يوسف اسم أعجمي عبراني، معناه: يزيد[1]. ونقل الجوهري في ضبطه ثلاث لغات، فقال: «قال الفراء: يوسُف ويوسَف ويوسِف ثلاث لغات، وحكى فيه الهمز أيضًا»[2].
[1] انظر: المعرَّب للجواليقي (644) [دار القلم، ط1، 1410هـ]، والإعلام بأصول الأعلام الواردة في قصص الأنبياء للدكتور ف عبد الرحيم (202، 203) [دار القلم، ط1، 1413هـ].
[2] الصحاح (4/1331) [دار العلم للملايين، ط4]، وانظر: القاموس المحيط (792) [مؤسسة الرسالة، ط8].
جاءت البشرى بنبوة يوسف في رؤيا صالحة رآها يوسف في حال صغره وأخبر بها أباه يعقوب، كما أخبر الله عنه: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَِبِيه ياأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ *} [يوسف] ، ففسرها أبوه بالنبوة؛ ولذا أمره بكتمانها عن إخوته؛ حرصًا على سلامته، كما قال تعالى: {قَال يابُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ *وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ *} [يوسف] .
وذكر الله نبوة يوسف عليه السلام ذكرًا صريحًا في قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ *} [غافر] .
وذكره عزّ وجل في سياق تضمّن ذكر عدد من أنبيائه ورسله عليهم السلام، فقال سبحانه: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *} [الأنعام] .
كان يوسف عليه السلام يدعو إلى الإيمان بالله وتوحيده بالعبادة وإفراده بخصائصه، ونبذ الشرك وعبادة غير الله، والبراءة منها ومن أهلها، ويؤكد أنه في هذا تابع للملة الحنيفية السمحة، التي كان عليها آباؤه أئمة التوحيد: إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام، ثم حقّر شأن المعبودات من دون الله، وبيَّن عدم استحقاقها للألوهية الحقة، كما أخبر الله تعالى بقوله: {...إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ *يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ *مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ *} [يوسف] .
قومه هم أهل مصر القبط، بعثه الله إليهم رسولاً بعد موت ملكهم[1]، يدعوهم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له، وكان عزيزَ مصر فأطاعوه في الظاهر؛ طمعًا فيما عنده من الوزارة والجاه الدنيوي، وأما في قرارة أنفسهم فقد كانوا في شك من نبوته ودعوته الحقة، وكانوا ينتظرون موته، ولما مات قالوا: لن يبعث الله من بعده نبيًّا؛ لكفرهم به، قال الله تعالى مخاطبًا أهل مصر قوم موسى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ *} [غافر] .
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: «وقوله: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ}؛ يعني: أهل مصر، قد بعث الله فيهم رسولاً من قبل موسى، وهو يوسف عليه السلام، كان عزيز أهل مصر، وكان رسولاً يدعو إلى الله أمته القبط، فما أطاعوه تلك الساعة إلا لمجرد الوزارة والجاه الدنيوي؛ ولهذا قال: {فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً}؛ أي: يئستم فقلتم طامعين: {لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً} وذلك لكفرهم وتكذيبهم، {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ *}؛ أي: كحالكم هذا»[2].
[1] انظر: تفسير القرطبي (15/312) [دار الكتب المصرية، ط2، 1384هـ]، وتفسير ابن كثير (7/143) [دار طيبة، ط1، 1420هـ]، والبداية والنهاية (2/89) [دار هجر، ط1، 1418هـ]، وتفسير السعدي (737) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1420هـ].
[2] تفسير ابن كثير (7/143). وانظر: تفسير السعدي (737).
توفي يوسف عليه السلام في مصر ودفن فيها، ثم أخرج منها على يد نبي الله موسى عليه السلام، لما رواه الحاكم من حديث أبي موسى الأشعري قال: «أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم أعرابيًّا فأكرمه، فقال له: ائتنا، فأتاه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: سل حاجتك ، فقال: ناقة نركبها، وأعنزًا يحلبها أهلي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: عجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل؟ قال: إن موسى لما سار ببني إسرائيل من مصر ضلوا الطريق، فقال: ما هذا؟ فقال علماؤهم: إن يوسف لما حضره الموت أخذ علينا موثقًا من الله أن لا نخرج من مصر حتى ننقل عظامه معنا، قال: فمن يعلم موضع قبره؟ قالوا: عجوز من بني إسرائيل، فبعث إليها فأتته، فقال: دليني على قبر يوسف، قالت: حتى تعطيني حكمي، قال: ما حكمك؟ قالت: أكون معك في الجنة، فكره أن يعطيها ذلك، فأوحى الله إليه: أن أعطها حكمها، فانطلقت بهم إلى بحيرة ـ موضع مستنقع ماء ـ فقالت: أنضِبوا هذا الماء، فأنضَبوا، قالت: احتفروا واستخرجوا عظام يوسف، فلما أقلوها إلى الأرض إذا الطريق مثل ضوء النهار»[1].
[1] أخرجه أبو يعلى في مسنده (13/236) [دار المأمون للتراث، دمشق، ط1]، وعنه ابن حبان (كتاب الرقائق، رقم 723)، والحاكم (كتاب التفسير، رقم 3523) وصححه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 313) [مكتبة المعارف، ط1، 1415هـ].
المسألة الأولى: ما وهب الله يوسف عليه السلام من الجمال:
كان نبيُّ الله يوسف عليه السلام جميلاً جدًّا، يدل عليه ما حكاه الله عزّ وجل من قول النسوة لما رأينه: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ *} [يوسف] .
ولا غرابة فيما حصل للنسوة؛ إذ وهب الله نبيه يوسف شطر الحسن كما في حديث المعراج الطويل وفيه: «ثم عرج بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال محمد صلّى الله عليه وسلّم. قيل: وقد بعث إليه؟ قال قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بيوسف صلّى الله عليه وسلّم، إذا هو قد أعطي شطر الحسن، فرحب ودعا لي بخير»[1].
وفي شطر الجمال الذي أوتيه يوسف عليه السلام عدة أقوال: منها: أنه على النصف من جمال أبينا آدم عليه السلام، قال ابن كثير رحمه الله: «قال السهيلي وغيره من الأئمة: معناه: أنه كان على النصف من حسن آدم عليه السلام؛ لأن الله تعالى خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه فكان في غاية نهايات الحسن البشري، ولهذا يدخل أهل الجنة الجنة على طول آدم وحسنه، ويوسف كان على النصف من حسن آدم»[2]..
وقيل: إنه أعطي شطر الجمال مطلقًا، قال المناوي: «حظًّا عظيمًا من حُسن أهل الدنيا»[3]، وقيل: إنه أعطي الناس في زمانه شطر الجمال وهو أخذ الشطر الآخر، أو أن المعنى أنه أعطي بعض الجمال؛ حكى ذلك ملاّ علي القاري عن بعض أهل العلم: فقال: «أن يكون المعنى: نصف جنس الحسن مطلقًا، أو نصف حسن جميع أهل زمانه. وقيل: بعضه؛ لأن الشطر كما يراد به نصف الشيء قد يراد به بعضه مطلقًا»[4]. وقد استبعد القاري القول الأخير.
وقيل: إنه أعطي شطر الحسن الخَلقي وأعطي نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم الكمال في الحسن خَلقًا وخُلقًا، قال ابن هبيرة: «والذي أرى أن كل الحسن ما شمل الخُلق والخَلق في المعنى والصورة فلما كان يوسف عليه السلام قد ملك أحد قسمي الحسن وهو الصورة كان ذلك شطر الحسن، والذي أراه أنه جمع لمحمد صلّى الله عليه وسلّم الحالان في الخُلق والخَلق، المعنى والصورة، فأعطي الحسن كله»[5]، وقيل: إن يوسف عليه السلام أعطي شطر الحسن الذي أعطيه نبينا صلّى الله عليه وسلّم، قال ابن القيم رحمه الله: «قالت طائفة: المراد منه: أن يوسف أوتي شطر الحسن الذي أوتيه نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، فالنبي صلّى الله عليه وسلّم بلغ الغاية في الحسن، ويوسف بلغ شطر تلك الغاية، قالوا: ويحقق ذلك ما رواه الترمذي من حديث قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: «ما بعث الله نبيًّا إلا حسن الوجه حسن الصوت، وكان نبيكم أحسنهم وجهًا وأحسنهم صوتًا»[6]»[7].
قال ابن القيم: «والظاهر أن معناه: أن يوسف عليه السلام اختص عن الناس بشطر الحسن، واشترك الناس كلهم في شطره، فانفرد عنهم بشطره وحده، هذا ظاهر اللفظ، فلماذا يعدل عنه؟ واللام في (الحسن) للجنس لا للحسن المعين والمعهود المختص بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وما أدري ما الذي حملهم على العدول عن هذا إلى ما ذكروه. وحديث أنس لا ينافي هذا، بل يدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحسن الأنبياء وجهًا وأحسنهم صوتًا، ولا يلزم من كونه صلّى الله عليه وسلّم أحسنهم وجهًا، أن لا يكون يوسف اختص عن الناس بشطر الحسن، واشتركوا هم في الشطر الآخر، ويكون النبي صلّى الله عليه وسلّم شارك يوسف فيما اختص به من الشطر، وزاد عليه بحسن آخر من الشطر الثاني والله أعلم»[8].
والأظهر والله أعلم أن الأرجح في معنى هذا: هو القول الأول وهو أنه اختص بشطر حسن آدم عليه السلام، أو أن الحسن جعل شطران فكان في يوسف أحد شطريه واقتسم الناس الشطر الآخر، كما رجحه ابن القيم رحمه الله. والله أعلم.
المسألة الثانية: ابتلاء يوسف بكيد امرأة العزيز:
لما أجمع إخوة يوسف على إبعاده عن وجه أبيهم ألقوه في غيابة الجب، ولما جاء قوم من المارة إلى البئر وأدخلوا دلوهم تعلق به يوسف وخرج إليهم، ففرحوا به وباعوه على أهل مصر، فقال الذي اشتراه كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} [يوسف: 21] ، وترعرع يوسف في بيت العزيز، وبعد أن شب افتتنت امرأة العزيز بجماله، وراودته عن نفسه، وغلّقت الأبواب، ثم دعته، لكنه استعصم وأبى أن يلبي طلبها، كما أخبر الله بذلك بقوله: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ *} [يوسف] ، ولما يئست منه قامت إليه، فتسابقا إلى جهة الباب، يريد يوسف الفرار منها، وتريد هي الإمساك به، فسبقها ومسكته من قميصه فقُد من خلف وتمكن يوسف من الخروج من البيت والفرار خارجه، قال الله تعالى: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ *وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ *فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ *يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ *} [يوسف] .
وبعد ثبوت براءة يوسف عليه السلام لزوجها قال لها: إنه من كيدكن، وأمرها بالاستغفار، وأمر يوسف بالإعراض عن هذا الموضوع، ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، حيث لامت بعض نساء المدينة امرأة العزيز على مراودتها لفتاها، فإذا بالمرأة تسعى لتسويغ ما فعلت، فجمعت أولئك النساء، وأعطت كل واحدة منهن سكينًا، وأخرجت عليهن يوسف لتريهن جماله الباهر، لعلهن يعذرنها في مراودتها إياه، فإذا بالنسوة يقطعن أيديهن وهن ينظرن إليه، ويقلن: حاشى لله ما هذا بشرًا. فتجيبهن امرأة العزيز بأن هذا الجمال الذي رأيتُنّه هو الذي حملني على المراودة، وهددت بسجن يوسف إن لم يفعل ما تأمره به، كما قال الله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ *فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ *قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتَّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ *} [يوسف] . ويستجيب زوجها لمطلبها فيسجن يوسف بغير جريرة، كما قال تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ *} [يوسف] .
ومكث يوسف في السجن مدة طويلة يضيق المقام عن سرد جميع ما وقع فيها، وخلاصتها: أنه دخل السجن، ودخل معه فتيان وسألاه عن رؤيا لهما، كما قال تعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ *} [يوسف] ، وبعد أن دعاهما إلى الإيمان بالله وتوحيده والبعد عن الشرك، وبيَّن لهما بطلان ألوهية غير الله، نبأهما بتأويل الرؤيا، وقال للذي ظن أنه ناجٍ منهما اذكر شأني عند الملك، فخرج الناجي ونسي أمر يوسف، وبقي يوسف في السجن سنين طويلة، حتى رأى الملك رؤيا وأراد تفسيرها من قومه، فلم يجد أحدًا يفسرها له، فحينها تذكر الرجل يوسف وعلمه بتأويل الرؤيا، فطلب من الملك أن يرسله إلى يوسف ليخبرهم بتأويل الرؤيا، فأذن له وذهب وسأل يوسف عنها فأخبره بتأويلها.
ولما سمع به الملك أمر بإخراجه من السجن، فرفض يوسف الخروج حتى تظهر للناس براءته من تهم النساء، كما قال الله تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ *قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ *ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ *} [يوسف] . وبعد ظهور براءة يوسف للعيان، إذا بالملك يطلب إحضار يوسف إليه؛ لاستخلاصه لنفسه، وهكذا مكّن الله ليوسف في الأرض، كما قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ *قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ *وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ *} [يوسف] . وبعد موت الملك حل يوسف عليه السلام محله، وصار عزيزَ مصر وصاحب الأمر فيها.
المسألة الثالثة: مكان يوسف عليه السلام في السماوات:
جاء في الصحيح ما يثبت كون يوسف عليه السلام في السماء الثالثة، كما في حديث مالك بن صعصعة الطويل في الإسراء والمعراج عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وفيه: «ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت إذا يوسف، قال: هذا يوسف فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح»[9].
[1] أخرجه البخاري (كتاب مناقب الأنصار، رقم 3887)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 162)، واللفظ له.
[2] البداية والنهاية (1/236) [ط إحياء التراث].
[3] فيض القدير (2/2) [المكتبة التجارية الكبرى].
[4] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (9/3766) [دار الفكر، بيروت].
[5] الإفصاح عن معاني الصحاح (5/116) [دار الوطن].
[6] أخرجه الترمذي في الشمائل (رقم303) [دار إحياء التراث العربي]، عن قتادة مرسلاً. وفيه حسام بن مصك، وهو مطروح الحديث كما قال الإمام أحمد، وضعفه غير واحد، وعدّ الذهبي هذا الحديث من مناكيره. انظر: ميزان الاعتدال (2/221) [دار الكتب العلمية، 1995م]. والحديث ضعفه الألباني في أصل صفة الصلاة (2/569) [مكتبة المعارف، ط1، 1427هـ]. والذي في الشمائل للترمذي بلفظ «ما بعث الله نبيًّا إلاّ حسن الوجه حسن الصوت، وكان نبيّكم صلّى الله عليه وسلّم حسن الوجه حسن الصوت وكان لا يرجّع». وقد ذكره كثير من أهل العلم باللفظ الذي ذكره ابن القيم رحمه الله هنا.
[7] بدائع الفوائد لابن القيم (3/1167) [دار عالم الفوائد].
[8] بدائع الفوائد لابن القيم (3/1166، 1167).
[9] أخرجه البخاري (كتاب مناقب الأنصار، رقم 3887)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 164).
1 ـ «المعرَّب من كلام الأعجمي»، للجواليقي.
2 ـ «تفسير القرطبي» (ج15).
3 ـ «صحيح (قصص الأنبياء لابن كثير)» لسليم الهلالي.
4 ـ «تفسير ابن كثير» (ج7).
5 ـ «البداية والنهاية» (ج2)، لابن كثير.
6 ـ «تفسير السعدي» (737).
7 ـ «قصص الأنبياء»، للنجار.
8 ـ «الإعلام بأصول الأعلام الواردة في قصص الأنبياء»، للدكتور ف. عبد الرحيم.
9 ـ «فبهداهم اقتده: قراءة تأصيلية في سير وقصص الأنبياء عليهم السلام» لعثمان الخميس.
10 ـ «الأحاديث الصحيحة من أخبار وقصص الأنبياء»، لإبراهيم بن محمد العلي.