الأمن في اللغة: عدم توقع مكروه في الزمن الآتي، وأصله طمأنينة النفس وزوال الخوف[1]. وقال ابن فارس رحمه الله: «الهمزة والميم والنون أصلان متقاربان: أحدهما: الأمانة التي هي ضد الخيانة، ومعناها: سكون القلب، والآخر: التصديق»[2].
المكر في اللغة: هو الاحتيال والخداع[3]. أو هو: «احتيال في خفية»[4]. وقال بعضهم: «المكر: صرف الغير عما يقصده بحيلة»[5]. وقيل: «هو التوصل إلى الإيقاع بالخصم من حيث لا يشعر»[6].
[1] انظر: تاج العروس (34/184) [وزارة الإعلام بالكويت، 1408هـ].
[2] مقاييس اللغة (1/133) [دار الفكر، ط1399هـ].
[3] المصدر السابق (5/345).
[4] العين (5/370) [مكتبة هلال].
[5] مفردات ألفاظ القرآن للراغب (2/381) [دار القلم].
[6] القول المفيد على كتاب التوحيد (2/101) [دار ابن الجوزي، ط2، 1424هـ].
الواجب على العبد: أن يعظّم في قلبه جانب الخوف من الله سبحانه وتعالى، فلا يفلح من يأمن مكر الله سبحانه وتعالى.
كما أنه يجب عليه أن يعتقد تحريم الأمن من مكر الله وأنه من كبائر الذنوب[1]، وقد أخبر الله تعالى أنه من صفات أهل الخسران، وهو ليس في درجة واحدة، فقد يناقض أصل التوحيد أو يناقض كماله، كما سيأتي في الأقسام.
[1] انظر: الكبائر للذهبي (227) [دار الندوة الجديدة].
حقيقة الأمن من مكر الله: أن يطمئن قلب الإنسان ولا يبالي ولا يخاف عقوبة الله، إما لجهله، وإما لغروره بأنه موحّد وأن المعاصي لا تضره، وإما لأسبابٍ أخرى غرته بالله، فتساهل بالمعاصي وأمِن العقوبة، وهذا من كبائر الذنوب، قال تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ *} [الأعراف] ، فالذي لا يخاف عقوبة الله، ولا يخاف نقمته لا في الدنيا ولا في الآخرة هذا آمن من مكر الله، وهو على خطرٍ عظيم وقد سماه الله فاسقًا، نسأل الله العافية.
ويكون الأمن من مكر الله كفرًا وردةً[1] في حال انعدام الخوف من الله تعالى، فمن لم يكن معه خوف من الله سبحانه وتعالى أصلاً، فقد أمن، فهو كافر.
إذن: من كان عنده خوف قليل ويأمن كثيرًا فإنه من أهل الذنوب لا من أهل الكفر، فإن لم يكن معه خوف أصلاً، فإنه كافر بالله عزّ وجل[2].
[1] انظر: شرح الطحاوية (313) [وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف، ط1، 1418هـ].
[2] يُراجع: شرح الطحاوية لصالح آل الشيخ [شرح صوتي/الشريط التاسع والعشرون].
قال تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ *أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ *أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ *} [الأعراف] .
وقال تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ *} [النحل] .
وقـال تـعـالى: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ *} [الأنعام] .
ومن السُّنَّة: حديث عقبة بن عامر؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج، ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ *} [الأنعام] »[1].
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم يروي عن ربه عليه السلام أنه قال: «وعزّتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين إذا خافني في الدنيا أمّنته يوم القيامة وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة»[2].
[1] أخرجه أحمد (28/547) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والطبري في تفسيره (9/248) [دار هجر، ط1]، وحسنه العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (1477) [دار ابن حزم، ط1]، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 413) [مكتبة المعارف، ط1].
[2] أخرجه البزار في المسند (14/342) [مكتبة العلوم والحكم، ط1]، وابن حبان في صحيحه (كتاب الرقائق، رقم 640)، وأعله الدارقطني بالإرسال. العلل (8/38) [دار طيبة، ط1]، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 742) [مكتبة المعارف، ط1].
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «الكبائر الإشراك بالله سبحانه وتعالى، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله»[1].
قال الحسن البصري رحمه الله: «من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له»[2].
وقال قتادة رحمه الله: «بغت القوم أمر الله! وما أخذ الله قوما قطُّ إلا عند سلوتهم وغرَّتهم ونعمتهم، فلا تغتروا بالله»[3].
وقال إسماعيل بن رافع رحمه الله: «من الأمن من مكر الله إقامة العبد على الذنب؛ يتمنى على الله المغفرة»[4].
[1] أخرجه عبد الرزاق في المصنف (10/459، رقم 19701)، والطبراني في المعجم الكبير (9/171) [مكتبة ابن تيمية، ط2].
[2] أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (4/1291 رقم 7293) [مكتبة نزار مصطفى الباز، ط3، 1419هـ].
[3] أخرجه السيوطي في الدر المنثور (3/505) [ط دار الفكر]، وعزاه لابن أبي حاتم.
[4] المصدر السابق (3/507).
الأمن من مكر الله ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: هو الأمن المطلق من مكر الله سبحانه وتعالى، وذلك حين يزول الخوف من الله سبحانه وتعالى من قلب العبد بالكلية، وهذا النوع من الكفر الأكبر المخرج عن الملة.
والنوع الثاني: الأمن من مكر الله أمنًا نسبيًّا وجزئيًّا لا مطلقًا، فيوجد في الإنسان خصلة من خصال الأمن من مكر الله سبحانه وتعالى، هي التي تجرِّئه على المعاصي والذنوب، وتجعله يقترف كثيرًا من الذنوب والمعاصي دون شعور بالخوف، ولكن لا يعني هذا انتفاء أصل الخوف؛ بل أصل الخوف من الله موجود، فإذا خُوّف خاف، وإذا تذكر خاف، وهذا الأصل في وجود الخوف في قلب الإنسان هو أصل الإيمان، فإذا انتفى بالكلية وخرج أصل الخوف من قلب الإنسان من الله سبحانه وتعالى خرج من الإيمان[1].
[1] انظر: مدارج السالكين (1/507 ـ 513) [دار الكتاب العربي، ط3]، وشرح كتاب التوحيد لعبد الرحيم السلمي [تحت باب قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ *}].
ـ صور من مكر الله تعالى:
1 ـ أن يؤخر عن العباد عذاب الأفعال، فيحصل منهم نوع اغترار، فيأنسوا بالذنوب، فيجيئهم العذاب على حين غِرّة.
2 ـ أن يغفل الناس عن ربهم ومعبودهم وينسوا ذكره، فيتخلى عنهم إذا تخلوا عن ذكره وطاعته، فيسرع إليهم البلاء والفتنة فيكون مكره بهم تخلّيه عنهم.
3 ـ أن يعلم من ذنوبهم وعيوبهم ما لا يعلمونه من نفوسهم، فيأتيهم المكر من حيث لا يشعرون.
4 ـ أن يمتحنهم ويبتليهم بما لا صبر لهم عليه فيفتنون به، وذلك مكر[1].
[1] انظر: كتاب الفوائد (164) [دار الكتب العلمية، ط2].
1 ـ «تفسير السعدي».
2 ـ «الخوف من الله تعالى»، لمحمد شومان الرملي.
3 ـ «الزواجر عن اقتراف الكبائر» (ج1)، لابن حجر الهيتمي.
4 ـ «شرح الطحاوية»، لابن أبي العز الحنفي.
5 ـ «شروح كتاب التوحيد»، لمحمد بن عبد الوهاب.
6 ـ كتاب «التوحيد»، لمحمد بن عبد الوهاب.
7 ـ «الكبائر»، لمحمد بن عبد الوهاب.
8 ـ «الكبائر»، للذهبي.
9 ـ «الفوائد»، لابن القيم.
10 ـ «مفردات ألفاظ القرآن» (ج2)، للراغب الأصفهاني.