتاوى (35/94، 95).
[5] انـظـر: مـفـهـوم عـقـيدة الولاء والبراء وأحكامها (73 ـ 89).
[6] انظر: مجموع الفتاوى (28/131).
المسألة الأولى: مظاهر موالاة المسلمين:
لموالاة المسلمين مظاهر عديدة[1] منها ما يأتي:
1 ـ الهجرة إلى بلاد المسلمين، وترك بلاد الكفار، فالمسلم مطالب بترك بلاد الكفار لأجل الفرار بالدين[2] لأن الهجرة لا تنقطع إلى يوم القيامة، والدليل على ذلك ما رواه معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها»[3].
2 ـ نصرة المسلمين، والدفاع عنهم، ومعاونتهم بما أمكن، وتراحمهم وتعاطفهم. قال تعالى: {اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ *} [الأنفال] ، وعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، ثم شبك بين أصابعه»[4].
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»[5].
3 ـ نصحهم، وعدم غشهم وخيانتهم.
4 ـ احترامهم، والتجنب عن طعنهم، وعيبهم، وتنقصهم. والدليل على هذه المظاهر الثلاثة ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا. المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره. التقوى ها هنا ـ ويشير إلى صدره ثلاث مرات ـ بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه»[6].
5 ـ الدعاء لهم والاستغفار لهم، قال تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ *} [الحشر] .
6 ـ الرفق بضعفائهم، دل على ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا»[7].
وعن مصعب بن سعد قال: رأى سعد رضي الله عنه أن له فضلاً على من دونه، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم»[8].
المسألة الثانية: النهي عن موالاة الكفار:
قد نهى الله تعالى عن موالاة الكفار والمشركين. قال تعالى: {لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ *} [آل عمران] ، وقال تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهُ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *} [المجادلة] .
فهذه الآيات ناهية عن موالاة الكفار والمشركين وأهل الكتاب، ومبينة أن المؤمن لا يوالي الكافر ولو كان أقرب قريب له، فإن الموالاة بين الكافر والمؤمن منتفية في كل حال.
المسألة الثالثة: مظاهر موالاة الكفار:
لموالاة الكفار مظاهر[9]، منها ما يلي:
1 ـ التشبه بهم في الملبس والكلام ونحوهما، فإن التشبه بالكفار منهي عنه، وهو منبئ عن محبتهم، وقد روى ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من تشبه بقوم فهو منهم»[10].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إن المشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر، وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة حتى إن الرجلين إذا كانا من بلد واحد، ثم اجتمعا في دار غربة كان بينهما من المودة والائتلاف أمر عظيم، وإن كانا في مصرهما لم يكونا متعارفين أو كانا متهاجرين؛ وذلك لأن الاشتراك في البلد نوع وصف اختصا به عن بلد الغربة، فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة لهم، فكيف بالمشابهة في أمور دينية، فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان»[11].
2 ـ الإقامة في بلادِهم وعدم الهجرة منها إلى بلاد المسلمين لأجل الفرار بالدين.
فإن الإقامة في بلد الكفار تدل على موالاة الكافرين، وقد حرم الله تعالى الإقامة في بلد الكفار لمن قدر على الهجرة. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا *إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً *} [النساء] ، فتوعد الله من تخلف عن الهجرة من غير عذر بأن مصيرهم في الآخرة جهنم، {وَسَاءَتْ مَصِيرًا *}؛ يعني: وساءت جهنم لأهلها الذين صاروا إليها مصيرًا ومسكنًا ومأوى[12].
روى البخاري في صحيحه عن محمد بن عبد الرحمن أبي الأسود قال: «قطع على أهل المدينة بعْثٌ، فاكتتبت فيه، فلقيتُ عكرمة مولى ابن عباس فأخبرته، فنهاني عن ذلك أشد النهي، ثم قال: أخبرني ابن عباس أن ناسًا من المسلمين كانوا مع المشركين، يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأتي السهم فَيُرمى به، فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب عنقه فيقتل، فأنزل الله عزّ وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}»[13].
وهي «عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنًا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حرامًا بالإجماع، وبنص هذه الآية»[14].
3 ـ السفر إلى بلاد الكفار لغرض النزهة، فإن السفر إلى بلادهم من غير ضرورة ـ كالتجارة، وتعليم ما لا يمكن تعليمه إلا بالسفر إلى بلادهم ـ محرم[15].
4 ـ الثقة بهم، وتوليتهم المناصب التي فيها أسرار المسلمين، واتخاذهم بطانة ومستشارين. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ *} [آل عمران] ، فنهى الله تعالى المؤمنين أن يتخذوا بطانة من المنافقين فيطلعونهم على سرائرهم، وما يضمرونه لأعدائهم؛ لأنهم بجهدهم وطاقتهم لا يقصرون في مخالفتهم وما يضرهم بكل ممكن، وبما يستطيعون من المكر والخديعة، ويودّون ما يعنت المؤمنين ويحرجهم ويشق عليهم[16].
روى ابن أبي حاتم عن ابن أبي الدهقانة، قال: قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: «أن ههنا غلامًا من أهل الحيرة حافظ كاتب، فلو اتخذته كاتبًا، فقال: قد اتخذت إذًا بطانة من دون المؤمنين»[17].
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين، واطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب»[18].
5 ـ التأريخ بتواريخهم، لا سيما ما يعبر عن طقوسهم وأعيادهم، ولهذا أرَّخ السلف بتاريخ الهجرة ليتميزوا بذلك عن تاريخ الكفار.
6 ـ المشاركة في أعيادهم، أو مساعدتهم في إقامتها، وقد دل على تحريم ذلك الكتاب والسُّنَّة، فمن الكتاب قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا *} [الفرقان] ، وقد فسر غير واحد من السلف الزور بأعياد المشركين، كما رواه ابن أبي حاتم عن الضحاك وقال: وروي عن أبي العالية، وطاوس، والربيع بن أنس، والمثنى بن الصباح نحو ذلك[19].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وأما أعياد المشركين، فجمعت الشبهة، والشهوة، والباطل، ولا منفعة فيها في الدين، وما فيها من اللذة العاجلة، فعاقبتها إلى ألم، فصارت زورًا. وحضورها: شهودها.
وإذا كان الله قد مدح ترك شهودها الذي هو مجرد الحضور برؤية أو سماع، فكيف بالموافقة بما يزيد على ذلك من العمل الذي هو عمل الزور لا مجرد شهوده، ثم مجرد هذه الآية فيها الحمد لهؤلاء والثناء عليهم، وذلك وحده يفيد الترغيب في ترك شهود أعيادهم وغيرها من الزور، ويقتضي الندب إلى ترك حضورها وقد يفيد كراهية حضورها لتسمية الله لها زورًا»[20].
ومن السُّنَّة ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن الله قد أبدلكم بهما خيرًا منهما يوم الأضحى ويوم الفطر»[21].
قال شيخ الإسلام: «وجه الدلالة: أن العيدين الجاهليين لم يقرهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة، بل قال: «إن الله قد أبدلكم بهما يومين آخرين» ، والإبدال من الشيء يقتضي ترك المبدل منه؛ إذ لا يجمع بين البدل والمبدل منه، ولهذا لا تستعمل هذه العبارة إلا فيما ترك اجتماعهما»[22].
7 ـ مدحهم، والإعجاب بأخلاقهم ومهاراتهم دون النظر إلى عقائدهم الفاسدة. قال تعالى: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى *} [طه] ، فما أعطاه الله الكفار من الدنيا كله ابتلاء واختبار منه سبحانه وتعالى، وقد عجلت لهم طيباتهم في الدنيا كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قال له عمر بن الخطاب: «ادع الله فليوسع على أمتك، فإن فارس والروم وُسِّع عليهم وأعطوا الدنيا، وهم لا يعبدون الله، وكان متكئًا، فقال: أوفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عُجِّلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا»[23].
8 ـ الاستغفار لهم والترحم عليهم. قال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ *} [التوبة] ، قال الطبري في تفسير الآية: «يقول تعالى ذكره: ما كان ينبغي للنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم والذين آمنوا به {أَنْ يَسْتَغْفِرُوا} يقول: أن يدعوا بالمغفرة للمشركين، ولو كان المشركون الذين يستغفرون لهم {أُولِي قُرْبَى} ذوي قرابة لهم {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ *} يقول: من بعد ما ماتوا على شركهم بالله وعبادة الأوثان، وتبيَّن لهم أنهم من أهل النار؛ لأن الله قد قضى أن لا يغفر لمشرك، فلا ينبغي لهم أن يسألوا ربهم أن يفعل ما قد علموا أنه لا يفعله»[24].
9 ـ التسمِّي بأسمائهم، فبعض المسلمين يسمّون أولادهم بأسماء الكفار، وهو من الأمور التي يسبب الانفصال بينهم وبين سلفهم، وقد رغب النبي صلّى الله عليه وسلّم في أسماء شرعية فقال: «إن أحب أسمائكم إلى الله: عبد الله، وعبد الرحمن»[25].
المسألة الرابعة: من مظاهر البراء من الكفار:
1 ـ بغض الشرك والكفر والنفاق وأهله عمومًا.
2 ـ هجر بلاد الكفر وعدم السفر إليهم إلا لحاجة، مع القدرة على إظهار شعائر الإسلام.
3 ـ أن لا يناصر الكفار ولا يعينهم على المسلمين.
4 ـ أن لا يستعين بهم من غير حاجة ولا يتخذهم بطانة له يحفظون سره.
5 ـ أن لا يشاركهم في أعيادهم وأفراحهم ولا يهنئهم بها، وأن لا يستغفر لهم ولا يترحم عليهم.
6 ـ هجر مجالسهم المحتوية على منكراتهم، وعدم صداقتهم ومخاللتهم.
7 ـ عدم المداهنة والمجاملة لهم على حساب الدين.
8 ـ أن لا يعظم الكافر بلفظ أو فعل.
9 ـ عدم التولي العام لهم.
10 ـ أن لا يبدأهم بالسلام من غير موجب.
11 ـ ترك اتباع أهوائهم وطاعتهم في تحريم الحلال وتحليل الحرام.
12 ـ عدم الركون إلى الكفرة الظالمين.
13 ـ ترك التشبه بالكفار في الأفعال الظاهرة[26].
المسألة الخامسة: متى يكون التولي كفرًا؟
قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] ، وفي الحديث: «من تشبه بقوم فهو منهم».
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذه النصوص وما ورد في معناها مثل: أثر عبد الله بن عمرو أنه قال: «من بنى بأرض المشركين، وصنع نيروزهم، ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم يوم القيامة»[27].
أن هذا قد يحمل على التشبه المطلق، الذي يوجب الكفر، ويقتضي تحريم أبعاض ذلك، وقد يحمل على أنه صار منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه، فإن كان كفرًا أو معصية أو شعارًا للكفر أو للمعصية كان حكمه كذلك[28].
كما بيَّن السعدي في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَولَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ *} [الممتحنة] ، أن هذا الظلم يكون بحسب التولي، فإن كان توليًا تامًّا صار ذلك كفرًا مخرجًا عن دائرة الإسلام، وتحت ذلك من المراتب ما هو غليظ وما هو دون ذلك[29].
وذكر بعض أهل العلم أن تولي الكافر إذا كان لدينه ـ وليس لأمور دنيوية ـ أن هذا كفر، وقد تكون معصية أو كبيرة من الكبائر إذا كانت لغرض دنيوي، وعلى هذا الأخير حمل بعض أهل العلم قصة حاطب بن بلتعة التي رواها عبيد الله بن أبي رافع قال: سمعت عليًّا رضي الله عنه يقول: «بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنا والزبير والمقداد بن الأسود، قال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة ومعها كتاب، فخذوه منها، فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي من كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب، أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله، فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين من أهل مكة، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا حاطب ما هذا؟ قال: يا رسول الله لا تعجل علي؛ إني كنت امرءًا ملصقًا في قريش ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدًا يحمون بها قرابتي وما فعلت كفرًا، ولا ارتدادًا، ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد صدقكم» ، قال عمر: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال: «إنه قد شهد بدرًا وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»[30].
قال ابن العربي: «من كثر تطلعه على عورات المسلمين، وينبه عليهم، ويعرّف عدوهم بأخبارهم لم يكن بذلك كافرًا إذا كان فعله لغرض دنيوي، واعتقاده على ذلك سليم، كما فعل حاطب بن أبي بلتعة حين قصد بذلك اتخاذ اليد ولم ينو الردة عن الدين»[31].
قال ابن تيمية: «وقد تحصل للرجل موادتهم لرحم أو حاجة، فتكون ذنبًا ينقص به إيمانه، ولا يكون به كافرًا كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة»[32].
المسألة السادسة: إن ولاء المؤمن لا يكون إلا لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين.
وعلى هذا فلا يكون الولاء لطائفة معينة، ولا لقبيلة معينة، ولا لشيخ معين، وكذلك لا يكون البراء على ذلك، وإنما يكون الولاء للطاعة وأهلها، والبراء من المعصية وأهلها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وليس لأحد أن يعلق المدح، والذم، والحب، والبغض، والموالاة، والمعاداة، والصلاة، واللعن بغير الأسماء التي علق الله بها ذلك: مثل أسماء القبائل، والمدائن، والمذاهب، والطرائق المضافة إلى الأئمة والمشايخ ونحو ذلك مما يراد بها التعريف...فذكرُ الأزمان، والعدل بأسماء الإيثار، والولاء، والبلد والانتساب إلى عالم، أو شيخ إنما يقصد بها التعريف به ليتميز عن غيره، فأما الحمد والذم، والحب، والبغض والموالاة، والمعاداة، فإنما تكون بالأشياء التي أنزل الله بها سلطانه، وسلطانه كتابه، فمن كان مؤمنًا وجبت موالاته من أي صنف كان، ومن كان كافرًا وجبت معاداته من أي صنف كان...»[33].
المسألة السابعة: معاملة الكفار في الأمور الدنيوية كالتجارة، وإجراء العقود المالية، أو مهادنتهم من ولي أمر المسلمين لا تعد من موالاة الكفار:
قال تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ *} [الممتحنة] ، وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: «قدمت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومدتهم مع أبيها، فاستفتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: يا رسول الله، إن أمي قدمت عليَّ وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: نعم صِليها »[34]. قال ابن عيينة: فأنزل الله عزّ وجل فيها: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ}[35]. وقال تعالى في حق الوالدين إذا كانا كافرين: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] .
فأمر الله تعالى بالإحسان إلى الوالدين الكافرين، وهذا يدل على أن ذلك لا ينافي معاداتهما في الدين، ولا يدخل في النهي عن موالاة الكفار.
وكذلك لا تعد من موالاتهم أن يستفاد من مخترعاتهم وخبراتهم، فقد استأجر النبي صلّى الله عليه وسلّم ابن أريقط الليثي ليدله على الطريق وهو كافر[36]، واستدان من بعض اليهود[37].
المسألة الثامنة: حقيقة الحب في الله والبغض في الله:
محبة المسلم لأخيه المسلم في الله، وبغضه لأعداء الله في الله، من أوجب الواجبات التي أمر بها الشرع، وهي أوثق عرى الإيمان.
قال الإمام مالك: «الحب في الله والبغض في الله من الفرائض»[38].
وبغض الكافرين ومعاداتهم والبراءة منهم من أوجب واجبات الدين، بل إنها مقدمة في كتاب الله على البراءة من الأوثان، كما قال تعالى: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة: 4] .
ومحبة المؤمن لأخيه المؤمن في الله، إنما هي ثمرة من محبته لله، ومن تمام محبة الإنسان لله، كما أنها موجبة لمحبة الله.
فإن من تمام حب الله: حب ما يحبه الله، والله يحب الأنبياء والصالحين، فكان حبهم من ثمرات حبه تعالى، ومن أحب شخصًا في الله، كان المحبوب لذاته هو الله[39].
والمحبة في الله إنما تتحقق إذا ما أحب المؤمن أخاه المؤمن محبة خالصة لله، لا لغرض دنيوي.
فمن اعترت محبته لغيره شائبة نفع دنيوي، فإن محبته لا تكون خاصة لله على التمام، وضابط ذلك أن تحب الشخص لما فيه من الطاعة، لا بمقدار انتفاعك الدنيوي منه، بل تحبه وإن لم تحصل منه على نفع دنيوي.
قال يحيى بن معاذ رحمه الله: «حقيقة الحب في الله: أن لا يزيد بالبر ولا ينقص بالجفاء»[40].
وعليه، فمن أحب إنسانًا لمجرد النفع الدنيوي الذي يلقاه منه، من عطاء المال والنصرة ونحو ذلك، فإنما أحب ذلك النفع الذي وصله، فلا يكون محبًّا لذلك الشخص في الله، وإن زعم ذلك فهو كاذب، وذلك من دسائس النفوس، ونفاق الأقوال، وكثير من محبة الخلق لبعضهم هي من هذا القبيل، وهذا الحب لا ثواب عليه في الآخرة ولا نفع، وإنما النافع ما كان حبًّا في الله ولله وحده[41].
ـ وقد جاءت النصوص الكثيرة التي تؤكد هذا المعنى، قال تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهُ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22] ، وقال عزّ وجل: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ *} [الزخرف] ، وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تَرَى المؤمنينَ في تَراحُمِهِمْ وتَوادِّهِمْ وتَعاطُفِهِمْ كَمَثلِ الجَسدِ إذا اشتكَى عُضوًا تَداعَى له سائِرُ جَسدِهِ بالسّهَرِ والْحُمَّى»[42].
قال السعدي رحمه الله: «إن الله عقد الأخوة والموالاة والمحبة بين المؤمنين كلهم، ونهى عن موالاة الكافرين كلهم ـ من يهود ونصارى ومجوس ومشركين وملحدين ومارقين وغيرهم ممن ثبت في الكتاب والسُّنَّة الحكم بكفرهم، وهذا الأصل متفق عليه بين المسلمين، وكل مؤمن موحد تارك لجميع المكفرات الشرعية، فإنه تجب محبته وموالاته ونصرته، وكل من كان بخلاف ذلك فإنه يجب التقرب إلى الله ببغضه ومعاداته وجهاده باللسان واليد بحسب القدرة، فالولاء والبراء تابع للحب والبغض، والحب والبغض هو الأصل، وأصل الإيمان أن تحبّ في الله أنبياءه وأتباعهم، وأن تبغض في الله أعداءه وأعداء رسله»[43].
المسألة التاسعة: اجتماع الحب في الله والبغض في الله في الشخص الواحد:
الأصل في المسلم ثبوت المحبة في حقه، فأما من كمل إيمانه فإنه يُحبُّ جملة، وأما من خلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا فإنه يُحَب بقدر ما فيه من الطاعة، ويبغض بقدر ما فيه من المعصية، فقد يجتمع في الشخص ولاية من وجه، وعداوة من وجه[44].
ولهذا روى عمر بن الخطاب أنّ رجلاً على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم كان اسمه عبد الله، وكان يلقّب حمارًا، وكان يضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد جلده في الشراب، فأتي به يومًا، فأمر به، فجلد، فقال رجل من القوم: اللَّهُمَّ العنه، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تلعنوه، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله»[45].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وإذا اجتمع في الرجل الواحد: خير وشر، وفجور وطاعة، ومعصية وسُنَّة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، كاللص تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته، هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السُّنَّة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم»[46].
المسألة العاشرة: المحبة الطبيعية للقريب الكافر ونحوه:
إذا تحقق عند المؤمن البغض الشرعي للكافر، والبراءة الشرعية منه، ولكن وُجِدَ من هذا الكافر ما يقتضي أن يحب جبلة وطبعًا ـ لا شرعًا ـ كأن يكون هذا الكافر أبًا أو أمًّا أو ابنًا للمسلم، أو تكون الكافرة زوجة كتابية له، وكذا إذا ما توجه الكافر بإحسان للمسلم، فوجد المسلم في نفسه محبة طبيعية لهؤلاء، فالأقرب والله أعلم أن هذه المحبة لا تنافي البغض الشرعي، ولا يأثم المسلم إذا وجدها في قلبه مع استقرار البراء الشرعي منهم، ومن دينهم؛ إذ لا تعارض بين البغض الشرعي، والمحبة الطبيعية، فالجهة منفكة، ولكن بشرط أن يقف بهذه المحبة عند حدها القلبي الجبلِّي، فلا يترحم عليهم، ولا يصلي عليهم، بل إن وُجِدَ ما يقتضي محاربتهم وقتالهم (كأن يكون الأب الكافر في جيش الكفار) قاتلهم، وقدَّم مقتضى البراء الشرعي على تلك المحبة الطبيعية؛ إذ المودة الشرعية للمؤمن والبراء الشرعي من الكافر هو الأصل والحاكم في التعامل مع الناس، اعتقادًا وفعلاً.
ومما استدل به القائلون بجواز هذه المحبة الطبيعية للزوجة الكتابية ونحوها ما يلي:
1 ـ قوله تعالى في حق أبي طالب: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] ، حيث فسرها كثير من أهل العلم بـ: من أحببت هدايته[47]، وفسرها جمع منهم بـ: من أحببت شخصه لقرابته[48]، ولا تعارض بين التفسيرين، ولا مانع من الجمع بينهما والله أعلم، فتكون الآية ـ على القول الثاني ـ دليلاً للمسألة.
2 ـ الجمع بين إباحة الشرع لنكاح المؤمن من الكتابية العفيفة، كما في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} إلى أن قال: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] ، وإباحة المودة بين الزوجين عمومًا، كما في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] ، قال ابن عباس: «الْمَوَدَّةُ: حُبُّ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ»[49]، فدل عموم هذه الآية على جواز وقوع المحبة الطبيعية بين الزوج المسلم وزوجته الكتابية.
وأما نصوص البغض للكافرين والبراءة منهم، فهي ثابتة ولا شك، وهي محمولة على البراءة الشرعية من الكافر ومن كفره، فلا تعارض المحبة الطبيعية إذا وُجد سببها[50].
المسألة الحادية عشرة: الكره الطبيعي للمسلم الذي وقع منه موجب ذلك الكره.
وهي مقابلة للمسألة السابقة، فإن الأصل هو ثبوت المحبة الشرعية من المسلم لأخيه المسلم، وإن وقع منه ظلم له، فذلك الظلم لا يزيل تلك المحبة الشرعية، ولكن قد يقع في قلبه كره طبيعي وجِبِلِّيٌّ لمن ظلمه من المسلمين، كمن سرق ماله، وقتل قريبه، ونحو ذلك، بل كما تكره المرأة زوجها كرهًا طبيعيًّا لأي سبب معتبر فتخالعه، وكما يكره الرجل زوجته فيطلقها، أو يمسكها على كراهته لها، وقد قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا *} [النساء] . والشاهد منها إثبات وقوع الكراهة، وعدم إنكارها، بل الندب لإمساك المرأة مع تلك الكراهة لما يرجى من خير كثير[51].
فلا تعارض بين ذلك الظلم وبين ثبوت أصل المحبة الشرعية لذلك المسلم، فإنها محبة له من أجل ما في قلبه من الإيمان، وكما تقرر في المسألة السالفة أن البغض الشرعي لا يعارض الحب الطبيعي، فكذلك ههنا الكره الطبيعي لا يعارض الحب الشرعي، لانفكاك الجهة بينهما في المسألتين، وإن حصل تدافع بين لوازم المحبة الشرعية والكره الطبعي فالمقدَّم قطعًا ما كان لازمًا للمحبة الشرعية، فلا يجوز بحال أن يحمله ذلك الكره الطبيعي على ظلم أخيه المسلم وإضاعة حقوقه، بل ينبغي مدافعة ذلك الكره، وعدم الركون إليه[52].
المسألة الثانية عشرة: أن بغض الكفار ومعاداتهم، لا ينافي البر والإقساط في حق غير الحربي منهم.
ما تقدم تقريره من وجوب بغض الكافرين ومعاداتهم لا يعارض ما قررته الشريعة من وجوب العدل معهم، والبر والإقساط في حق من لم يكن محاربًا لنا منهم.
قال تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ *إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَولَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ *} [الممتحنة]
يقول القرافي في كتابه (الفروق) لما فرَّق بين مسألة بغضهم، ومراعاة البر والإحسان إليهم قال: «وسر الفرق أنّ عقد الذمة يوجب حقوقًا علينا لهم؛ لأنّهم في جوارنا، فيتعين علينا برهم في كل أمر لا يكون ظاهره يدل على مودة في القلب، ولا تعظيم شعائر الكفر، فمتى أدَّى إلى أحد هذين، امتنع وصار من قبل ما نهى عنه في الآية»[53].
ومما يدخل في ذلك: الإهداء لهم، وقبول هديتهم، فقد قبل النبي صلّى الله عليه وسلّم هدية من ملك أيلة، وهي بغلة بيضاء وبُرد[54]، وثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أهدى حلة لأخ له من أهل مكة قبل أن يسلم[55].
ومما يدخل في ذلك: عيادة مرضاهم، فقد زار النبي صلّى الله عليه وسلّم غلامًا يهوديًّا ـ كان يخدمه ـ قبل موته[56].
وكذلك قصة عيادة النبي صلّى الله عليه وسلّم لعمه أبي طالب قبيل وفاته[57].
كما أن تلك العداوة والبغض للكافرين لا تعارض ما تقتضيه مصلحة دعوتهم إلى الإسلام من لين القول ـ من غير ذلة ـ والمجادلة بالحسنى، كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] .
وقال الله لموسى وهارون عليه السلام في دعوتهما لفرعون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى *فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى *} [طه]
وهذا اللِّين والحكمة يجب ألا يوصلا لمسلم إلى محبتهم وترك بغضهم وعداوتهم، بل بغضهم ثابت، وإنما المحبة لهدايتهم.
المسألة الثالث عشرة: ما يُشرع لمن أحب أخًا له في الله:
يُشرع لمن أحب أخًا له في الله أن يخبره بتلك المحبة.
فعن المقدام بن معديكرب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنّه يحبّه»[58].
[1] انظر: الولاء والبراء للفوزان (17 ـ 26).
[2] انظر: شرح رسالة الدلائل في حكم موالاة أهل الإشراك للفوزان (83 ـ 88) [1428هـ].
[3] أخرجه أبو داود (كتاب الجهاد، رقم 2479)، وأحمد (28/111) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والدارمي (كتاب السير، رقم 2555)، وقال الخطابي في معالم السنن (2/235) [المطبعة العلمية، ط1]: (فيه مقال)، وصححه الألباني بشواهده في الإرواء (رقم 1208) [المكتب الإسلامي، ط2].
[4] أخرجه البخاري (كتاب الأدب، رقم 6026)، ومسلم (كتاب البر والصلة، رقم 2585).
[5] أخرجه البخاري (كتاب الأدب، رقم 6011)، ومسلم (كتاب البر والصلة، رقم 2586).
[6] أخرجه البخاري (كتاب الأدب، رقم 6064)، مسلم (كتاب البر والصلة، رقم 2564)، واللفظ له.
[7] أخرجه أبو داود (كتاب الأدب، رقم 4943) واللفظ له، والترمذي (أبواب البر والصلة، رقم 1920) وقال: حسن صحيح، وأحمد (11/345) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (رقم 100) [مكتبة المعارف، ط5].
[8] أخرجه البخاري (كتاب الجهاد والسير، رقم 2896).
[9] انظر: الولاء والبراء للفوزان (7 ـ 16)، والإرشاد إلى صحيح الاعتقاد (308 ـ 313).
[10] أخرجه أبو داود (كتاب اللباس، رقم 4031)، وأحمد (9/123) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وجوَّد سنده شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم (1/269) [دار العاصمة، ط6]، وحسن إسناده الألباني في الإرواء (5/109).
[11] اقتضاء الصراط المستقيم (1/594).
[12] انظر: تفسير الطبري (9، 100، 101) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1420هـ].
[13] صحيح البخاري (كتاب الفتن، رقم 7085).
[14] تفسير ابن كثير (4/228).
[15] انظر: الدرر السنية (2/361) [ط7، 1425هـ]، ودروس في شرح نواقض الإسلام للفوزان (157 ـ 161).
[16] انظر: تفسير ابن كثير (3/164).
[17] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (كتاب الأدب، رقم 25872)، وابن أبي حاتم في تفسيره (3/753) [مكتبة الباز، ط3].
[18] تفسير ابن كثير (3/166).
[19] انظر: تفسير ابن أبي حاتم (8/2737).
[20] اقتضاء الصراط المستقيم (1/483) [دار إشبيليا، ط2/1419]. وانظر: مجموع الفتاوى (25/325 ـ 328، 333) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف، 1416هـ].
[21] أخرجه أبو داود (كتاب الصلاة، رقم 1134)، والنسائي (كتاب العيدين، رقم 1556) [مكتبة المعارف، ط1]، وأحمد (21/225) [مؤسسة الرسالة، ط2، 1420هـ]، والحاكم (كتاب صلاة العيدين، رقم 1091) وصححه على شرط مسلم، وكذا قال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (1/486)، والألباني في صحيح سنن أبي داود (رقم 1039) [مؤسسة غراس، ط1].
[22] اقتضاء الصراط المستقيم (1/486).
[23] أخرجه البخاري (كتاب المظالم والغصب، رقم 2468)، ومسلم (كتاب الطلاق، رقم 1479).
[24] تفسير الطبري (14/509).
[25] أخرجه مسلم (كتاب الآداب، رقم 2132).
[26] الولاء والبراء والعداء في الإسلام للبدراني (48) [مصدر الكتاب: موقع مشكاة الإسلامية].
[27] أخرجه البيهقي في الكبرى (كتاب الجزية، رقم 18863، 18864).
[28] انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (238).
[29] انظر: تفسير السعدي (856).
[30] أخرجه البخاري (كتاب الجهاد والسير، رقم 3007)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2494)، واللفظ للبخاري.
[31] أحكام القرآن (4/225) [دار الكتب العلمية]. وانظر: الجامع لأحكام القرآن (20/399) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1427هـ].
[32] مجموع الفتاوى (7/523).
[33] مجموع الفتاوى (28/228).
[34] أخرجه البخاري (كتاب الجزية، رقم 3183)، ومسلم (كتاب الزكاة، رقم 1003).
[35] أخرجه بهذه الزيادة البخاري (كتاب الأدب، رقم 5978).
[36] أخرجه البخاري (كتاب الإجارة، رقم 2263).
[37] أخرجه البخاري (كتاب البيوع، رقم 2096). وانظر: إيثار الحق على الخلق (370، 371) [دار الكتب العلمية، ط2، 1407هـ]، ودروس في شرح نواقض الإسلام للفوزان (92 ـ 94).
[38] شرح صحيح البخاري لابن بطال (8/427) [مكتبة الرشد، ط2، 1423هـ].
[39] انظر: قاعدة في الزهد والورع لابن تيمية ضمن مجموع الفتاوى (10/607، 608) [مكتبة ابن تيمية، ط2]، ودرء التعارض له (4/15) [دار الكتب العلمية، 1417هـ].
[40] فتح المجيد (338).
[41] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (10/609).
[42] أخرجه البخاري (كتاب الأدب، رقم 6011)، ومسلم (كتاب البر والصلة، رقم 2586).
[43] الفتاوى السعدية (1/98) [المؤسسة السعدية، الرياض].
[44] انظر: شرح العقيدة الطحاوية (405)، الولاء والبراء في الإسلام لمحمد بن سعيد القحطاني (136) [دار طيبة، ط1].
[45] أخرجه البخاري (كتاب الحدود، رقم 6780).
[46] يُنظر: مجموع الفتاوى (28/208، 209).
[47] ينظر: تفسير الطبري (18/282)، وتفسير البغوي (6/215)، وتفسير السمعاني (4/149) [دار الوطن، ط1، 1418هـ]، وزاد المسير (6/232) [المكتب الإسلامي، ط3، 1404هـ]
[48] ينظر: تفسير الطبري (18/282)، ومعاني القرآن للفراء (2/307) [عالم الكتب، ط3، 1403هـ]، وفتح القدير للشوكاني (4/224) [دار الفكر].
[49] تفسير القرطبي (14/17) [دار الشعب]، وتفسير ابن كثير (6/309).
[50] انظر: أحكام القرآن للكيا الهراسي (1/132) [دار الكتب العلمية، ط2، 1405هـ]، وإيثار الحق على الخلق لابن الوزير (373، 374) [دار الكتب العلمية، ط2، 1987م]، وإعانة المستفيد للفوزان (1/258) [مؤسسة الرسالة]، والقول المفيد على كتاب التوحيد (1/394) [دار ابن الجوزي، ط2، 1424هـ]، والعقد الثمين (8/344، 345) [مكتبة الطبري، ط1، 1403هـ]، وبحث: (المحبة الطبيعية للقريب الكافر ونحوه) لتميم القاضي، منشور في مجلة التأصيل، العدد الخامس.
[51] انظر: تفسير الطبري (8/122) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1422هـ]، وتفسير ابن كثير (2/243) [دار طيبة، ط2، 1420هـ].
[52] انظر: (حب الكافر لذاته مع بغض كفره هل يجوز شرعًا؟) مقال للشيخ البراك، نُشِرَ في مجلة البيان، عدد 310، جمادى الآخرة، (1434هـ)، وبحث: (المحبة الطبيعية للقريب الكافر ونحوه) لتميم القاضي، منشور في مجلة التأصيل، العدد الخامس.
[53] الفروق للقرافي (3/29) [دار الكتب العلمية، ط1، 1418هـ].
[54] أخرجه البخاري (كتاب الجزية، رقم 3161)، ومسلم (كتاب الفضائل، رقم 1392).
[55] أخرجه البخاري (كتاب الهبة، رقم 2619)، ومسلم (كتاب اللباس والزينة، رقم 2068).
[56] أخرجه البخاري (كتاب الجنائز، رقم 1356).
[57] أخرجه البخاري (كتاب التفسير، رقم 4772)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 24).
[58] أخرجه أبو داود (كتاب الأدب، رقم 5124)، والترمذي (أبواب الزهد، رقم 2392) وقال: حسن صحيح، وأحمد (28/408) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 417).
من الآثار الحميدة المترتبة على البراء من كل عمل لا يرضي الله:
ـ محبّة الله لأوليائه المؤمنين الّتي هي أعظم ما تنافس فيه المتنافسون.
ـ معيَّة الله لأوليائه المؤمنين بنصرتهم وتأييدهم وتسديدهم وإجابة دعائهم.
ـ بيان صفة أولياء الله وفضائلهم المتنوّعة.
ـ الولاء والبراء يقتضي عدم الاحتكام إلى أيّ طاغوت في أيّ حكم من الأحكام الدّينيّة أو الدّنيويّة.
ـ ومن آثار الحب في الله والبغض في الله أنه من أوثق عرى الإيمان، وبه تتحقق كثير من الشعائر الإسلامية، كالجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتتحقق التفرقة بين المؤمنين والكفار.
وجدت بعض المفاهيم الخاطئة والعقائد الفاسدة لدى بعض الناس في عقيدة البراء، والتي نشأت من الجهل والهوى والغلو، وهذه المفاهيم وقع فيها طائفتان:
ـ طائفة غلت وأسرفت حتى خرجت عن المشروع، حيث توهَّمت أن البراء من الكفار ومعاداتهم وبغضهم يجيز ظلمهم والاعتداء عليهم وسلب حقوقهم، فأجازت لنفسها ظلم الكفار، وأخذ أموالهم، والاعتداء على أعراضهم ودمائهم، دون تفريق بين أحوالهم وأشخاصهم.
ـ وطائفة أهملت وفرطت حتى أنكرت شرعية البراء من الكفار، ومعاداتهم، لظنها استلزام ذلك لما نُهي عنه من ظلمهم والاعتداء عليهم، أو لسوء فهمها لمبدأ التسامح والمحبة في الإسلام، فدعت إلى محبتهم وموادتهم ونزع عداوتهم.
والحق أن كلا الطائفتين ضلَّت عن سواء السبيل.
فإن البراء من الكفار ومعاداتهم وبغضهم لا يجيز ظلمهم والبغي عليهم، فالإسلام يأمر بالعدل حتى مع الأعداء ويحرم ظلمهم، بل إن مجرد الكذب عليهم لا يجوز.
أما الطائفة التي أنكرت العداوة والبراء والبغض للكفار لظنها بأن ذلك ملازم لظلمهم والاعتداء عليهم فليس الأمر كذلك، فلا تلازم بين الأمرين، فالمؤمن يبرأ من الكفار ويعاديهم ويبغضهم، ومع ذلك فهو لا يظلمهم بل يسلك معهم العدل في قوله وفعله ويحسن إلى غير المحاربين منهم ويتألفهم ويحب لهم الهداية، فالعدل مع الكافر وعدم ظلمه لا يعني مودته أو عدم بغضه[1].
[1] مفهوم عقيدة الولاء والبراء وأحكامها (90 ـ 92). بتصرف.
1 ـ «اقتضاء الصراط المستقيم»، لابن تيمية.
2 ـ «حقيقة الولاء والبراء في الكتاب والسُّنَّة بين تحريف الغالين وتأويل الجاهلين»، لعصام السناني.
3 ـ «الدرر السنية في الأجوبة النجدية» (ج2).
4 ـ «شرح العقيدة الطحاوية»، لابن أبي العز الحنفي.
5 ـ «شرح رسالة الدلائل في حكم موالاة أهل الإشراك»، للفوزان.
6 ـ «قاعدة في المحبة»، لابن تيمية.
7 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
8 ـ «مدارج السالكين»، لابن القيم.
9 ـ «الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية»، لمحماس بن عبد الله الجلعود.
10 ـ «الولاء والبراء»، للفوزان.
11 ـ «الولاء والبراء والعداء في الإسلام»، للبدراني.