حرف الياء / يعقوب عليه السلام

           

هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام[1]، كما قال تعالى في بشارة سارة زوج نبي الله إبراهيم عليه السلام: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ *} [هود] ، فدلت الآية على نسبه المذكور. وجاء هذا في حق يوسف بن يعقوب عليه السلام من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الكريم ابن الكريم، ابن الكريم، ابن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام»[2].
وجاءت تسمية يعقوب بإسرائيل في كثير من الآيات، كقوله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ *} [البقرة] . قال ابن جرير الطبري: «وكان يعقوب يدعى إسرائيل، بمعنى عبد الله وصفوته من خلقه؛ وإيل: هو الله، وإسرا: هو العبد، كما قيل: جبريل بمعنى عبد الله»[3]. ونص ابن الجوزي على أنه اسم ثانٍ أعجمي ليعقوب، معناه عبد الله[4]، خلافًا لمن اعتبره لقبًا له[5].
وقال ابن كثير: «يقول تعالى آمرًا بني إسرائيل بالدخول في الإسلام، ومتابعة محمد عليه من الله أفضل الصلاة والسلام، ومهيجًا لهم بذكر أبيهم إسرائيل، وهو نبي الله يعقوب عليه السلام»[6].


[1] انظر: تفسير الطبري (1/593) [دار هجر، ط1، 1422هـ]، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (1/330) [دار الكتب المصرية، ط2، 1384هـ]، وتفسير ابن كثير (1/447) [دار طيبة، ط2، 1420هـ].
[2] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3390).
[3] تفسير الطبري (1/593).
[4] انظر: زاد المسير (1/59) [دار الكتاب العربي، ط1، 1422هـ]، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (1/330).
[5] انظر: الإعلام بأصول الأعلام الواردة في قصص الأنبياء للدكتور ف عبد الرحيم (195) [دار القلم، ط1].
[6] انظر: تفسير ابن كثير (1/241)، والجامع لأحكام القرآن (1/330)، والبداية والنهاية لابن كثير (1/447) [دار هجر، ط1، 1418هـ].


سمي يعقوب عليه السلام بهذا الاسم؛ لخروجه وهو آخذ بعقب أخيه[1].
وأما اسمه الآخر وهو: إسرائيل، فمعناه: عبد الله كما ذكر ابن جرير الطبري وغيره[2].


[1] انظر: البداية والنهاية (1/447)، والإعلام بأصول الأعلام الواردة في قصص الأنبياء (195).
[2] تفسير الطبري (1/593)، وزاد المسير (1/59).


ولد يعقوب في حياة كل من جده إبراهيم وجدته سارة كما يدل عليه قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ *} [هود] ، وهذا يقتضي وقوعه في حال حياتهما؛ لتقر أعينهما بذلك، وهو الغرض من البشارة. قال ابن كثير: «فقوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ *} [هود] دليل على أنها تستمتع بوجود ولدها إسحاق، ثم من بعده يولد ولده يعقوب؛ أي: يولد في حياتهما؛ لتقر أعينهما به، كما قرت بوالده. ولو لم يرد هذا لم يكن لذكر يعقوب وتخصيص التنصيص عليه من دون سائر نسل إسحاق فائدة، ولما عين بالذكر دل على أنهم يتمتعان به ويسران بمولده، كما سُرّا بمولد أبيه من قبله»[1].
وذهب بعض أهل العلم إلى أن يعقوب عليه السلام نبِّئ أيضًا في زمان إبراهيم عليه السلام[2].


[1] البداية والنهاية لابن كثير (1/374).
[2] انظر: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (1/309) [دار الكتب العلمية، ط1، 1412هـ].


أخبر الله بأن يعقوب عليه السلام هو من الذين اصطفاهم الله لرسالته، فقال تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ *إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ *وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ *} [ص] . وذكره سبحانه ضمن أنبيائه الموحى إليهم فقال: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ} [النساء: 163] .



كانت دعوة يعقوب عليه السلام إلى توحيد الله وإخلاص الدين له، ونبذ الشرك والبعد عنه، حتى إنه في آخر لحظات حياته وجه إلى أبنائه سؤالاً؛ ليعلم مدى تمسكهم بتوحيد الله وإفراده بالعبادة، فقال كما حكاه الله عنه في محكم تنزيله: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ *} [البقرة] . قال ابن كثير: «يقول تعالى محتجًّا على المشركين من العرب أبناء إسماعيل، وعلى الكفار من بني إسرائيل ـ وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام ـ بأن يعقوب لما حضرته الوفاة وصى بنيه بعبادة الله وحده لا شريك له»[1].


[1] تفسير ابن كثير (1/447).


جاء يعقوب وأهل بيته من البدو إلى مصر عند ابنه نبي الله يوسف وعمره مائة وثلاثون عامًا، ثم مات بعد أن عاش معه سبع عشرة سنة، ودفن بالمغارة بالشام بجوار قبر أبيه إسحاق وجده إبراهيم عليه السلام؛ تنفيذًا لوصيته بذلك[1].


[1] انظر: صحيح (قصص الأنبياء لابن كثير) لسليم الهلالي (226) [دار غراس، ط1، 1422هـ].


المسألة الأولى: بناؤه بيت المقدس:
ذكر المؤرخون أن نبي الله يعقوب بن إسحاق عليه السلام هو الذي بنى بيت المقدس بعد بناء إبراهيم وإسماعيل عليه السلام بيت الله الحرام، وبه يقول أهل الكتاب أيضًا، ورجحه ابن كثير بقوله: «وهذا متجه، ويشهد له ما ذكرناه من الحديث»[1]. وكانت المدة بين بناء المسجدين أربعين سنة، ويدل عليه ما جاء عن أبي ذر رضي الله عنه قال: «قلت: يا رسول الله، أيُّ مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام . قال: قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى ، قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة، ثم أينما أدركتك الصلاة بعد فصلّه؛ فإن الفضل فيه»[2].
المسألة الثانية: تحريم يعقوب بعض الطعام على نفسه وبيان أسبابه:
أحلَّ الله سبحانه لبني إسرائيل جميع الأطعمة، إلا ما حرمه إسرائيل ـ وهو يعقوب عليه السلام ـ منها على نفسه، وذلك قبل نزول التوراة، فقال سبحانه: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} [آل عمران: 93] .
وقد جاء في السُّنَّة بيان سبب هذا التحريم، وهو أنه مرض مرضًا شديدًا، فنذر لله أنه إن شفاه الله من هذا المرض ليحرمن على نفسه أحب الطعام والشراب إليه، فلما برئ نفذ ما نذر به، فقد روى الإمام أحمد بسنده عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: يا أبا القاسم، حدثنا عن خلال نسألك عنها، لا يعلمهن إلا نبي، فكان فيما سألوه: أيُّ الطعام حرم إسرائيل على نفسه قبل أن تنزل التوراة؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: «فأنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب عليه السلام مرض مرضًا شديدًا فطال سقمه، فنذر لله نذرًا لئن شفاه الله من سقمه، ليحرمنّ أحب الشراب إليه، وأحب الطعام إليه، فكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها؟» فقالوا: اللَّهُمَّ نعم»[3].
المسألة الثالثة: محنته في ابنه يوسف وصبره على ذلك:
نزغ الشيطان بين يوسف وإخوته من أبيه، فقد شعروا بحب أبيه له أكثر منهم، فكادوا لإبعاده عن وجه أبيهم، فأخذوه من أبيهم بحجة أن يلعب معهم، وبعد مشاورات فيما يفعلون به أجمعوا على إلقائه في الجب ورموه فيها، كما قال الله: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ} [يوسف: 15] ، ورجعوا إلى أبيهم يبكون زاعمين أن يوسف أكله الذئب، فلم يصدقهم على ذلك، بل شعر بكذبهم وبمكرهم فيه، ودعا ربه أن يرزقه الصبر الجميل، كما حكاه الله عنه بقوله تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ *} [يوسف] .
وحفظ الله يوسف وجاء أناس واستخرجوه وباعوه بثمن بخس على عزيز مصر، وهناك حصلت ليوسف محن سجن بسببها سنين، ثم منّ الله عليه وخرج من السجن ومكنه الله في مصر، حيث أصبح موظفًا على خزائن الأرض، وفي بعض السنين اشتدت المجاعة وجاء إخوة يوسف ليشتروا منه فعرفهم، وجهزهم ولم يأخذ منهم المال وأعلمهم بأنه لن يبيع إليهم إذا جاؤوا للشراء منه مرة أخرى حتى يأتوه بأخ لهم من أبيهم، فأخبروا أباهم، وبعد محاولات أعطاهم إياه، ولما وصلوا إلى يوسف جهزهم، وأدخل صواع الملك في متاع أخيه خفية؛ ليكون ذلك وسيلة لإبقائه معه، ثم أعلن فقدان الصواع، وأخيرًا استخرجها من وعاء أخيه، واعتبره سارقًا وأنه سيبقى محبوسًا عنده، ولما بلغ الخبر يعقوب زاد حزنه وقال كما حكاه الله عنه: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ *وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَال ياأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ *قَالُوا تاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ *قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ *} [يوسف] .
وبعد مناشدة إخوة يوسف ليوسف مناشدة طويلة واسترحامه واستعطافه وتكرار المجيء إليه، كشف لهم الغطاء عن حقيقته قائلاً: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَإِنَّكَ لأََنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} [يوسف] .
بعد ذلك طلب يوسف من أخيه هذا أن يرجع إلى أبيه الذي قد أرهقه الحزن، وكاد يذهب بصره من أجل ذلك، حاملاً معه قميصه ليلقيه على وجه أبيه؛ ليذهب ما به، كما قال الله تعالى: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ *} [يوسف] ، ولما جاء البشير وألقى القميص على وجه أبيه ارتد بصيرًا، ثم أتوا بأهلهم أجمعين، وطلب إخوة يوسف من أخيه وأبيهم أن يستغفرا الله لهم، وهكذا منّ الله على يعقوب وابنه عليه السلام وجمعهما بعد ردح من الزمان. هذا ملخص محنة يعقوب وصبره عليها.


[1] البداية والنهاية لابن كثير (1/375) ويعني بالحديث حديث أبي ذر الآتي.
[2] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3366)، ومسلم (كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم 520).
[3] أخرجه أحمد (3/123) [دار الحديث، القاهرة، ط1، 1416هـ]، وصحح إسناده أحمد شاكر، وأورده إبراهيم العلي في الأحاديث الصحيحة من أخبار وقصص الأنبياء (102) [دار القلم والدار الشامية، ط1، 1416هـ].


1 ـ «تفسير الطبري» (ج1).
2 ـ «المنتظم في التاريخ» (ج1)، لابن الجوزي.
3 ـ «زاد المسير في التفسير» (ج1)، لابن الجوزي.
4 ـ «الجامع لأحكام القرآن» (ج1)، للقرطبي.
5 ـ «تفسير ابن كثير» (ج1).
6 ـ «البداية والنهاية» (ج1) لابن كثير.
7 ـ «صحيح (قصص الأنبياء لابن كثير)» لسليم الهلالي.
8 ـ «قصص الأنبياء ومناقب القبائل من التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن»، لأحمد حاج محمد عثمان.
9 ـ «الإعلام بأصول الأعلام الواردة في قصص الأنبياء»، للدكتور ف عبد الرحيم.
10 ـ «الأحاديث الصحيحة من أخبار وقصص الأنبياء عليهم السلام»، لإبراهيم العلي.