اليأس : قال ابن فارس رحمه الله: «الياء والهمزة والسين كلمتان؛ إحداهما: اليأس: قطع الرجاء، ويقال: إنه ليست ياء في صدر كلمة بعدها همزة إلا هذه؛ يقال منه: يئس ييأس. والكلمة الأخرى: ألم تيأس؛ أي: ألم تعلم»[1].
اليأس : القنوط، وقيل: هو ضد الرجاء، وقطع الأمل. يقال: يئِس من الشيء ييأس، أيست منه آيسُ يأسًا، مثل: يئست منه أيأس[2].
والقنوط : قال ابن فارس رحمه الله: «القاف والنون والطاء كلمة صحيحة تدل على اليأس من الشيء، يقال: قنَط يقنِط، وقنِط يقنَط»[3].
والقُنوط : مصدر، وهو أشد اليأس، وقيل: اليأس مطلقًا، أو اليأس من الخير، وفيه ثلاث لغات: قنَط يَقْنِط قنوطًا، وقَنِطَ يَقْنَطُ قنْطًا، وقنَط يقنُط فهو قانط[4].
[1] مقاييس اللغة (6/153) [دار الجيل، ط 1420هـ].
[2] انظر: الصحاح (3/992) [دار العلم للملايين، ط3، 1404هـ]، ولسان العرب (15/431) [دار إحياء التراث العربي، ط3]، وترتيب القاموس المحيط «4/668) [دار عالم الكتب، ط4، 1417هـ].
[3] مقاييس اللغة (5/32).
[4] انظر: الصحاح (3/1155)، ولسان العرب لابن منظور (11/319)، وترتيب القاموس (3/700).
اليأس من رَوْح الله، والقنوط من رحمة الله ذنبان عظيمان، وهما من كبائر الذنوب كما دلّ على ذلك الكتاب والسُّنَّة، وأقوال سلف الأمة، وقد نص جمع من أهل العلم على عدِّهما من كبائر الذنوب، وهما ينافيان كمال التوحيد الواجب، وقد ينقلان عن ملة الإسلام؛ لأنهما قد يصلان بالعبد إلى اعتقاد سوء الظن بالله تعالى، والكفر بوعده ووعيده[1].
قال الإمام الطحاوي رحمه الله: «والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام، وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة»[2].
وقال ابن القيم رحمه الله: «فمن قنط من رحمته ويئس من رَوحه فقد ظن به ظن السوء»[3].
[1] انظر: العقيدة الطحاوية مع شرحها لابن أبي العز الحنفي (2/456) [مؤسسة الرسالة، ط13، 1419هـ]، والكبائر وتبيين المحارم للذهبي (128) [مؤسسة الرسالة، ط13]، والقول المفيد لابن عثيمين (2/106 ـ 108).
[2] انظر: العقيدة الطحاوية مع شرحها لابن أبي العز الحنفي (2/456).
[3] زاد المعاد (3/230) [مؤسسة الرسالة، ط27].
حقيقة اليأس من رَوح الله والقنوط من رحمة الله: هو فقد الرجاء بالكلية أو ضعفه في قلب العبد، مما ينتج عنه غلبة الخوف وشدته، وهما استبعاد رحمة الله تعالى، واستبعاد حصول المطلوب، واستبعاد زوال المكروه، وذلك كله سوء ظن بالله تعالى، وجهل به، وبسعة رحمته، ومغفرته، فهما يستلزمان الطعن في قدرته عزّ وجل لأن من علم أن الله تعالى على كل شيء قدير لم يستبعد شيئًا على قدرة الله تعالى. والطعن في رحمته سبحانه؛ لأن من علم أن الله رحيم لا يستبعد أن يرحمه الله سبحانه، ولهذا كان القانط من رحمة الله ضالًّا[1].
[1] انظر: زاد المعاد (3/230)، والزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيتمي (114)، والقول السديد لابن سعدي ـ ضمن المجموعة الكاملة (3/37) [مركز صالح بن صالح الثقافي، ط2، 1412هـ]، والقول المفيد لابن عثيمين (2/103 ـ 107).
قال الله تعالى: {وَلاَ تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ *} [يوسف] ، وقال تعالى: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ *} [الحجر] ، وقال تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] .
ومن السُّنَّة حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الكبائر، قال: «الشرك بالله، واليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله»[1].
وعن ابن مسعود رضي الله عنهما قال: «أكبر الكبائر: الإشراك بالله والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله»[2].
وعن جابر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل وفاته بثلاث يقول: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن بالله الظن»[3].
[1] أخرجه البزار كما في كشف الأستار (1/71) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وابن أبي حاتم في تفسيره (3/931) [مكتبة الباز، ط3]، وقال ابن كثير في تفسيره (2/279) [دار طيبة، ط2]: «في إسناده نظر والأشبه أن يكون موقوفًا». وأخرجه موقوفًا: الطبراني في الكبير (12/252) [مكتبة ابن تيمية، ط2]، وحسن إسناده الهيثمي في مجمع الزوائد (7/116) [مكتبة القدسي].
[2] أخرجه عبد الرزاق في المصنف (جامع معمر، رقم 19701)، وابن جرير في تفسيره (8/243) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والطبراني في الكبير (9/156) [مكتبة ابن تيمية، ط2]، وصححه ابن كثير في تفسيره (2/279) [دار طيبة، ط2]، والهيتمي في مجمع الزوائد (1/104) [مكتبة القدسي].
[3] أخرجه مسلم (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم 2877).
قال ابن القيم رحمه الله وهو يعدد الكبائر: «الكبائر... القنوط من رحمة الله، واليأْس من روح الله، وتوابع هذه الأمور التي هي أشد تحريمًا من الزنا، وشرب الخمر وغيرهما من الكبائر الظاهرة، ولا صلاح للقلب ولا للجسد إلا باجتنابها، والتوبة منها، وإلا فهو قلب فاسد، وإذا فسد القلب فسد البدن»[1].
وقال ابن قاسم رحمه الله: «القنوط: استبعاد الفرج، واليأس منه، والفرق بينهما لطيف، وسوء ظن بالله تعالى، وهو يقابل الأمن من مكر الله، وكلاهما ذنب عظيم، منافيان لكمال التوحيد، ذكرهما المصنف تنبيهًا على أنه لا يجوز لمن خاف الله أن يقنط من رحمته، بل يكون خائفًا راجيًا، يخاف ذنبه، ويعمل بطاعة الله ويرجو رحمة ربه»[2].
وقال ابن عثيمين رحمه الله: «فالقنوط من رحمة الله لا يجوز؛ لأنه سوء ظن بالله عزّ وجل، وذلك من وجهين: الأول: أنه طعن في قدرته سبحانه؛ لأن من علم أن الله على كل شيء قدير لم يستبعد شيئًا على قدرة الله. الثاني: أنه طعن في رحمته سبحانه؛ لأنه من علم أن الله رحيم لا يستبعد أن يرحمه سبحانه، ولهذا كان القانط من رحمة الله ضالًّا»[3].
[1] مدارج السالكين (1/133).
[2] حاشية ابن قاسم على كتاب التوحيد (256، 257) [ط14، 1424هـ].
[3] القول المفيد (2/103، 104).
ـ أسباب القنوط:
للقنوط من رحمة الله واليأس من رَوحه سببان:
أحدهما: أن يسرف العبد على نفسه ويتجرأ على المحارم فيصرّ عليها ويصمم على الإقامة على المعصية ويقطع طمعه من رحمة الله؛ لأجل أنه مقيم على الأسباب التي تمنع من الرحمة، فلا يزال كذلك حتى يصير له هذا وصفًا وخُلُقًا لازمًا، وهذا غاية ما يريده الشيطان من العبد، ومتى وصل إلى هذا الحد لم يرج له خير إلا بتوبة نصوح وإقلاع قوي.
الثاني: أن يقوى خوف العبد بما جنت يداه من الجرائم، ويضعف علمه بما لله من واسع الرحمة والمغفرة، ويظن بجهله أن الله لا يغفر له، ولا يرحمه ولو تاب وأناب، وتضعف إرادته فييأس من الرحمة، وهذا من المحاذير الضارة الناشئة من ضعف علم العبد بربه وما له من الحقوق، ومن ضعف النفس وعجزها ومهانتها.
فلو عرف هذا ربه، ولم يخلد إلى الكسل، لعلم أن أدنى سعي يوصله إلى ربه وإلى رحمته وجوده وكرمه[1].
[1] انظر: القول السديد لابن سعدي ـ ضمن المجموعة الكاملة (3/37).
الفرق بين اليأس والقنوط:
اليأس والقنوط في أصل المعنى هما بمعنى واحد، لكن قد يفترقان:
ـ إما أن يقال: إن اليأس والقنوط إذا اجتمعا افترقا، فيكون القنوط بمعنى استبعاد رحمة الله تعالى، واستبعاد حصول المطلوب، وأما اليأس: فهو استبعاد حصول المكروه، وأما إذا افترقا اجتمعا؛ أي: أنهما بمعنى واحد: وهو قطع الرجاء.
وقال ابن عثيمين رحمه الله في شرح قول ابن مسعود رضي الله عنه: «المراد بالقنوط: أن يستبعد رحمة الله، ويستبعد حصول المطلوب، والمراد باليأس هنا أن يستبعد الإنسان زوال المكروه، وإنما قلنا ذلك لئلا يحصل تكرار في كلام ابن مسعود»[1].
ـ أو أن بينهما فرقًا: فيكون القنوط أبلغ وأشد من اليأس[2]، على قول البعض، أو أن اليأس أشد من القنوط على قول البعض؛ لأن القنوط حكم على أهله بالضلال، وأما اليأس فقد حكم لأهله بالكفر.
قال سليمان بن عبد الله رحمه الله: «فعلى هذا يكون الفرق بينه ـ أي: القنوط ـ وبين اليأس كالفرق بين الاستغاثة والدعاء فيكون القنوط من اليأس؛ وظاهر القرآن أن اليأس أشد لأنه حكم لأهله بالكفر، ولأهل القنوط بالضلال»[3].
ـ أو يقال: إن القنوط أعم من اليأس؛ لأن الرحمة المضافة إلى القنوط أعم من الرَّوح؛ فالرحمة تشمل جلب النعم، ودفع النقم، ورَوح الله عزّ وجل يطلق في الغالب في الخلاص من المصائب، فهو بمعنى التنفيس والتفريج، فيكون إذًا هذا من باب عطف الخاص على العام[4].
الفرق بين اليأس والاستيئاس:
الاستيئاس مقبول ومشروع، فالرسل عليهم السلام قد يصلوا إليه، قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 110] ، ولكن اليأس محرم يقول الله تعالى: {وَلاَ تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ *} [يوسف] ، فالاستيئاس هو ألا يجد العبد طريقًا إلى حل المشكلة ولكن يعرف ويوقن أن لله طرائق وحلولاً أكثر من أنفاس المخلوقات، فالعبد هنا يائس من آرائه وفكره، موقن في ربه ووسع فضله وعلمه. أما اليأس فهو قاطع للرجاء والأمل من الله فيما يرومه ويقصده[5].
[1] القول المفيد على كتاب التوحيد (2/107).
[2] انظر: النهاية في غريب الحديث (4/113) [دار إحياء التراث العربي]، ولسان العرب (11/319).
[3] تيسير العزيز الحميد (2/886).
[4] التمهيد لشرح كتاب التوحيد (386، 387) [دار التوحيد، ط1، 1424هـ].
[5] انظر: مجموع الفتاوى (15/181 ـ 184) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف].
1 ـ أن فيه تكذيبًا لله ولرسوله.
اليأْس من رحمة الله، وتفريجه من صفة الكافرين، إذ فيه إمَّا التكذيب بالربوبية، وإمَّا الجهل بصفات الله تعالى[1].
2 ـ الفتور والكسل عن فعل الطاعات والغفلة عن ذكر الله، فالقانط آيس من نفع الأعمال، ومن لازم ذلك تركها[2].
3 ـ اليأْس من رَوح الله والقنوط من رحمته؛ يؤدي إلى ترك العمل، والاستمرار في الذنوب والمعاصي.
قال أبو قلابة: الرجل يصيب الذنب فيقول: قد هلكت ليس لي توبة، فييأس من رحمة الله، وينهمك في المعاصي، فنهاهم الله تعالى عن ذلك، قال الله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ *} [يوسف] [3].
4 ـ سبب لفساد القلب: فالقنوط من رحمة الله، واليأْس من روح الله، وتوابع هذه الأمور التي هي أشد تحريمًا من الزنا، وشرب الخمر وغيرهما من الكبائر الظاهرة، ولا صلاح للقلب ولا للجسد إلا باجتنابها، والتوبة منها، وإلا فهو قلب فاسد، وإذا فسد القلب فسد البدن[4].
[1] انظر: تفسير ابن عطية (3/274) [دار الكتب العلمية، ط1، 1422هـ].
[2] انظر: الزواجر عن اقتراف الكبائر (1/122).
[3] انظر: تفسير البغوي (1/240).
[4] مدارج السالكين (1/133).
1 ـ «أعمال القلوب حقيقتها وأحكامها عند أهل السُّنَّة»، لسهل العتيبي.
2 ـ «التمهيد لشرح كتاب التوحيد»، لصالح آل الشيخ.
3 ـ «تيسير العزيز الحميد»، لسليمان بن عبد الله.
4 ـ «الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي»، لابن القيم.
5 ـ «الزواجر عن اقتراف الكبائر»، لابن حجر الهيتمي.
6 ـ «شرح العقيدة الطحاوية»، لابن أبي العز الحنفي.
7 ـ «القول السديد في مقاصد التوحيد»، للسعدي.
8 ـ «القول المفيد على كتاب التوحيد»، لابن عثيمين.
9 ـ «الكبائر وتبيين المحارم»، للذهبي.
10 ـ «مدارج السالكين»، لابن القيم.