يحيى : اسم عربي، سمي به؛ أخذًا من الفعل المضارع (يحيى) ومعناه يعيش، وهو نقيض الموت، كقول الله تعالى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] ، وقوله: {ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا *} [الأعلى] ، قال الأزهري: «قال الليث: يقال: حيي يحيا فهو حي»[1]، وقال ابن دريد: «والحي: ضد الميت؛ حيي يحيا حياة طيبة»[2]، وقال النحاس في قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} [آل عمران: 39] : «(بِيَحْيَى) لم ينصرف؛ لأنه فعل مستقبل سمي به»[3]. وذكر غير واحد أن هذا هو المشهور عن المفسرين، قال ابن عادل الحنبلي: «و(يَحْيَى) فيه قولان: أحدهما ـ وهو المشهور عند المفسِّرين ـ: أنه منقول من الفعل المضارع، وقد سَمّوا بالأفعال كثيرًا، نحو: يعيش، ويعمر، ويموت. قال قتادة: «سُمِّي بيحيى؛ لأن الله أحياه بالإيمان»، وقال الزَّجَّاج: «حيي بالعلم»، وعلى هذا فهو ممنوع من الصرف للعَلَميَّة ووزن الفعل، نحو يزيد ويشكر وتغلب»[4].
ورجح الزمخشري كونه اسمًا أعجميًّا، فقال: «ويحيى إن كان أعجميًّا ـ وهو الظاهر ـ فمنع صرفه للتعريف والعجمة كموسى وعيسى، وإن كان عربيًّا فللتعريف»[5]. وتبعه في ذلك أبو حيان[6] وغيره. قال السيوطي: «ويحيى اسم عجمي وقيل: عربي»[7]. ورده الدكتور ف. عبد الرحيم بقوله: «يحيى بن زكريا عليه السلام، هذا الاسم العربي، المقابل ليوحنا بالسريانية، وليس معرَّبًا، وإن رجح الزمخشري كونه معرَّبًا»[8].
وهذا هو الراجح؛ لأمور:
الأمر الأول: أن هذا الاسم لم يكن معروفًا لدى العجم أصلاً، وأن أول من سمي بيحيى هو نبي الله يحيى، سماه الله به، ولم يكل تسميته إلى أبويه، وأخبر سبحانه أنه لم يتسمَّ أحد قبل يحيى بيحيى، فقال تعالى: {يَازَكَريَا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا *} [مريم] . روى الإمام عبد الرزاق بسند صحيح[9] عن قتادة أنه قال في قوله تعالى: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا *}: «لم يسمَّ أحد قبله يحيى»[10].
الثاني: أن الاسم الأعجمي لا اشتقاق له في العربية، وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن (يحيى) مشتق من الحياة، وهذا يدل على أنه عربي. فقد روى الطبري بسند حسن[11] عن قتادة في قوله: {يَازَكَريَا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى} [مريم: 7] أنه قال: «عبد أحياه الله للإيمان»[12]. وقال ابن كثير: «قال قتادة وغيره: إنما سمي يحيى؛ لأن الله تعالى أحياه بالإيمان»[13].
ونقل السيوطي عن الكرماني تعليله وجه تسمية يحيى بيحيى على هذا القول فقال: «إنما سمّي به؛ لأنه أحياه الله بالإيمان، وقيل: لأنه حي به رحم أمه، وقيل: لأنه استشهد والشهداء أحياء»[14].
وقال السعدي: «وسماه الله له (يحيى)، وكان اسمًا موافقًا لمسمَّاه؛ يحيا حياة حسية، فتتم به المنة، ويحيا حياة معنوية، وهي حياة القلب والروح، بالوحي والعلم والدين»[15].
الثالث: أنه لا دليل على الجزم بأنه أعجمي إلا إن قيل: إن أباه أعجمي، والأعجمي يسمي ابنه بالاسم الأعجمي، وهذا يرده الواقع المشاهد، فكم من الأعاجم يسمون أبناءهم بمحمد وأحمد وعلي وصالح، إلى غير ذلك.
الرابع: أن الكتب المتخصصة ببيان الأسماء الأعجمية[16] أدرجت اسم (زكريا)، وبينت كونه أعجميًّا، ولم تدرج اسم (يحيى). وأما جزم الزمخشري ومن تبعه بأن (يحيى) اسم أعجمي دون ذكر دليل ففيه نظر؛ ولذا رده الدكتور ف. عبد الرحيم كما تقدم، والله أعلم.
[1] تهذيب اللغة (5/183) [دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 2001م]. وانظر: القاموس المحيط (1277) [مؤسسة الرسالة، ط8، 1426هـ].
[2] جمهرة اللغة (1/232) [دار العلم للملايين، ط1].
[3] إعراب القرآن للنحاس (1/374) [عالم الكتب، بيروت، 1409هـ].
[4] اللباب في علوم الكتاب لابن عادل (5/194).
[5] الكشاف للزمخشري (1/359) [دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، 1407هـ].
[6] البحر المحيط لأبي حيان (3/108) [دار الفكر].
[7] الإتقان في علوم القرآن (4/77).
[8] الإعلام بأصول الأعلام الواردة في قصص الأنبياء للدكتور ف. عبد الرحيم (192) [دار القلم، ط1، 1413هـ].
[9] انظر: الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور لحكمت بشير ياسين (3/333).
[10] تفسير القرآن لعبد الرزاق الصنعاني (2/4) [مكتبة الرشد، الرياض، ط1، 1410هـ].
[11] انظر: الصحيح المسبور (3/333).
[12] تفسير الطبري (5/370) [دار هجر، ط1].
[13] تفسير ابن كثير (2/37).
[14] الإتقان في علوم القرآن (4/77).
[15] تفسير السعدي (490).
[16] كالمعرّب للجواليقي، والإعلام بأصول الأعلام الواردة في قصص الأنبياء للدكتور ف. عبد الرحيم.
ولد يحيى بن زكريا عليه السلام قبل عيسى عليه السلام بستة أشهر[1]، وبشر بمجيئه، ثم جاء وظهر عيسى عليه السلام في زمن يحيى بن زكريا عليه السلام، كما سيتضح من حديث الحارث الأشعري[2].
[1] انظر: المنتظم لابن الجوزي (2/7) [دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1412هـ].
[2] سيأتي تخريجه. وانظر أيضًا: رحمة للعالمين لمحمد سليمان (539).
ذكر الله نبوة يحيى عليه السلام في القرآن الكريم، فقد أورد اسمه ضمن أنبيائه ورسله الكرام عليهم السلام، فقال سبحانه: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ *} [الأنعام] .
وذكره النبي صلّى الله عليه وسلّم ضمن الأنبياء الذين لقيهم في السماوات، كما جاء في حديث الإسراء والمعراج عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل عليه السلام فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بابني الخالة عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا ـ صلوات الله عليهما ـ فرحبا ودعوا لي بخير...»[1].
[1] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3430)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 162)، واللفظ له.
كان بنو إسرائيل مأمورين بالتوراة، فكانوا يتدارسونها بينهم، ولما بلغ يحيى عليه السلام سن التمييز أمره الله بتعلم الكتاب، وهو هذه التوراة، وذلك بحفظ ألفاظها، ومعرفة معانيها، والأخذ بها بقوة، وذلك بالعمل بأوامرها وترك نواهيها[1]، فقال سبحانه: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا *} [مريم] .
وقد ذكر ابن كثير: «أن الله علمه الكتاب، وهو التوراة التي كانوا يتدارسونها بينهم، ويحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار. وقد كان سنّه إذ ذاك صغيرًا، فلهذا نوّه بذكره، وبما أنعم به عليه وعلى والديه، فقال: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ}؛ أي: تعلم الكتاب بقوة؛ أي: بجد وحرص واجتهاد، {وآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا *}؛ أي: الفهم والعلم والجد والعزم، والإقبال على الخير، والإكباب عليه، والاجتهاد فيه، وهو صغير حدث السن»[2].
وقال الشنقيطي: «والكتاب: التوراة؛ أي: خذ التوراة بقوة؛ أي: بجد واجتهاد، وذلك بتفهم المعنى أولاً حتى يفهمه على الوجه الصحيح، ثم يعمل به من جميع الجهات، فيعتقد عقائده، ويحل حلاله، ويحرم حرامه، ويتأدب بآدابه، ويتعظ بمواعظه، إلى غير ذلك من جهات العمل به، وعامة المفسرين على أن المراد بالكتاب هنا: التوراة، وحكى غير واحد عليه الإجماع، وقيل: هو كتاب أنزل على يحيى، وقيل: هو اسم جنس يشمل الكتب المتقدمة، وقيل: هو صحف إبراهيم، والأظهر قول الجمهور: إنه التوراة، كما قدمنا»[3].
[1] انظر: تفسير السعدي (490).
[2] تفسير ابن كثير (5/216). وانظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى (1/208) [دار الفيحاء، عمّان، ط2].
[3] أضواء البيان (3/378) [دار الفكر، 1415هـ].
دعوة نبي الله يحيى عليه السلام كانت إلى خمس مسائل، في مقدمتها: الدعوة إلى تحقيق توحيد الله، وإفراده بالعبادة، والتحذير من الشرك، والأمر بالبعد عنه، وعدم صرف شيء من خصائص الله لغيره كائنًا من كان، وهذه الخصال الخمس قد جاء بيانها في حديث الحارث الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بها، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، وإنه كاد أن يبطئ بها ، فقال عيسى: إن الله أمرك بخمس كلمات لتعمل بها وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، فإما أن تأمرهم وإما أنا آمرهم، فقال يحيى: أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي أو أعذب، فجمع الناس في بيت المقدس، فامتلأ المسجد وتعدوا على الشرف، فقال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن، وآمركم أن تعملوا بهن، أولهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وإن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبدًا من خالص ماله بذهب أو وَرِق، فقال: هذه داري وهذا عملي فاعمل وأدِّ إلي، فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده، فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك؟ وإن الله أمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا، فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت، وآمركم بالصيام، فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة فيها مسك، فكلهم يعجب أو يعجبه ريحها، وإن ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وآمركم بالصدقة، فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فأوثقوا يده إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه، فقال: أنا أفديه منكم بالقليل والكثير، ففدى نفسه منهم، وآمركم أن تذكروا الله، فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعًا، حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن: السمع، والطاعة، والجهاد، والهجرة، والجماعة، فإن من فارق الجماعة قِيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يرجع، ومن ادعى دعوى الجاهلية، فإنه من جثا جهنم ، فقال رجل: يا رسول الله وإن صلى وصام؟ قال: وإن صلى وصام، فادعوا بدعوى الله الذي سمَّاكم المسلمين المؤمنين عباد الله»[1].
[1] أخرجه الترمذي (أبواب الأمثال، رقم 2863) وقال: حسن صحيح، وأحمد (28/406) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1421هـ]، وابن خزيمة (كتاب الصيام، رقم 1895)، وابن حبان (كتاب التاريخ، رقم 6233)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (رقم 1724) [المكتب الإسلامي].
قوم يحيى بن زكريا عليه السلام هم بنو إسرائيل، كما تقدم في حديث الحارث الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بها، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها»[1].
وقد كذبوه وآذوه، بل اعتدوا عليه حتى مات عليه السلام مقتولاً مظلومًا، وقد أدخله بعض المفسرين تحت الفريق المقتول الذي ذكره الله تعالى بقوله: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ *} [البقرة] ، قال الشوكاني: «ومن الفريق المكذَّبين عيسى ومحمد، ومن الفريق المقتولين يحيى وزكريا»[2].
وذكر في قتله أسباب؛ من أشهرها: أن ملك دمشق في ذلك الوقت أراد الزواج من إحدى محارمه، قيل: إنها خالته، وقيل: عمته، وقيل غير ذلك، فسئل يحيى عن حكم هذا الزواج، فأجاب بأنها لا تحل له، وكانت تلك المرأة تريد الملك، فأرادت الانتقام من يحيى، فذهبت إلى الملك وطلبت منه أن يتزوجها ويجعل مهرها إحضار رأس نبي الله يحيى بن زكريا عليه السلام فطلب منها غير هذا، فأصرت على هذا الطلب الوحيد، فقتله وجاءها برأسه[3].
وفي تحديد مكان قتله قولان:
أحدهما: أنه في الصخرة التي ببيت المقدس، لما نقله الثوري عن شمر بن عطية من أنه قتل على الصخرة التي ببيت المقدس سبعون نبيًّا، منهم يحيى بن زكريا عليه السلام.
والآخر: أنه في دمشق، لما نقله أبو عبيد القاسم بن سلام بسنده عن سعيد بن المسيب من أن بختنصر قدم دمشق، فإذا هو بدم يحيى بن زكريا يغلي، فسأل عنه فأخبروه، فقتل على دمه سبعين ألفًا فسكن، وصحح ابن كثير هذا الأخير إلى سعيد بن المسيب، وذكر أن هذا يقتضي أنه قتل بدمشق[4].
[1] تقدّم تخريجه.
[2] فتح القدير للشوكاني (1/130) [دار ابن كثير ودار الكلم الطيب، ط1، 1414هـ].
[3] انظر: صحيح (قصص الأنبياء لابن كثير) لسليم الهلالي (448) [دار غراس، ط1، 1422هـ]، وفبهداهم اقتده: قراءة تأصيلية في سير وقصص الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ لعثمان الخميس (428، 429) [دار إيلاف الدولية، ط1، 1431هـ].
[4] انظر: قصص الأنبياء لابن كثير (2/364) [مطبعة دار التأليف، القاهرة، ط1، 1388هـ] وصحيح (قصص الأنبياء لابن كثير) لسليم الهلالي (448).
المسألة الأولى: معنى كون يحيى عليه السلام حصورًا:
قال الله تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ *} [آل عمران] . قال البخاري: «وقال ابن جبير: {وَحَصُورًا} لا يأتي النساء»[1].
وقال السمعاني: «والحصور: قال سعيد بن جبير ومجاهد والضحاك وعطاء وجماعة: هو الذي لا يأتي النساء»[2].
ففي هذا بيان لمعنى الحصور، وهو الذي لا يأتي النساء، وعدم إتيانه للنساء لم يكن لآفة وإنما كان باختياره انقطاعًا للعبادة.
قال ابن جرير: «قوله تعالى: {وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ *} يعني بذلك: ممتنعًا من جماع النساء»[3].
وقال البغوي: «والحصور: أصله من الحصر، وهو الحبس، والحصور في قول ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وعطاء والحسن: الذي لا يأتي النساء ولا يقربهن، وهو على هذا القول، (فعول) بمعنى (فاعل)؛ يعني: أنه يحصر نفسه عن الشهوات»[4].
وقال ابن حجر: «وأصل الحصر: الحبس والمنع، يقال لمن لا يأتي النساء، أعم من أن يكون ذلك بطبعه كالعِنِّين، أو بمجاهدة نفسه، وهو الممدوح والمراد في وصف السيد يحيى عليه السلام»[5].
وقال العيني: «وعند الشافعي التخلي للعبادة أفضل؛ لقوله عزّ وجل في يحيى ـ عليه الصلاة والسلام ـ: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} وهو الذي لا يأتي النساء مع القدرة على إتيانهن، فمدح الله به»[6].
وقال الشنقيطي: «والتحقيق في معنى قوله: {وَحَصُورًا} [آل عمران: 39] ، أنه الذي حصر نفسه عن النساء مع القدرة على إتيانهن؛ تبتلاً منه، وانقطاعًا لعبادة الله، وكان ذلك جائزًا في شرعه، وأما سُنَّة النبي صلّى الله عليه وسلّم فهي التزويج وعدم التبتل»[7].
وأما ما قيل في تفسير الحصور بمعنى المحصور عن النساء لِعِنَّة وعدم القدرة على إتيانهن، فهذا غير صحيح؛ لأن هذا نقص وعيب في الرجال، وليس هو من فعله حتى يمدح به.
قال الشنقيطي: «أما قول من قال: إن الحصور: (فعول) بمعنى (مفعول)، وأنه محصور عن النساء؛ لأنه عنين لا يقدر على إتيانهن فليس بصحيح؛ لأن العنة عيب ونقص في الرجال، وليست من فعله حتى يثنى عليه بها، فالصواب ـ إن شاء الله ـ هو ما ذكرنا، واختاره غير واحد من العلماء، وقول من قال: إن الحصور هو الذي لا يدخل مع القوم في الميسر...قول ليس بالصواب في معنى الآية، بل معناها هو ما ذكرنا»[8].
المسألة الثانية: فيما يتعلق بالقبر الذي في الجامع الأموي:
قيل: إن يحيى عليه السلام مدفون في الجامع الأموي، لما رواه أبو الحسن الربعي بإسناده عن زيد بن واقد قال: «وكلني الوليد على العمال في بناء جامع دمشق، فوجدنا فيه مغارة، فعرفنا الوليد ذلك، فلما كان الليل وافى وبين يديه الشمع، فنزل فإذا هي كنيسة لطيفة ثلاثة أذرع في ثلاثة أذرع، وإذا فيها صندوق ففتح الصندوق، فإذا فيه سفط وفي السفط رأس يحيى بن زكريا، فأمر به الوليد فرد إلى المكان، وقال: اجعلوا العمود الذي فوقه مغيرًا من الأعمدة، فجعلوا عليه عمودًا مسفط الرأس»[9].
وهذا الأثر غير صحيح؛ لأن في إسناده إبراهيم الغساني، وقد كذّبه غير واحد، قال الألباني: «ونحن نقطع ببطلان قولهم، وأن أحدًا من الصحابة والتابعين لم ير قبرًا ظاهرًا في مسجد بني أمية أو غيره، بل غاية ما جاء فيه بعض الروايات عن زيد بن أرقم بن واقد، أنهم في أثناء العمليات، وجدوا مغارة فيها صندوق فيه سفط (وعاء كامل) وفي السفط رأس يحيى بن زكريا عليه السلام مكتوب عليه: هذا رأس يحيى عليه السلام، فأمر به الوليد فرد إلى المكان، وقال: اجعلوا العمود الذي فوقه مغيرًا من الأعمدة، فجُعل عليه عمودٌ مسبك بسفط الرأس... وإسناده ضعيف جدًّا؛ فيه إبراهيم بن هشام الغساني، كذبه أبو حاتم وأبو زرعة[10]، وقال الذهبي: متروك[11].
ومع هذا فإننا نقطع أنه لم يكن في المسجد صورة قبر، حتى أواخر القرن الثاني؛ لما أخرجه الربعي وابن عساكر عن الوليد بن مسلم، أنه سئل: أين بلغك رأس يحيى بن زكريا؟ قال: بلغني أنه ثَمَّ، وأشار بيده إلى العمود المسفط الرابع من الركن الشرقي، فهذا يدل على أنه لم يكن هناك قبر في عهد الوليد بن مسلم، وقد توفي سنة أربع وتسعين ومِائة، وأما كون ذلك الرأس هو رأس يحيى عليه السلام فلا يمكن إثباته، ولذلك اختلف المؤرخون اختلافًا كثيرًا، وجمهورهم على أن رأس يحيى عليه السلام مدفون في مسجد حلب، ليس في مسجد دمشق»[12].
وليس هناك دليل صحيح في تحديد مكان قبر يحيى عليه السلام ولا زكريا، ولا غيرهما من الأنبياء، إلا قبر نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم. خلافًا لما يدّعى أن قبري يحيى وزكريا موجودان في هذا الجامع الأموي، وهي دعوى خالية عن الحجة والبرهان.
[1] صحيح البخاري (6/33) [دار طوق النجاة، ط1، 1422هـ]، وذكر ابن حجر أنه جاء موصولاً في تفسير الثوري. انظر: فتح الباري لابن حجر (8/209).
[2] تفسير السمعاني (1/316) [دار الوطن، الرياض، ط1، 1418هـ].
[3] تفسير الطبري (5/376) [دار هجر، ط1، 1422هـ].
[4] تفسير البغوي (1/437) [دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1420هـ].
[5] فتح الباري لابن حجر (8/209).
[6] عمدة القاري شرح صحيح البخاري (20/93) [دار الكتب العلمية، ط1، 1421هـ].
[7] أضواء البيان (3/384).
[8] المصدر نفسه (3/384).
[9] فضائل الشام ودمشق للربعي (33) [مطبوعات المجمع العلمي العربي بدمشق، ط1، 1950م]، ورواه من طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (2/241) [دار الفكر، 1415هـ].
[10] الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (2/143) [مجلس دائرة المعارف العثمانية، بحيدر آباد، ودار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1271هـ].
[11] ميزان الاعتدال للذهبي (1/73) [دار المعرفة، ط1].
[12] تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد (63، 46) [المكتب الإسلامي، بيروت، ط4].
1 ـ «الشفا بتعريف حقوق المصطفى» (ج1)، للقاضي عياض.
2 ـ «تاريخ دمشق» (ج64)، لابن عساكر.
3 ـ «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم» (ج2)، لابن الجوزي.
4 ـ «قصص الأنبياء» (ج2)، لابن كثير.
5 ـ «صحيح (قصص الأنبياء لابن كثير)» لسليم الهلالي.
6 ـ «فتح القدير» (ج1)، للشوكاني.
7 ـ «أضواء البيان» (ج3)، للشنقيطي.
8 ـ «رحمة للعالمين»، لمحمد سليمان.
9 ـ «فبهداهم اقتده: قراءة تأصيلية في سير وقصص الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ»، لعثمان الخميس.
10 ـ «الأحاديث الصحيحة من أخبار وقصص الأنبياء»، لإبراهيم بن محمد العلي.