حرف الياء / يزيد بن معاوية

           

يزيد بن معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس، الخليفة أبو عبد الرحمن وأبو خالد القرشي الأموي[1]. سمّـاه والده أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان باسم أخيه يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهم[2].


[1] انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (65/394) [دار الفكر، 1415هـ]، وسير أعلام النبلاء (4/35، 36) [مؤسسة الرسالة، ط3، 1405هـ]، والبداية والنهاية لابن كثير (10/223) [دار هجر، ط1، 1418هـ]، وتهذيب التهذيب لابن حجر (11/360، 361) [دائرة المعارف النظامية، الهند، ط1، 1326هـ].
[2] جامع المسائل لابن تيمية (5/145) [دار عالم الفوائد، ط1، 1422هـ].


ولد يزيد بن معاوية سنة خمس وعشرين للهجرة، في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وتوفي في اليوم الرابع عشر من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين للهجرة[1].


[1] البداية والنهاية لابن كثير (10/223)، وتهذيب التهذيب لابن حجر (11/361)، وتعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة لابن حجر (2/377) [دار البشائر، ط1 1996م].


يعتقد أهل السُّنَّة والجماعة أن يزيد بن معاوية رضي الله عنه من خلفاء المسلمين، الذين لهم حسنات وسيئات، ولكن مع ذلك لا يحبونه ولا يمدحونه، كما يفعل الغلاة فيه، ولا يسبونه ولا يكفرونه، كما يفعل الروافض، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذا القول هو أعدل الأقوال فيه وفي أمثاله[1]، وهو المنصوص عن إمام أهل السُّنَّة والجماعة أحمد بن حنبل كما سيأتي قريبًا[2]، وعليه فأهل السُّنَّة وسط في أمره، كما هو شأنهم في جميع أمور الدين.
أما كونهم لا يحبونه ولا يمدحونه؛ فلِما وقع في خلافته من حوادث فظيعة، وأمور شنيعة، من أنكرها قتل الحسين ووقعة الحرة[3]، وما لحق بالصحابة في المدينة النبوية من المقتلة العظيمة والمصائب الكبيرة.
روى الخلال بإسناده عن مهنَّا أنه قال: «سألت أحمد عن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، قال: هو فعل بالمدينة ما فعل، قلت: وما فعل؟ قال: قتل بالمدينة من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وفعل، قلت: وما فعل؟ قال: نهبها. قلت: فيذكر عنه الحديث؟ قال: لا يذكر عنه الحديث ولا ينبغي لأحد أن يكتب عنه حديثًا»[4].
وقد أشار إلى هذا شيخ الإسلام فقال: «وقد سئل أحمد بن حنبل، عن يزيد: أيكتب عنه الحديث؟ فقال: لا، ولا كرامة، أليس هو الذي فعل بأهل الحرة ما فعل؟ وقال له ابنه: إن قومًا يقولون: إنا نحب يزيد. فقال: هل يحب يزيد أحد فيه خير؟ فقال له: فلماذا لا تلعنه؟ فقال: ومتى رأيت أباك يلعن أحدًا؟»[5].
وقال ابن تيمية: «يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الذي تولى على المسلمين بعد أبيه معاوية بن أبي سفيان...وهو الذي قُتل الحسين في خلافته، وهو الذي جرى بينه وبين أهل الحرة ما جرى، وليس هو من الصحابة، ولا من الخلفاء الراشدين المهديين، بل هو خليفة من الخلفاء الذين تولوا بعد الخلفاء الراشدين، كأمثاله من خلفاء بني أمية وبني العباس، وهؤلاء الخلفاء لم يكن فيهم من هو كافر، بل كلهم كانوا مسلمين، ولكن لهم حسنات وسيئات، كما لأكثر المسلمين»[6].
وأما كونهم لا يسبونه ولا يلعنونه فلأمور؛ منها:
أ ـ لِما يعلمونه من إسلامه، وعدم خروجه من الملة، فقد روى الخلال بإسناده عن أبي طالب أنه قال: «سألت أبا عبد الله ـ يعني الإمام أحمد ـ من قال: لعن الله يزيد بن معاوية، قال: لا أتكلم في هذا، قلت: ما تقول؟ فإن الذي تكلم به رجل لا بأس به وأنا صائر إلى قولك، فقال أبو عبد الله: قال النبي: «لعن المؤمن كقتله» [7]، وقال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم» [8] وقد صار يزيد فيهم»[9].
ب ـ أنه كان مع أول جيش غزا القسطنطينية، فقد ثبت من حديث أم حرام عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم»[10].
قال ابن تيمية: «ويزيد هذا الذي ولي الملك هو أول من غزا القسطنطينية، غزاها في خلافة أبيه معاوية. وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له»»[11].
وقال ابن كثير في بيان موقف الناس من يزيد: «الناس في يزيد بن معاوية أقسام... وطائفة أخرى لا يحبونه ولا يسبونه؛ لما يعلمون من أنه لم يكن زنديقًا كما تقوله الرافضة، ولما وقع في زمانه من الحوادث الفظيعة، والأمور المستنكرة البشيعة الشنيعة، فمن أنكرها قتل الحسين بن علي بكربلاء»[12].


[1] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (4/481 ـ 483)، والبداية والنهاية لابن كثير (9/234).
[2] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (4/483).
[3] انظر: البداية والنهاية لابن كثير (9/234).
[4] السُّنَّة للخلال (3/520) [دار الراية، الرياض، ط1، 1410هـ] وقال المحقق: «إسناده صحيح».
[5] جامع المسائل لابن تيمية (5/149).
[6] المصدر نفسه (5/141 ـ 146).
[7] أخرجه البخاري (كتاب الأدب، رقم 6105)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 110).
[8] أخرجه البخاري (كتاب الشهادات، رقم 2652)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2533).
[9] السُّنَّة للخلال (3/521)، وقال المحقق: «إسناده صحيح».
[10] أخرجه البخاري (كتاب الجهاد والسير، رقم 2924).
[11] جامع المسائل لابن تيمية (5/147)، والحديث عن أم حرام بنت ملحان لا ابن عمر كما نبَّه عليه المحقق، ولفظه هو المذكور قبله.
[12] البداية والنهاية (9/234).


المسألة الأولى: مقتل الحسين ودعوى حمل رأسه إلى يزيد وسبي أهل بيته:
يعتقد الروافض أن يزيد بن معاوية سعى في قتل سبط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ تشفيًا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وانتقامًا منه، وأخذًا بثأر أقربائه، كعتبة وأخي جده شيبة وخاله الوليد بن عتبة وغيرهم، ممن قتلهم أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم بيد علي بن أبي طالب وغيره يوم بدر وغيرها، وقالوا: تلك أحقاد بدرية وآثار جاهلية وأنشدوا عنه:
لما بدَت تلك الحمولُ وأشرفت..
تلك الرؤوسُ على رُبى جيرونِ
نعق الغرابُ فقلتُ نُحْ أو لا تَنُحْ
فلقد قضيتُ من النبيِّ دُيوني
وقالوا: إنه تمثل بشعر ابن الزبعرى الذي أنشده يوم أحد[1].
قال محمد بن جرير الطبري الشيعي في شأن الحسين: «وقتل بكربلاء غربي الفرات، قتله عبيد الله بن زياد، وعمر بن سعد، وشمر بن ذي الجوشن بأمر يزيد بن معاوية»[2].
ونسب الصدوق إلى سكينة أنها قالت: «والله ما رأيت أقسى قلبًا من يزيد... وأقبل يقول وينظر إلى الرأس:
ليتَ أشياخي ببدرٍ شهدوا
جزعَ الخزرجِ من وقعِ الأسَل
ثم أمر برأس الحسين فنصب على باب مسجد دمشق. فروي عن فاطمة بنت علي أنها قالت: لما أجلسنا بين يدي يزيد بن معاوية رق لنا أول شيء وألطفنا، ثم إن رجلاً من أهل الشام أحمر قام إليه، فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه الجارية. يعنيني، وكنت جارية وضيئة، فأرعبت وفرقت، وظننت أنه يفعل ذلك، فأخذت بثياب أختي، وهي أكبر مني وأعقل، فقالت: كذبت والله ولعنت، ما ذاك لك ولا له. فغضب يزيد (لعنه الله) فقال: بل كذبتِ والله، لو شئت لفعلته»[3].
الرد عليهم:
كل ما ذكره الروافض فيه تلبيس وتدليس وكذب وبهتان، يتضح ذلك من خلال بيان أسباب خروج الحسين إلى العراق، وما ترتب على ذلك من الاعتداء عليه وقتله مظلومًا، على النحو التالي:
بدأ قوم من شيعة العراق يحرضون الحسين على الخروج إليهم من خلال رسائلهم المتتالية، وكتبهم المتعاقبة التي يشتكون فيها من تغيير الشريعة وفشو الظلم، ويطلبون منه أن يأتيهم؛ ليبايعوه وينصروه على إقامة الشرع والعدل، فوافق الحسين على هذا، وأخذ يتجهز للخروج، وحينئذٍ أشار عليه أهل العلم والفضل كابن عمر وابن عباس وغيرهما رضي الله عنهم بعدم الخروج إليهم، وذكروا له: «أن هؤلاء يغرونه، وأنهم لا يوفون بقولهم، ولا يقدر على مطلوبه، وأن أباه كان أعظم حرمة منه وأتباعًا؛ ولم يتمكن من مراده، فظن الحسين أنه يبلغ مراده، فأرسل ابن عمه مسلم بن عقيل، فآووه أولاً، ثم قتلوه ثانيًا، فلما بلغ الحسين ذلك طلب الرجوع فأدركته السرية الظالمة»[4] بقيادة عمر بن سعد الذي أرسله عبيد الله بن زياد أمير العراق كما هو ثابت بالنقل الصحيح، وكان عمر بن سعد قد امتنع عن مقاتلة الحسين، حتى أرغبه وأرهبه عبيد الله[5]، فبدأ في تنفيذ الأمر، فطلب منهم الحسين «أن يذهب إلى يزيد، أو يرجع إلى المدينة، أو يذهب إلى الثغر»[6]، لكن عبيد الله بن زياد منعه من ذلك، وطلب من سريته أن تأسر له الحسين، فبدأت هذه السرية في قتاله، و«لم تمكنه من طاعة الله ورسوله، لا من ذهابه إلى يزيد، ولا من رجوعه إلى بلده، ولا إلى الثغر»[7]. فدافع رضي الله عنه هو وأهل بيته ومن كان معهم حتى قُتلوا جميعًا، ولم يبق منهم إلا علي بن الحسين والذرية، وحمل هؤلاء الظلمة رأس الحسين إلى عبيد الله بن زياد، فأخذ ينكت على ثناياه بالقضيب، كما ثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: «أتي عبيدُ الله بن زياد برأس الحسين بن علي، فجعل في طست فجعل ينكت، وقال في حسنه شيئًا، فقال أنس رضي الله عنه: كان أشبههم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان مخضوبًا بالوسمة»[8].
ثم حمل علي بن الحسين وأهل بيته إلى يزيد، قال ابن تيمية: «الثابتُ أنه لما حُمِلَ علي بن الحسين وأهلُ بيته إلى يزيد وقع البكاء في بيت يزيد ـ لأجل القرابة التي كانت بينهم ـ لأجل المصيبة، وروي أن يزيد قال: لعن الله ابن مرجانة ـ يعني: ابن زياد ـ لو كان بينه وبين الحسين قرابة لما قتله، وقال: قد كنت أرضى من طاعة أهل العراق بدون قتل الحسين.
وأنه خيّر علي بن الحسين بين مقامه عنده، وبين الرجوع إلى المدينة، فاختار الرجوع، فجهزه أحسن جهاز.
ويزيد لم يأمر بقتل الحسين، ولكن أمر بدفعه عن منازعته في الملك. ولكن لم يقتل قَتَلةَ الحسين ولم ينتقم منهم، فهذا مما أنكر على يزيد»[9].
وكلام شيخ الإسلام هذا صريح في أن يزيدَ لم يأمر بقتل الحسين ولم يرضَ به، لكن؛ أساءه ذلك أم لا؟ فإن الرواية في لعنه عبيدَ الله بن زياد؛ لقتله الحسين، دليل على أن مقتل الحسين ساءه، ولكن في ثبوتها نظر؛ حيث أشار إليها ابن تيمية بصيغة التمريض، وهو نوع من التضعيف، وقد ذكر ابن كثير ـ في حديثه عن موقف يزيد من مقتل الحسين رضي الله عنه ـ أن ذلك «لم يكن ذلك من علم منه، ولعله لم يرض به ولم يسؤه»[10].
وأما القول بحمل رأس الحسين إلى يزيد بالشام وتنكيته على ثناياه بالقضيب، وأن أبا برزة كان حاضرًا وأنكر عليه هذا فليس بصحيح على الإطلاق؛ لمجيئ هذا الخبر بإسناد تالف، إذ فيه انقطاع أو جهالة، ولأن أبا برزة لم يكن بالشام عند يزيد بل كان بالعراق[11].
والذي اتفق عليه المؤلفون في مقتل الحسين، أن رأس الحسين رضي الله عنه لا يعرف مكانه[12]، وذكر بعضهم أنه دفن في البقيع بالمدينة النبوية[13]، وقيل: إنه في الشام على الأغلب[14]، وبهذا يعلم بطلان المشاهد التي يدعى في كل منها أنها موضع رأس الحسين[15].
وأما دعوى سبي ذرية الحسين فهي كذب محض؛ لما هو معلوم من أنه لم يُسب قط في الإسلام أحد من بني هاشم، لا علوي ولا غير علوي، في جميع عصور خلفاء المسلمين من الأمويين وغيرهم، حتى مكّن الروافض كابن العلقمي وغيره الكفار من أهل الكتاب والمشركين من الترك من سبي بعض الهاشميات لما قدموا بغداد، بل لم يقتل بنو مروان أحدًا من بني هاشم، إلا زيد بن علي قتل في خلافة هشام، وكان عبد الملك أرسل إلى الحجاج إياي ودماء بني هاشم، فلم يمس الحجاج أحدًا منهم لا علويًّا ولا عباسيًّا، بل لما تزوج الحجاج بفاطمة بنت عبد الله بن جعفر انتزعها منه؛ لكونه غير كفء لها[16].
المسألة الثانية: وقعة الحرة:
مما له تعلق وثيق بشأن يزيد هذه الوقعة العظيمة؛ وسببها أن ناسًا من أهل المدينة حكوا عن يزيد بعض القبائح والمعاصي، كشرب الخمر وتأخير الصلاة عن وقتها، فعزم أكثر الناس على خلعه، فيقوم الرجل في المسجد فيخلع عمامته ويقول: خلعت يزيد كخلعي هذه العمامة، ويقوم الآخر فيخلع حذاءه ويقول: خلعت يزيد كخلعي هذا الحذاء، وولوا عبد الله بن مطيع على قريش، وعبد الله بن حنظلة بن أبي عامر على الأنصار، ومعقل بن سنان الأشجعي على قبائل المهاجرين، واعتزل الناس كل من عبد الله بن عمر بن الخطاب وأهل بيته، وعلي بن الحسين زين العابدين، وقد قال ابن عمر لأهله: لا يخلعن أحد منكم يزيد فيكون الفيصل[17]. ولما وصل خبرهم إلى يزيد بن معاوية أرسل إليهم «سرية يقدمها رجل يقال له: مسلم بن عقبة. وإنما يسميه السلف مسرف بن عقبة»[18].
قال ابن كثير: «وكذلك من الأمور المنكرة جدًّا وقعة الحرة، وما كان من الأمور القبيحة بالمدينة النبوية»[19].
وتقدم ما ذكره مُهنَّى، حيث قال: «سألت أحمد عن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، قال: هو فعل بالمدينة ما فعل، قلت: وما فعل؟ قال: قتل بالمدينة من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم»[20].
وقال ابن تيمية: «وأما ما فعله بأهل الحرة، فإنهم لما خلعوه وأخرجوا نوابه وعشيرته، أرسل إليهم مرة بعد مرة يطلب الطاعة، فامتنعوا، فأرسل إليهم مسلم بن عقبة المري، وأمره إذا ظهر عليهم أن يبيح المدينة ثلاثة أيام وهذا هو الذي عظم إنكار الناس له من فعل يزيد»[21].
والشاهد أن ما حدث في وقعة الحرة محسوب على يزيد وسبب لوم عليه، مع التنبيه على أن كثيرًا مما ذكر في يوم الحرة غير ثابت.
موقف المخالفين منه:
المخالفون لأهل السُّنَّة في شأن يزيد بن معاوية طوائف، وهم على طرفي نقيض، ويمكن بيان مواقفهم على النحو التالي:
الفريق الأول: من يحب يزيد ويتولاه:
المحبون له منهم من يظن أنه إمام عدل، ومنهم من يبالغ فيه، حتى يدعي أنه من الصحابة الذين ولدوا على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم وحمله على يديه وبرَّك عليه، بل يعتقد فيه أنه أفضل من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، بل طغى بعضهم في الغلو فقال بنبوته، وهؤلاء هم غالية العدوية والأكراد ونحوهم[22]. وقد أشار ابن كثير إلى هذا الصنف فقال: «الناس في يزيد بن معاوية أقسام؛ فمنهم من يحبه ويتولاه، وهم طائفة من أهل الشام من النواصب»[23].
الرد عليهم:
لا شك أن هذا الغلو في يزيد في منتهى البطلان ينبئ عن ضلال صاحبه لأمور؛ منها:
الأمر الأول: أن يزيد ليس من الصحابة فضلاً عن أن يكون من الخلفاء الراشدين المهديين باتفاق العلماء؛ إذ ولد في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه كما تقدم في ترجمته، فكيف يعد من الصحابة رضي الله عنهم!؟ وعليه فـ«من قال: إن يزيد هذا كان من الصحابة فهو كاذب مفتر، يُعرّف أنه لم يكن من الصحابة، فإن أصر على ذلك عوقب عقوبة تردعه... ومن جعله من الخلفاء الراشدين المهديين فهو أيضًا ضال مبتدع كاذب»[24].
الأمر الثاني: أن ادّعاء نبوة يزيد أو غيره من الناس بعد النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم هذيان محض، لا يستحق أدنى حظ من النظر؛ لمناقضته صريح الكتاب والسُّنَّة وإجماع الأمة على أنه لا نبي بعد نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم. قال الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] .
وثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين»[25].
ولذا قال ابن تيمية: «وأما من قال: إنه كان من الأنبياء فإنه كافر مرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل»[26].
الفريق الثاني: من يصرح بتكفيره[27]، ويلهج بسبه ولعنه، وهؤلاء هم الروافض. فقد حشى الصدوق أماليه بأمور غريبة منكرة حول يزيد؛ منها زعمه أن يزيد سبى ذرية الحسين، وساق في ذلك روايات طويلة، وفيها: «قالت سكينة: والله ما رأيت أقسى قلبًا من يزيد، ولا رأيت كافرًا ولا مشركًا شرًّا منه، ولا أجفى منه»[28].
وقد أشار شيخ الإسلام إلى هذا الموقف الرافضي بقوله: «افترق الناس في يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ثلاث فرق: طرفان ووسط. فأحد الطرفين قالوا: إنه كان كافرًا منافقًا»[29].
ونسب الكليني إلى أبي عبد الله أنه قال: «ثلاثة هم شرار الخلق ابتلي بهم خيار الخلق...ويزيد بن معاوية لعنه الله قاتل الحسين بن علي وعاداه حتى قتله»[30].
الرد عليهم:
لا شك أن قتل الحسين رضي الله عنه وقع في خلافة يزيد بن معاوية، وهو من الجرائم العظيمة والمصائب الكبيرة، ولكن مع ذلك فإن ما نسجته الروافض حول قتل الحسين من الأكاذيب، ثم الحكم من خلالها على يزيد بالكفر والزندقة والنفاق مردود، وبيان هذا على النحو التالي:
الأول: أن التكفير عند الروافض أمر لا خطام له ولا زمام؛ فقد كفروا خيار الأمة كأبي بكر وعمر وجميع الصحابة إلا القليل النادر منهم، وعليه فتكفير يزيد أسهل عليهم بكثير.
الثاني: أن يزيد بن معاوية لم يقتل الحسين، بل «لم يكن ذلك من علم منه، ولعله لم يرض به ولم يسؤه»[31]، كما تقدم بيانه.
الثالث: زعمهم أن يزيد قتل الحسين تشفيًا وأخذًا بثأر من قُتل من أقاربه في بدر والجاهلية كما تفيده الأبيات السابقة التي نسبت إليه وأنه تمثل بها فهو غير صحيح عنه، بل هو مما افتري عليه للنيل منه؛ ولذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن من قال: «إنه قتل الحسين تشفيًا وأخذًا بثأر أقاربه من الكفار، فهو أيضًا كاذب مفتر»[32].
وقال ابن كثير: «وأما الروافض فيشغبون عليه، ويشنعون ويفترون عليه أشياء كثيرة ليست فيه، ويتهمه كثير منهم أو أكثرهم بالزندقة، ولم يكن كذلك»[33].
وأما ما ذكروه من أن يزيد طلب من الناس أن يبايعوه بأنهم عبيد له فهذا كذب مكشوف لا يستحق أدنى حظ من النظر؛ فهناك عدد من الناس لم يخلعوا إمامة يزيد كابن عمر وأهل بيته، ولم يصبهم يزيد بشيء.


[1] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (4/481).
[2] دلائل الجنة لمحمد بن جرير الشيعي (178) [مؤسسة البعثة، قم، ط1، 1413هـ].
[3] الأمالي للصدوق (230، 231) [مؤسسة البعثة، قم، ط1، 1417هـ].
[4] المسائل والأجوبة لابن تيمية (78) [مكتبة الفاروق، القاهرة، ط1، 1425هـ]، وجامع المسائل له (6/260).
[5] انظر: رأس الحسين لابن تيمية (199) [دار الريان، ط2، 1408هـ].
[6] المسائل والأجوبة لابن تيمية (78)، وجامع المسائل له (6/260).
[7] المسائل والأجوبة لابن تيمية (78)، وجامع المسائل له (6/260).
[8] أخرجه البخاري (كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، رقم 3748).
[9] المسائل والأجوبة لابن تيمية (79، 80)، وجامع المسائل له (6/261).
[10] البداية والنهاية لابن كثير (9/234).
[11] انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/366).
[12] انظر: جامع المسائل لابن تيمية (4/158)، ورأس الحسين له (197).
[13] انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/366).
[14] انظر: مجموع فتاوى الشيخ ابن باز (6/366).
[15] انظر: جامع المسائل لابن تيمية (4/158).
[16] انظر: المصدر نفسه (6/262).
[17] البداية والنهاية لابن كثير (9/245، و11/614).
[18] المصدر نفسه (9/245).
[19] المصدر نفسه (9/234).
[20] السُّنَّة للخلال (3/520) [دار الراية، الرياض، ط1، 1410هـ]، وقال المحقق: «إسناده صحيح».
[21] منهاج السُّنَّة النبوية (4/575) [جامعة الإمام، ط1، 1406هـ].
[22] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (4/482).
[23] البداية والنهاية لابن كثير (9/234).
[24] جامع المسائل لابن تيمية (5/147).
[25] أخرجه البخاري (كتاب المناقب، رقم 3535)، ومسلم (كتاب الفضائل، رقم 2286).
[26] جامع المسائل لابن تيمية (5/147).
[27] انظر: إقبال الأعمال لابن طاووس (3/89) [مكتب الإعلام الإسلامي، ط1، 1416هـ].
[28] الأمالي للصدوق (228) [مؤسسة البعثة، قم، ط1، 1417هـ].
[29] مجموع الفتاوى لابن تيمية (4/481).
[30] الكافي للكليني (8/234) [تصحيح: علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، طهران، ط4].
[31] البداية والنهاية لابن كثير (9/234).
[32] جامع المسائل لابن تيمية (5/148).
[33] البداية والنهاية لابن كثير (9/234).


1 ـ «السُّنَّة» (ج3)، للخلال.
2 ـ «جامع المسائل» (ج5)، لابن تيمية.
3 ـ «المسائل والأجوبة» لابن تيمية.
4 ـ «رأس الحسين»، لابن تيمية.
5 ـ «منهاج السُّنَّة النبوية» (ج4)، لابن تيمية.
6 ـ «البداية والنهاية» (ج10)، لابن كثير.
7 ـ «تهذيب التهذيب» (ج11)، لابن حجر.
8 ـ «كتاب الأربعين»، لمحمد طاهر الشيرازي.
9 ـ «إقبال الأعمال» (ج3)، لابن طاووس.