الإنابة: مشتقة من النَوب، وهو الرجوع، يقال: ناب نوبًا ونوبةً، قال ابن فارس رحمه الله: «النون والواو والباء، كلمة واحدة تدل على اعتياد مكان ورجوع إليه»[1]. والنائبة: هي المصيبة، وهي حادثة من شأنها أن تنوب الناس دائمًا[2].
وقيل: إن أصل الإنابة، القطع، ومنه أخذ اسم الناب؛ لأنه قاطع. قال الطبري رحمه الله: «وفي أصل الإنابة قولان: أحدهما: أن أصله القطع، ومنه أخذ اسم الناب؛ لأنه قاطع، فكأن الإنابة هي الانقطاع إلى الله سبحانه وتعالى بالطاعة. الثاني: أصله الرجوع، مأخوذ من ناب ينوب إذا رجع مرة بعد أخرى، ومنه النوبة؛ لأنها الرجوع إلى عادة»[3].
[1] مقاييس اللغة (5/367).
[2] انظر: المفردات للراغب (827) [دار القلم، ط2]، والصحاح (1/228)، ولسان العرب (774 ـ 776)، والقاموس المحيط (1799).
[3] تفسير الطبري (14/31) [مؤسسة الرسالة، ط1].
قال ابن القيم رحمه الله ـ في معرض كلامه عن الإنابة ـ: «وهي تتضمن أربعة أمور: محبته، والخضوع له، والإقبال عليه، والإعراض عما سواه، فلا يستحق اسم المنيب إلا من اجتمعت فيه هذه الأربع، وتفسير السلف لهذه اللفظة يدور على ذلك»[1].
[1] المرجع السابق (1/467)، وانظر: طريق الهجرتين (173)، والفوائد (341)، وزاد المعاد (2/25) [مؤسسة الرسالة، ط7]، والصواعق المرسلة (4/1436) [دار العاصمة، ط1].
الإنابة تُعَدُّ من أعلى مقامات التوحيد، وهي غاية التوكل، ومقصد الأواهين، وبها مُدِح المرسلون، وأمر بها سبحانه في كتاب المبين، وأخبر أن آياته إنما يتبصر بها ويتذكر أهل الإنابة، والعباد لو خُلُّوا وفطرهم لما عدلوا عن الإنابة إلى ربهم، وأخبر سبحانه وتعالى أن ثوابه وجنته لأهل الخشية والإنابة. فما أعظمها من منزلة، وما أحمدها من غاية[1].
[1] انظر: مدارج السالكين (433 ـ 434) [دار الكتاب العربي، ط3، 1416هـ].
قال تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ *} [الروم] ، وقال: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ *} [الروم] ، وقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ *} [سبأ] ، وقال: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى} [الزمر: 17] ، وغيرها من الآيات.
ومن السُّنَّة: حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يدعو يقول: «رب أعنّي ولا تُعِن عليّ، وانصرني ولا تنصر علّي، وامكر لي ولا تمكر عليّ، واهدني ويسر الهدى لي، وانصرني على من بغى عليّ، رب اجعلني لك شكّارًا، لك ذكّارًا، لك رهّابًا، لك مطواعًا، لك مخبتًا، إليك أوّاهًا منيبًا، ربِّ تقبّل توبتي، واغسل حَوبتي، وأجب دعوتي، وثبّت حجتي، وسدّد لساني، واهدِ قلبي، واسلُل سخيمة صدري»[1].
وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا بل مؤمن منيب، لا بل مؤمن منيب» الحديث[2].
[1] أخرجه أبو داود (كتاب الصلاة، رقم 1510)، والترمذي (أبواب الدعوات، رقم 3551) وقال: «حسن صحيح»، وابن ماجه (كتاب الدعاء، رقم 3830)، وأحمد في المسند (3/452) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (رقم 1352).
[2] أخرجه أحمد (38/46) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والنسائي في الكبرى (كتاب التفسير، رقم 11180)، وقال الهيثمي: «رجال أحمد رجال الصحيح». مجمع الزوائد (9/359) [مكتبة القدسي].
قال أبو بكر الوراق رحمه الله: «علامة المنيب أن يكون عارفًا لحرمته، ومواليًا له، متواضعًا لجلاله، تاركًا لهوى نفسه»[1].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «وأمر باتباع سبيل من أناب إليه، وسبيل أهل الإنابة هي سبيل المؤمنين المتقين، أهل طاعة الله ورسوله»[2].
وقال ابن القيم رحمه الله: «الإنابة هي عكوف القلب على الله سبحانه وتعالى، كاعتكاف البدن في المسجد لا يفارقه، وحقيقة ذلك عكوف القلب على محبته، وذكره بالإجلال والتعظيم وعكوف الجوارح على طاعته بالإخلاص له والمتابعة لرسوله، ومن لم يعكف قلبه على الله وحده عكف على التماثيل المتنوعة»[3].
[1] أورده القرطبي في تفسيره (17/21) [دار الكتب المصرية، ط2، 1384هـ].
[2] جامع المسائل لابن تيمية (4/275) [عالم الفوائد].
[3] الفوائد لابن القيم (196) [دار الكتب العلمية، ط2].
أقسام الإنابة:
1 ـ إنابة لربوبية الله تعالى: وهي إنابة جميع مخلوقات الله تعالى، وهذه الإنابة يشترك فيها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، قال الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} [الروم: 33] ، فهذا عام في حق كل داعٍ أصابه ضرٌّ، وهذه الإنابة لا تستلزم الإيمان ولا الإسلام، بل تجامع الشرك والكفر؛ كما قال تعالى في حق هؤلاء: {...ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} [الروم] ، فهذا حالهم بعد إنابتهم.
2 ـ إنابة لإلهية الله تعالى: وهي إنابة عبودية ومحبة وخضوع واستسلام لله تبارك وتعالى ، وهذه الإنابة لا يمكن أن تجتمع مع الشرك والكفر؛ كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى} [الزمر: 17] . وهذه الإنابة هي إنابة أنبياء الله تعالى، وأهله وأوليائه، وأهل خشيته[1].
أقسام الناس ودرجاتهم تجاه الإنابة:
1 ـ المنيب بالرجوع عن المخالفات والمعاصي:
وهذه الإنابة هي المرادفة للتوبة، ومصدرها مطالعة وعيد الله تعالى للعصاة بالعذاب، والحامل على هذه الإنابة هو العلم بالله تعالى، والخوف من عقابه.
2 ـ المنيب بالتقرب بأنواع العبادات:
وهذه الإنابة أكمل من إنابة القسم الأول، حيث تجد المنيب ساعيًا إلى الله تعالى بكل جهده، وقد حُبب إليه فعل الطاعات والقربات. ومصدر هذه الإنابة الرجاء، ومطالعة الوعد والثواب، ومحبة الكرامة من الله تعالى.
قال ابن القيم رحمه الله بعد ذكره لهذا القسم من الناس: «وهؤلاء أبسط نفوسًا من أهل القسم الأول، وأشرح صدورًا، وجانب الرجاء ومطالعة الرحمة والمنة أغلب عليهم، وإلا فكل واحد من الفريقين منيب بالأمرين جميعًا، ولكن خوف هؤلاء اندرج في رجائهم فأنابوا بالعبادات، ورجاء الأولين اندرج تحت خوفهم فكانت إنابتهم بترك المخالفات»[2].
3 ـ المنيب إلى الله تعالى بالدعاء والتضرع:
وهذه الإنابة، إنما تكون بالافتقار والتضرع إلى الله تعالى في سؤال الحاجات كلها.
ومصدر هذه الإنابة هو شهود الفضل والمنة والغنى والكرم والقدرة، فإنابة أصحاب هذا القسم من هذه الجهة مع قيامهم بالأمر والنهي[3].
[1] المرجع السابق (1/467) بتصرف.
[2] طريق الهجرتين (173).
[3] انظر: المرجع السابق (173).
يقسم غلاة الصوفية الإنابة إلى أقسام:
إنابة العوام: وهي التي عليها أهل السُّنَّة وموافقة للقرآن الكريم، ثم إنابة الخواص (التوكل من غير فعل الأسباب)، ثم إنابة خاصة الخاصة (الفناء)، ثم إنابة خلاصة خاصة الخاصة (وحدة الوجود)[1].
الرد عليهم:
هذا تقسيم باطل لم يرد في الكتاب، ولا في السُّنَّة، ولا في كلام الصحابة والتابعين، وإنما غايته مدح الطريقة الشركية التي يسلكونها، التي تنتهي إلى القول بالحلول ووحدة الوجود، وهو أن لا يبقى ذات معبودة وذات عابدة، وإنما تصبح الذاتان ذاتًا واحدة ـ والعياذ بالله ـ، وهذا هو الكفر الصُّراح، وفي هذا التقسيم التحقير من طريقة أهل السُّنَّة وأنها طريقة العوام، ولم يدركوا أنها طريقة الأنبياء القائمة على تحقيق الإنابة بالعبودية والمحبة والخضوع والاستسلام لله تبارك وتعالى ، والافتقار والتضرع إليه في سؤال الحاجات كلها، والرجوع إليه مع التوبة والإقبال على الطاعات. فمن حاد عن هذه الطريقة، وقع في الضلال والخسران[2].
[1] انظر: لطائف الإعلام في إشارات أهل الإلهام للكاشاني (1/248 ـ 249) [مطبعة دار الكتب المصرية]، والمعجم الصوفي (443 ـ 449) [رسالة دكتوراه من كلية دار العلوم، جامعة القاهرة]، وموسوعة مصطلحات التصوف الإسلامي (97 ـ 98) [مكتبة لبنان، ط1، 1999م].
[2] انظر: منهاج السُّنَّة النبوية (5/346) [جامعة الإمام محمد بن سعود، ط1، 1406هـ]، ومدارج السالكين (3/351).
1 ـ «تفسير الطبري».
2 ـ «تفسير القرطبي».
3 ـ «زاد المعاد»، لابن القيم.
4 ـ «الصواعق المرسلة»، لابن القيم.
5 ـ «طريق الهجرتين»، لابن القيم.
6 ـ «غذاء الألباب شرح منظومة الآداب»، للسفاريني.
7 ـ «فتح الباري»، لابن حجر.
8 ـ «الفوائد»، لابن القيم.
9 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
10 ـ «مدارج السالكين»، لابن القيم.