حرف الألف / الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

           

ـ المعروف : قال ابن فارس رحمه الله: «العين والراء والفاء أصلان صحيحان، يدل أحدهما على تتابع الشيء متّصلاً بعضه ببعض، والآخر على السكون والطمأنينة. فالأول العُرف؛ عرف الفرس... والأصل الآخر: المعرفة والعرفان؛ تقول: عرف فلانٌ فلانًا عِرفانًا ومعرفة، وهذا أمر معروف، وهذا يدل على ما قلناه من سكونه إليه؛ لأن من أنكر شيئًا توحش منه، ونبا عنه»[1].
والعُرف: المعروف، وسمي بذلك لأن النفوس تسكن إليه، والمعروف: ما يستحسن من الأفعال، وهو كل ما تعرفه النفس من الخير، وهو ضد المنكر[2].
ـ المنكر : قال ابن فارس رحمه الله: «النون والكاف والراء أصل صحيح يدل على خلاف المعرفة التي يسكن إليها القلب، ونكر الشيء وأنكره: لم يقبله قلبه، ولم يعترف به لسانه»[3].
والمنكر من الأمر: خلاف المعروف، والنُّكر والنَّكراء: المنكر، ومنه قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا *} [الكهف] ، وجمعه مناكير، والإنكار تغيير المنكر[4].


[1] مقاييس اللغة (4/281) [دار الجيل، 1421هـ].
[2] انظر: مقاييس اللغة (4/281)، ولسان العرب (4/2899) [دار المعارف، القاهرة].
[3] مقاييس اللغة (5/476).
[4] انظر: لسان العرب (6/4539)، وترتيب القاموس المحيط (4/436) [دار عالم الكتب للطباعة، ط1].


المعروف: هو كل ما أمر الله به ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، والمنكر: هو كل ما نهى الله عنه ورسوله صلّى الله عليه وسلّم[1]، أو المعروف هو ما عرف بالشرع، والعقل حسنه، والمنكر ما عرف بالشرع، والعقل قبحه[2].


[1] انظر: الاستقامة لابن تيمية (2/209 ـ 210) [جامعة الإمام محمد بن سعود، ط2، 1411هـ].
[2] انظر: تفسير السعدي (149) [دار السلام، الرياض، ط2، 1422هـ].


الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من حيث الحكم العام هو من فروض الكفاية؛ إذا قام به البعض سقط عن الباقين، كما هو قول جمهور أهل العلم[1].
قال النووي رحمه الله: «ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر ولا خوف»[2].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجب على كل أحد بعينه، بل هو على الكفاية، كما دل عليه القرآن»[3].
لكن يتعين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويكون فرض عين في حالات خاصة؛ وهي:
أولاً: ما يقوم بالقلب، فهذا يجب على كل أحد فعله، إذ لا ضرر في فعله، ومن لم يفعله فليس بمؤمن الإيمان الكامل[4]؛ كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل»[5].
ثانيًا: إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو، أو لا يتمكن من إزالته إلا هو، وكمن يرى زوجته، أو ولده، أو غلامه على منكر، أو تقصير في المعروف[6].


[1] انظر: الكنز الأكبر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد الرحمن بن أبي بكر الدمشقي (1/38 ـ 39)، [مكتبة نزار مصطفى الباز، ط1، 1418هـ].
[2] شرح صحيح مسلم للنووي (2/23) [المطبعة المصرية بالأزهر، ط1، 1347هـ].
[3] مجموع الفتاوى (28/126) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف، ط1425هـ].
[4] انظر: مجموع الفتاوى (28/127).
[5] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 50).
[6] انظر: شرح صحيح مسلم للنووي (2/23).


الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أوجب الأعمال، وأفضلها، وأحسنها[1]، وهما العمادان العظيمان من أعمدة هذا الدين، والركنان الكبيران من أركانه[2].
فرق ما بين المؤمنين والمنافقين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ كما قال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة: 67] ، ثم قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71] ، فدلَّ على أن أخص أوصاف أهل الإيمان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر[3].


[1] انظر: مجموع الفتاوى (28/134).
[2] انظر: السيل الجرار (/557) [دار الكتب العلمية].
[3] انظر: تفسير القرطبي (5/73) [مؤسسة الرسالة].


مناط الخيرية لهذه الأمة موصول بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ *} [آل عمران] .
ومن أعظم أسباب الاستمرار في التمكين في الأرض: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ كما قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41] .
وهما من أظهر علامات الإيمان والصلاح؛ كما قال تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ *} [آل عمران] .
وهما من أعظم أسباب الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة؛ كما قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *} [آل عمران] .



قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ *} [آل عمران] .
وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *} [آل عمران: 104] .
وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ *كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ *} [المائدة] .
وقال تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ *} [لقمان] .
وقال تعالى في صفة نبيِّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157] .
ومن السُّنَّة: حديث أبي سعيد الخدري صلّى الله عليه وسلّم؛ أنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من رأى منكم منكرًا فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»[1].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسُنَّته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل»[2].
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقًا لم نؤذ من فوقنا. فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا»[3].


[1] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 49).
[2] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 50).
[3] أخرجه البخاري (كتاب الشركة، رقم 2493).


قال ابن جرير الطبري: «وأصل المعروف كل ما كان معروفًا فعلُه، جميلاً مستحسنًا، غير مستقبح في أهل الإيمان بالله، وإنما سميت طاعة الله معروفًا؛ لأنه مما يعرفه أهل الإيمان، ولا يستنكرون فعله، وأصل المنكر ما أنكره الله، ورأوه قبيحًا فعلُه، ولذلك سُمّيت معصية الله منكرًا؛ لأن أهل الإيمان بالله يستنكرون فعلها، ويستعظمون ركوبها»[1].
وقال ابن تيمية في عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة: «ثم هم مع هذه الأصول: يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، على ما توجبه الشريعة»[2].
وقال الشوكاني: «وفي الآية دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوبه ثابت بالكتاب والسُّنَّة، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة، وأصل عظيم من أصولها، وركن شديد من أركانها، وبه يكمل نظامها، ويرتفع سنامها»[3].


[1] تفسير الطبري (5/676 ـ 677) [دار هجر، ط1].
[2] مجموع الفتاوى (3/158).
[3] فتح القدير (1/605) [دار الوفاء].


شروط الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر هي على النحو التالي[1]:
أولاً: أن يكون مكلَّفًا؛ لأن غير المكلف لا يلزمه وجوب أمر، ولا نهي، لكن لغير المكلف الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ويثاب عليه.
ثانيًا: أن يكون مسلمًا، فليس للكافر أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ لما فيه من السلطنة والعزة.
ثالثًا: أن يكون قادرًا بلا ضرر يلحقه؛ فإن لحقه ضرر فلا يجب عليه، لكن إن صبر وقام به فهو أفضل، كما قال تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ *} [لقمان] .
رابعًا: أن يكون عالمًا غير جاهل، عالمًا بحكم الشرع فيما يأمر وينهى، وعالمًا بحال المأمور، وعالمًا بحال المأمور حال تكليفه؛ أقام بالفعل أم لا؟
قال ابن الجوزي رحمه الله: «فأما إذا كان الآمر بالمعروف جاهلاً، فإن الشيطان يتلاعب به، وربما كان إفساده في أمره أكثر من إصلاحه؛ لأنه ربما نهى عن شيء جائز بالإجماع، وربما أنكر ما قد تأول فيه صاحبه، وتبع بعض المذاهب، وربما كسر الباب، وتسور الحيطان، وضرب أهل المنكر، وقذفهم، فإن أجابه بكلمة تصعب عليه صار غضبه لنفسه، وربما كشف ما قد أمره الشرع بستره»[2].
خامسًا: أن لا يترتب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مفسدة أعظم من السكوت، فإن ترتب عليها ذلك، فإنه لا يلزمه، بل لا يجوز له أن يأمر وينهى.
قال ابن تيمية: «فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كان متضمّنًا لتحصيل مصلحة، ودفع مفسدة، فينظر في المعارض له؛ فإن كان الذي يفوت من المصالح، أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورًا به، بل يكون محرّمًا إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته»[3].


[1] انظر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمن إحياء علوم الدين للغزالي (7/1196) [دار الشعب، القاهرة]، والكنز الأكبر (1/183)، وشرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين (2/330 ـ 334) [دار ابن الجوزي، ط2]، وأضواء البيان للشنقيطي (2/206) [دار عالم الفوائد]، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصوله وضوابطه وآدابه لخالد السبت (163) [ط1، 1415هـ].
[2] تلبيس إبليس (2/851) [دار الوطن للنشر، ط1].
[3] مجموع الفتاوى (28/129).


للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثلاث مراتب، دل عليها حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه السابق[1]:
المرتبة الأولى: الإنكار باليد، وهذه لا تكون إلا لمن له القدرة والسلطة؛ كالحاكم ونوابه، وكالوالد في أهل بيته، ونحوهم، وهذه أكمل المراتب وأعلاها.
المرتبة الثانية: الإنكار باللسان، وهذا يكون مع عدم القدرة باليد، وقد قيل: إن هذه المرتبة للعلماء، وهي أوسط المراتب.
المرتبة الثالثة: الإنكار بالقلب، وقد قيل عن هذه المرتبة: إنها مرتبة الضعفاء؛ أي: لعوام الناس، وهذه أدنى المراتب.
وليس معنى قوله: «ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» : أنه لم يبق معه شيء من الإيمان، وأنه ذهب عنه أصله، بل المراد: أنه لم يبق بعد هذا الإنكار ما يدخل في الإيمان حتى يفعله المؤمن، بل الإنكار بالقلب آخر حدود الإيمان، فجعل المؤمنين ثلاث طبقات، وكل منهم فعل الإيمان الذي يجب عليه، لكن الأول لما كان أقدرهم كان الذي يجب عليه أكمل مما يجب على الثاني، وكان ما يجب على الثاني أكمل مما يجب على الثالث[2].


[1] انظر: تفسير القرطبي (5/75 ـ 76)، ومجموع الفتاوى (7/428)، والآداب الشرعية لابن مفلح (1/184) [مكتبة نزار مصطفى الباز، ط1].
[2] انظر: مجموع الفتاوى (7/428).


المسألة الأولى: مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند أهل الأهواء والبدع:
خالف في مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طائفتان من أهل الأهواء والبدع: الخوارج، والمعتزلة، ومن وافقهم، فيرون أن الخروج على الأئمة، وقتالهم، وإشهار السيف، هو من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهذا المفهوم باطل، مخالف للكتاب والسُّنَّة، وإجماع أهل السُّنَّة.
قال الآجرّي رحمه الله: «لم يختلف العلماء قديمًا وحديثًا أن الخوارج قوم سوء، عصاة لله تعالى ورسوله، وإن صلوا وصاموا واجتهدوا في العبادة، فليس ذلك بنافع لهم، ويظهرون الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وليس ذلك بنافع لهم... ثم إنهم خرجوا بعد ذلك من بلدان شتى، واجتمعوا وأظهروا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر»[1].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «ولهذا كان من أصول أهل السُّنَّة والجماعة: لزوم الجماعة وترك قتال الأئمة، وترك القتال في الفتنة، وأما أهل الأهواء؛ كالمعتزلة، فيرون القتال للأئمة من أصول دينهم، ويجعل المعتزلة أصول دينهم خمسة: التوحيد الذي هو سلب الصفات، والعدل الذي هو التكذيب بالقدر، والمنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: الذي هو قتال الأئمة»[2].
وقال ابن القيم رحمه الله: «وأخرجت الخوارج قتال الأئمة والخروج عليهم بالسيف في قالب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر»[3].
المسألة الثانية: أمر ولاة الأمر بالمعروف، ونهيهم عن المنكر:
من النصيحة لولاة الأمر أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، لكن بشرط أن لا يكون ذلك علانية، وأن يكون بالوعظ والتذكير، وأن لا يترتب عليه ضرر ومفسدة عظيمة؛ كالقتل، أو نحوه.
عن أسامة بن زيد رضي الله عنه؛ أنه قيل له: ألا تدخل على عثمان فتكلمه؟ فقال: «أترون أني لا أكلمه إلا أُسمِعُكُم، والله لقد كلمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتتح أمرًا لا أحب أن أكون أول من فتحه»[4].
قال القاضي عياض في شرحه للأثر: «يعني: في المجاهرة بالنكير، والقيام بذلك على الأمراء، وما يخشى من سوء عقباه، كما تولد من إنكارهم جهارًا على عثمان بعد هذا، وما أدى إلى سفك دمه، واضطراب الأمور بعده. وفيه التلطف مع الأمراء، وعرض ما ينكر عليهم سرًّا»[5].
وقال ابن النحاس رحمه الله بعد أن قرر تغيير المنكر باليد: « تنبيه: هذا الذي ذكرناه في هذا الفصل، والذي قبله إنما هو فيما إذا كان المنكر على غير السلطان، فإذا كان السلطان فليس لأحد منعه القهر باليد، ولا أن يشهر عليه سلاحًا، أو يجمع عليه أعوانًا؛ لأن ذلك تحريك للفتن، وتهييج للشر، وإذهاب لهيبة السلطان من قلوب الرعية، وربما أدى ذلك إلى تجريئهم على الخروج عليه، وتخريب البلاد، وغير ذلك مما لا يخفى»[6].
وقال ابن باز رحمه الله: «ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة، وذكر ذلك على المنابر؛ لأن ذلك يفضي إلى الفوضى، وعدم السمع والطاعة في المعروف، ويفضي إلى الخوض الذي يضر ولا ينفع، ولكن الطريقة المتبعة عند السلف: النصيحة فيما بينهم وبين السلطان، والكتابة إليه، أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به حتى يوجهه إلى الخير، وإنكار المنكر يكون من دون ذكر الفاعل، فيُنكر الزنا، وينكر الخمر، وينكر الربا، من دون ذكر من فعله، ويكفي إنكار المعاصي، والتحذير منها، من غير ذكر أن فلانًا يفعلها، لا حاكم ولا غير حاكم، ولما وقعت الفتنة في عهد عثمان قال بعض الناس لأسامة بن زيد رضي الله عنه: ألا تنكر على عثمان؟ قال: أأنكر عليه عند الناس! لكن أنكر عليه بيني وبينه، ولا أفتح باب شر على الناس، ولما فتحوا الشر في زمن عثمان رضي الله عنه وأنكروا على عثمان جهرة تمت الفتنة والقتال والفساد، الذي لا يزال الناس في آثاره إلى اليوم، حتى حصلت الفتنة بين علي ومعاوية، وقتل عثمان وعلي بسبب ذلك، وقُتل جم كثير من الصحابة، وغيرهم بسبب الإنكار العلني، وذكر العيوب علنًا، حتى أبغض الناس ولي أمرهم، وحتى قتلوه، نسأل الله السلامة والعافية»[7].
المسألة الثالثة: هل من شرط الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون سليمًا من المعاصي والآثام، أو هل للآمر أن يأمر بما لا يفعل، وينهى عما يفعله؟
اشترط بعضهم أن يكون الآمر والناهي سليمًا من الذنوب والمعاصي، وأن لا يأمر بما لا يفعله، ولا ينهى عما يرتكبه، وقد نسبه القرطبي إلى المبتدعة عمومًا[8]. واستدلوا من القرآن بقوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ *} [البقرة] ، وقوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ *} [الصف] .
واستدلوا من السُّنَّة بحديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهى عن المنكر؟! قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه»[9].
لكن هذا القول ضعيف، والصحيح الذي عليه علماء السلف والخلف أن الآمر عليه أن يأمر بالمعروف ولو لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن فعله؛ لأن كلًّا من الأمر بالمعروف وفعله واجب، لا يسقط أحدهما بترك الآخر، لكن يقبح من العالم أن يأمر بالمعروف ولا يأتيه، وينهى عن المنكر ويأتيه، لورود الوعيد الشديد بذلك[10].
قال ابن كثير رحمه الله: «كل من الأمر بالمعروف وفعله واجب، ولا يسقط أحدهما بترك الآخر، على أصح قولي العلماء من السلف والخلف، وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها، وهذا ضعيف، وأضعف منه تمسكهم بهذه الآية؛ فإنه لا حجة لهم فيها، والصحيح أن العالم يأمر بالمعروف، وإن لم يفعله، وينهى عن المنكر، وإن ارتكبه... ولكنه والحال هذه مذموم على ترك الطاعة، وفعله المعصية؛ لعلمه بها، ومخالفته على بصيرة؛ فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم، ولهذا جاءت الأحاديث في الوعيد في ذلك»[11].
وقد عدّ ابن الجوزي هذه الطريقة من تلبيس إبليس؛ فقال رحمه الله: «وقد يلبس إبليس على بعض المتعبدين فيرى منكرًا فلا ينكره، ويقول: إنما يأمر وينهى من قد صلح، وأنا ليس بصالح، فكيف آمر غيري. وهذا غلط؛ لأنه يجب عليه أن يأمر وينهى، ولو كانت تلك المعصية فيه، إلا أنه متى أنكر متنزِّهًا عن المنكر، أثَّر إنكاره، وإذا لم يكن متنزِّهًا لم يكد إنكاره يعمل، فينبغي للمُنكر أن ينزِّه نفسه؛ ليؤثر إنكاره»[12].
قال الإمام مالك رحمه الله: «قال سعيد بن جبير: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء، ما أمر أحد بمعروف، ولا نهى عنه. قال مالك: ومن هذا الذي ليس فيه شيء»[13].
المسألة الرابعة: قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] :
غلط فريق من الناس فذهب إلى ترك ما يجب من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر تأويلاً لهذه الآية. قال ابن كثير: «وليس في الآية مستدل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان فعل ذلك ممكنًا»[14].
والصحيح في تأويلها هو ما ورد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ أنه قال: أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، وإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه»[15].
قال ابن جرير رحمه الله: «وأولى هذه الأقوال وأصح التأويلات عندنا بتأويل هذه الآية: ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فيها، وهو: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} الزموا العمل بطاعة الله، وبما أمركم به، وانتهوا عما نهاكم عنه، {لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} يقول: فإنه لا يضركم ضلال من ضل إذا أنتم لزمتم العمل بطاعة الله، وأدَّيتم فيمن ضل من الناس ما ألزمكم الله به فيه؛ من فرض الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر الذي يركبه أو يحاول ركوبه، والأخذ على يديه، إذا رام ظلمًا لمسلم، أو معاهد، ومنعه منه، فأبى النزوع عن ذلك، ولا ضير عليكم في تماديه في غيه وضلاله، إذا أنتم اهتديتم وأديتم حق الله تعالى ذكره فيه»[16].


[1] الشريعة (1/325 ـ 327) [دار الوطن، ط1].
[2] مجموع الفتاوى (28/128).
[3] إغاثة اللهفان (2/446) [دار المعرفة، ط1].
[4] أخرجه البخاري (كتاب بدء الخلق، رقم 3267)، ومسلم (كتاب الزهد والرقائق، رقم 2989).
[5] إكمال المعلم (8/538).
[6] تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين وتحذير السالكين من أعمال الهالكين (45) [دار الحديث الحسنية، ط1387].
[7] فتوى هامة للشيخ ابن باز ضمن رسالة حقوق الراعي والرعية للشيخ ابن عثيمين (27).
[8] انظر: تفسير القرطبي (5/74).
[9] أخرجه البخاري (كتاب بدء الخلق، رقم 3267)، ومسلم (كتاب الزهد والرقائق، رقم 2989).
[10] انظر: تفسير القرطبي (5/74)، وتفسير ابن كثير (1/382) [مؤسسة قرطبة، ط1]، والكنز الأكبر (2/711).
[11] تفسير ابن كثير (1/382).
[12] تلبيس إبليس (2/855).
[13] الجامع في السنن والآداب لابن أبي زيد القيرواني (158) [مؤسسة الرسالة، ط2، 1403هـ].
[14] تفسير ابن كثير (5/394).
[15] أخرجه أبو داود (كتاب الملاحم، رقم 4338)، والترمذي (أبواب الفتن، رقم 2168) وصححه، وابن ماجه (كتاب الفتن، رقم 4005)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 1564).
[16] تفسير الطبري (9/54).


آثار إقامة شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة؛ منها:
1 ـ حصول الخيرية لهذه الأمة، والتحقق بها كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] .
2 ـ إقامة الملة والشريعة، وحفظ الدين والعقيدة، كما قال تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ *} [البقرة] .
3 ـ التمكين في الأرض؛ كما قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41] .
4 ـ انتشار عوامل الصلاح والخير، وانطماس عوامل الشر والفساد، ويحصل بذلك ارتفاع العقوبة وزوالها؛ كما قال جلّ جلاله: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ *وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ *} [هود] .
وأما عن الآثار في ترك إقامة شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فكثيرة؛ منها[1]:
1 ـ انتفاء الخيرية من الأمة؛ إذ مناطها كما تقدم مرتبط بإقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
2 ـ حلول العقاب من الله تعالى في الدنيا؛ إذ انتشار المعاصي دون إنكارها من أعظم أسباب وقوع المصائب، كما قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ *} [الروم] .
وإنما كان السكوت عن المنكر مع القدرة موجبًا للعقوبة لما فيه من المفاسد العظيمة؛ منها: أن مجرد السكوت فعل معصية، وإن لم يباشرها الساكت.


[1] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (28/138 ـ 142)، وتفسير السعدي (266)، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد السبت (74 ـ 98).


الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له ثلاث حكم ظاهرة، هي[1]:
الأولى: إقامة حجة الله عزّ وجل على خلقه؛ كما قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا *} [النساء]
الثانية: خروج الآمر من عهدة التكليف بالأمر بالمعروف، كما قال عزّ وجل في صالحي القوم الذين اعتدى بعضهم في السبت: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ *} [الأعراف] ، وقال جلّ جلاله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ *} [الذاريات] ، فدل على أنه لو لم يخرج من العهدة لكان ملومًا.
الثالثة: رجاء النفع للمأمور؛ كما قال تعالى: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ *}.


[1] انظر: أضواء البيان (1/465 ـ 466).


1 ـ «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، للخلال.
2 ـ «تلبيس إبليس»، لابن الجوزي.
3 ـ «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، لعبد الغني المقدسي.
4 ـ «الكنز الأكبر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، لعبد الرحمن بن أبي بكر الدمشقي.
5 ـ «قاعدة في الأمر بالمعروف والنهي»، لابن تيمية.
6 ـ «الحسبة في الإسلام»، لابن تيمية.
7 ـ «اقتضاء الصراط المستقيم»، لابن تيمية.
8 ـ «آداب الحسبة»، لعبد الله السقطي الأندلسي.
9 ـ «جامع العلوم والحكم»، لابن رجب الحنبلي.
10 ـ «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثرهما في حفظ الأمة»، لعبد العزيز بن أحمد المسعود.