حرف الياء / يوم الحسرة

           

الانحسار: الانكشاف، يقال: حسرت كمي عن ذراعي أحسره حسرًا: كشفت. ورجل حاسر لا عمامة على رأسه، وامرأة حاسر؛ إذا حسرت عنها ثيابها، ورجل حاسر: لا درع عليه ولا بيضة على رأسه[1].


[1] ينظر: مفرادت الراغب (234) [دار القلم، ط1، 1412هـ]، ولسان العرب (4/187) [دار صادر].


أشد الندامة، والتلهف على الشيء الذي فات ولا يمكن تدراكه. وهي الغم الذي يصيب الكافر على ما فاته، والندم على عصيانه، كأنه انحسر عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكبه، أو انحسر قواه من فرط غم أو أدركه إعياء عن تدارك ما فرط منه، قال تبارك وتعالى : {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] ، وقال تعالى: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 167] ، وقال سبحانه وتعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} [الأنعام: 31] [1].


[1] ينظر: تفسير الطبري (16/87) [دار الفكر، 1405هـ]، ومفرادت الراغب (234)، وأضواء البيان للشنقيطي (4/352) [عالم الفوائد، ط1، 1426هـ].


حقيقة يوم الحسرة على الإجمال:
هو يوم الحساب، أضيف اليوم إلى الحسرة لشدة ندم الكفار فيه على التفريط، ولكثرة ما يحدث فيه من تحسر المجرمين على ما أضاعوا فيه من أسباب النجاة، فكان ذلك اليوم كأنه مما اختصت به الحسرة، فهو يوم حسرة بالنسبة إليهم وإن كان يوم فرح بالنسبة إلى الصالحين[1].
حقيقة يوم الحسرة على التفصيل:
فيه أقوال، أشهرها ما يأتي:
القول الأول: سمي يوم الحسرة كذلك لأن الكفار يرون أعمالهم الخبيثة التي استحقوا بها العقوبة من الله، ومعاصيهم وآثامهم حسرة وندامة يوم القيامة، ويتحسرون لم عَملوها؟ وهلا عملوا بغيرها مما يُرضي الله تعالى ذكره، فندموا على ما فرط منهم من أعمالهم الرديئة؛ إذ رأوا عقابها وجزاءها من الله؛ لأن الله أخبر أنه يريهم أعمالهم ندمًا عليهم. كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ *} [البقرة] وقد نقل هذا القول أبو جعفر الطبري رحمه الله عن جماعة من المفسرين، ومال إليه[2].
القول الثاني: إن يوم الحسرة حين يرى الكفار مقاعدهم من الجنة لو كانوا مؤمنين؛ لأن الله عزّ وجل يريهم أعمالهم التي فرضها عليهم في الدنيا فضيَّعوها ولم يعملوا بها، حتى استوجب غيرُهمْ بطاعته ربَّه ما كان الله أعدَّ لهم، لو كانوا عملوا بها في حياتهم، من المساكن والنِّعم، فصار ما فاتهم من الثواب ـ الذي كان الله أعدَّه لهم عنده لو كانوا أطاعوه في الدنيا؛ إذ عاينوه عند دخول النار أو قبل ذلك ـ أسًى وندامةً وحسرةً عليهم. فأورثت مساكنهم من الجنة أهل الإيمان بالله والطاعة له، وأدخلوهم مساكن أهل الإيمان بالله من النار، وأيقن الفريقان بالخلود الدائم، والحياة التي لا موت بعدها، فيا لها حسرة وندامة[3].
ومما استدل به أصحاب هذا القول ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يدخل أحد الجنة إلا رأى مقعده من النار لو أساء؛ ليزداد شكرًا. ولا يدخل النار أحد إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن؛ ليكون عليه حسرة»[4].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ـ في قصة ذكرها ـ فقال: «فليس نَفْسٌ إلا وهي تنظر إلى بَيتٍ في الجنة وبَيتٍ في النار، وهو يومُ الحسرة. قال: فيرى أهلُ النار الذين في الجنة، فيقال لهم: لو عَملتم! فتأخذهم الحسرة. قال: فيرى أهلُ الجنة البيتَ الذي في النار، فيقال: لولا أن منَّ الله عليكم»[5].
القول الثالث: يوم الحسرة هو يوم ذبح الموت، فاستيقن الكفار عندئذ الخلود فى النار، فلو مات أحد فرحًا مات أهل الجنة، ولو مات أحد حزنًا مات أهل النار، وهو قول الجمهور، ويدل عليه حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح، فينادي مناد: يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت، وكلهم قد رآه، ثم ينادي: يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيذبح، ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، ثم قرأ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} [مريم: 39] »[6].
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم ينادي منادٍ: يا أهل الجنة لا موت ويا أهل النار لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحًا إلى فرحهم ويزداد أهل النار حزنًا إلى حزنهم»[7].
قال الآلوسي رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} [مريم: 39] : «إن ظاهر الحديث... كما لا يخفى على المتتبع قاض بأن يوم الحسرة يوم يذبح الموت وينادى بالخلود. ولعل التخصيص لما أن الحسرة يومئذ أعظم الحسرات لأنه هناك تنقطع الآمال وينسد باب الخلاص من الأهوال»[8]. ومما يقوي هذا القول: نص حديث أبي سعيد رضي الله عنه المذكور سابقًا، كما أن قراءة النبي صلّى الله عليه وسلّم الآية بعد ذكره ذبح الموت تدل على أن المراد بيوم الحسرة هو يوم ذبح الموت[9].
القول الرابع: قيل يوم الحسرة المراد بذلك يوم القيامة مطلقًا، وهو مروي عن بعض السلف، منهم ابن عباس رضي الله عنهما[10]، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم[11]. وذلك أن أهل النار من أول أمرهم وهم في سخط الله، فهم في حال حسرة لكثرة الحسرات والتأسف على ما فرطوا، وهذه الحسرات تقع لهم في مواطن عديدة. ومن هنا قيل: المراد بالحسرة جنسها فيشمل ذلك حسرتهم فيما ذكر وحسرتهم عند أخذ الكتب بالشمائل وغير ذلك[12].
قال الرازي: «وأما يوم الحسرة فلا شبهة في أنه يوم القيامة من حيث يكثر التحسر من أهل النار»[13].
ويمكن الجمع بين الأقوال كلها بأن يقال: إن يوم القيامة كله حسرة على الكافرين، وأشده حسرة عليهم يوم يذبح الموت، فيستيقن الكافر يومئذ أن مصيره إلى النار خالدًا مخلدًا فيها، والله أعلم.
عموم الحسرة للخلق كافة:
ذهب بعض العلماء من المفسرين وغيرهم إلى أن الحسرة يوم القيامة عامة تشمل المؤمن والكافر، فالمؤمن يتحسر على قلة عمله وإحسانه، والكافر يتحسر على تفريطه وعصيانه. قال الرازي: «وقيل: يتحسر أيضًا في الجنة إذا لم يكن من السابقين الواصلين إلى الدرجات العالية والأول هو الصحيح؛ لأن الحسرة غم، وذلك لا يليق بأهل الثواب»[14]. وقد يجاب عن قول الرازي بأن الحسرة تكون في عرصات القيامة قبل أن يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار؛ ولكن يشكل عليه قوله جلّ جلاله: {إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ} [مريم: 39] ؛ أي: فُرغ من الحساب، وفُصل بين الفريقين، وذهب أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار وذُبح الموت ونُودي كل من الفريقين بالخلود[15]. ويمكن أن يقال بأن الحسرة تشمل عصاة الموحدين ممن سيدخل النار ثم يخرج منها، أما من دخل الجنة ابتداء فلا، والله أعلم.


[1] ينظر: أضواء البيان (4/352).
[2] ينظر: تفسير الطبري (2/73، 75)، والتذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة (2/569) [دار المنهاج، ط1، 1425هـ].
[3] ينظر: تفسير الطبري (2/74، 16/87).
[4] أخرجه البخاري (كتاب الرقاق، رقم 6569).
[5] أخرجه الطبري في التفسير (3/296) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1420هـ]، والحاكم (كتاب الفتن والملاحم، رقم 8519)، وقال: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه»، ووافقه الذهبي، قال أحمد شاكر رحمه الله: «وهو كما قالا»، وقال قبل ذلك: «الحديث موقوف من كلام ابن مسعود ولكنه ـ وإن كان موقوفًا لفظًا ـ فإنه مرفوع حكمًا؛ لأنه في صفة آخر الزمان، وما يأتي من الفتن، ثم فناء الدنيا، ثم البعث والنشور والشفاعة، وما إلى ذلك، مما لا يعلم بالرأي» اهـ. انظر: تفسير الطبري (3/297) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1420هـ].
[6] أخرجه البخاري (كتاب تفسير القرآن، رقم 4730)، ومسلم (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم 2850)
[7] أخرجه البخاري (كتاب الرقاق، رقم 6548)، ومسلم (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم 2850).
[8] روح المعاني (16/575) [دار الحديث، 1426هـ]، وينظر: البحور الزاخرة في علوم الآخرة (2/479) [غراس للنشر والتوزيع، ط1، 1428هـ].
[9] ينظر: أضواء البيان للشنقيطي (4/354).
[10] أخرجه الطبري في التفسير (15/547) [دار هجر، ط1].
[11] ينظر: تفسير ابن كثير (5/234) [دار طيبة، ط4].
[12] ينظر: تفسير ابن كثير (5/234).
[13] تفسير الرازي (21/221) [دار إحياء التراث العربي، ط3].
[14] تفسير الرازي (21/221).
[15] ينظر: تفسير ابن كثير (5/234).


1 ـ «المنهاج في شعب الإيمان» (ج1)، للحليمي.
2 ـ «الجامع لشعب الإيمان» (ج2)، للبيهقي.
3 ـ «العاقبة»، لعبد الحق الإشبيلي.
4 ـ «التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة»، للقرطبي.
5 ـ «حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح»، لابن القيم.
6 ـ «البحور الزاخرة في علوم الآخرة» (ج2)، للسفاريني.
7 ـ «يقظة أولي الاعتبار مما ورد في ذكر النار»، لصديق حسن خان.
8 ـ «توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم» (ج2)، لابن عيسى.
9 ـ «معارج القبول» (ج2)، لحافظ الحكمي.
10 ـ «القيامة الكبرى»، لعمر الأشقر.