حرف الألف / انتفاع الميت بسعي الحي

           

نفع : كلمة تدلُّ على خلاف الضَّرّ[1]، ونفعه نفعًا: أفاده وأوصل إليه خيرًا، فهو نافع ونفّاع[2]، ويقال: رجل نفَّاعٌ: إذا كان ينفع الناس ولا يضرّهم[3].
ونفعه: مبالغة في نفعه، وانتفع به: حصل منه على منفعة، واستنفع فلانًا: طلب نفعه، والمنفعة: كلُّ ما يُنتَفع به، وجمعه منافع، والنفاع: الفائدة والمنفعة، والنفع: الخير وما يتوصل به الإنسان إلى مطلوبه[4].
الميت : من فارق روحه جسده فراقًا كليًّا[5].
سعى : سعى الرجلُ يسعى سَعْيًا كرَعى: قصدَ، وعملَ، ومشى، وعدا، ونَمَّ، وكسبَ[6]، وأَصلُ السَّعْيِ في كلام العرب: التصرُّف في كل عَمَلٍ، ومنه قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى *} [النجم] ، معناه: إلا مَا عَمِلَ، ومعنى قوله: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] : فاقْصِدُوا.
والسَّعْيُ الكَسْبُ، وكلُّ عملٍ من خير أَو شرٍّ: سَعْي، والفعلُ كالفِعْلِ، وفي التنزيل: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى *} [طه] . وسَعَى لهم وعليهم: عَمِلَ لهم وكَسَبَ، وأَسْعَى غيره: جَعَلَه يَسْعَى[7].
الحي : معروف.


[1] مقاييس اللغة (5/271) [دار الفكر، ط1399هـ].
[2] المعجم الوسيط (2/942) [دار الدعوة].
[3] تهذيب اللغة (3/6) [دار إحياء التراث العربي، ط1].
[4] انظر: المعجم الوسيط (2/942).
[5] راجع: مصطلح الموت.
[6] انظر: الصحاح (1/318) [دار العلم للملايين، ط4]، والقاموس المحيط (1670) [دار الفكر].
[7] لسان العرب (14/384) [دار صادر، ط3]، وانظر: المحكم والمحيط الأعظم (2/221) [دار الكتب العلمية].


وصول أثر أعمال الحي وأقواله المقصودة إلى الميت؛ لينتفع بها في زيادة أجر، سواء كان قد تسبب فيه أو لا[1].


[1] انظر: مجموع الفتاوى (24/306 ـ 307)، الروح لابن القيم (117 ـ 118)، وشرح الطحاوية (1/456).


الاعتقاد الجازم بأن الميت ينتفع بثواب الأعمال الصالحة التي يؤديها الحي عنه أو يُهديها إليه، وكذا انتفاعه بأقواله المقصودة كالدعاء له والاستغفار، وسؤال التثبيت له عند فتنة القبر، وكذا انتفاعه بالثناء عليه بعد الموت، والتصديق بجميع ما ورد في ذلك من نصوص.
وقد ذكر ابن القيم مسألة: أتنتفع أرواح الموتى بشيء من سعي الأحياء، أم لا؟ وبيّن أنها تنتفع من سعي الأحياء بأمرين مجمع عليهما بين أهل السُّنَّة من الفقهاء وأهل الحديث والتفسير.
أحدهما: ما تسبب إليه الميت في حياته.
والثاني: دعاء المسلمين له، واستغفارهم له، والصدقة، والحج على نزاع؛ ما الذي يصل من ثوابه، هل ثواب الإنفاق؟ أو ثواب العمل؟
فعند الجمهور: يصل ثواب العمل نفسه، وعند بعض الحنفية إن ما يصل ثواب الإنفاق.
واختلفوا في العبادة البدنية: كالصوم، والصلاة، وقراءة القرآن، والذكر؛ فمذهب الإمام أحمد وجمهور السلف وصولها، وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة... والمشهور من مذهب الشافعي ومالك: أن ذلك لا يصل[1].


[1] الروح (117) [دار الكتب العلمية، 1395هـ].


انتفاع الأموات بسعي الأحياء من الأمور الغيبية المتعلقة بحياة البرزخ التي لا تعرف إلا بالوحي.



قال عزّ وجل: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12] .
وفي حديث عائشة رضي الله عنها؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه»[1].
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: «نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضية؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء»[2].
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به من بعده»[3].


[1] أخرجه البخاري (كتاب الصوم، رقم 1952)، ومسلم (كتاب الصيام، رقم 1147).
[2] أخرجه البخاري (كتاب الحج، رقم 1852).
[3] أخرجه مسلم (كتاب الوصية، رقم 1631).


قال الطحاوي رحمه الله: «وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات»[1].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «وأما القراءة والصدقة وغيرهما من أعمال البر، فلا نزاع بين علماء السُّنَّة والجماعة في وصول ثواب العبادات المالية؛ كالصدقة والعتق، كما يصل إليه أيضًا الدعاء، والاستغفار، والصلاة عليه صلاة الجنازة، والدعاء عند قبره. وتنازعوا في وصول الأعمال البدنية: كالصوم، والصلاة، والقراءة، والصواب: أن الجميع يصل إليه، فقد ثبت في «الصحيحين» عن النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ أنه قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» ، وثبت أيضًا أنه: «أمر امرأة ماتت أمها وعليها صوم أن تصوم عن أمها» [2]، وفي المسند عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال لعمرو بن العاص رضي الله عنه: «لو أن أباك أسلم فتصدقت عنه، أو صمت، أو أعتقت عنه؛ نفعه ذلك» [3]، وهذا مذهب أحمد، وأبي حنيفة، وطائفة من أصحاب مالك، والشافعي»[4].
وقال محمد بن مفلح رحمه الله: «كل قربة فعلها المسلم وجعل ثوابه للمسلم نفعه ذلك، وحصل له الثواب؛ كالدعاءِ، والاستغفارِ، وواجبٍ تدخله النيابة، وصدقة التطوع، وكذا العتق، ذكره القاضي وأصحابه أصلاً، وذكره أبو المعالي، وشيخنا، وصاحب المحرر. وكذا حج التطوع، وفي المجرد: من حج نفلاً عن غيره وقع عمن حج؛ لعدم إذنه، وكذا القراءة والصلاة والصيام. ونقل الكحّال في الرجل يعمل شيئًا من الخير من صلاة أو صدقة أو غير ذلك ويجعل نصفه لأبيه أو أمه: أرجو، وقال: الميت يصل إليه كل شيء من الخير من صدقة أو صلاة أو غيره»[5].
وقال إبراهيم بن مفلح رحمه الله: «وأي قربة فعلها: من دعاء، واستغفار، وصلاة، وصوم، وحج، وقراءة، وغير ذلك، وجعل ثواب ذلك للميت المسلم نفعه ذلك»[6]، ثم ذكر قول أحمد الآنف.
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: «قال الفقهاء في ذلك: وأي قربة فعلها مسلم من دعاء، واستغفار، أو حج، أو قراءة، أو غير ذلك، وجعل ثوابها لمسلم حي أو ميت نفعه ذلك»[7].
وكلام العلماء وأقوالهم في المسألة في القديم والحديث كثير.


[1] شرح الطحاوية (452) [المكتب الإسلامي، ط4].
[2] أخرجه مسلم (كتاب الصيام، رقم 1148).
[3] أخرجه أبو داود (كتاب الوصايا، رقم 2883)، وأحمد (11/307) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وقال الهيثمي في المجمع (4/192) [مكتبة القدسي]: «فيه الحجاج بن أرطاة، وهو مدلس»، وحسنه الألباني في أحكام الجنائز (173) [المكتب الإسلامي، ط4].
[4] الفتاوى الكبرى (3/63) [دار الكتب العلمية، ط1].
[5] الفروع وتصحيح الفروع (2/239) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1424هـ].
[6] المبدع شرح المقنع [دار عالم الكتب، 1423هـ].
[7] فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ (5/178) [مطبعة الحكومة بمكة المكرمة، ط1، 1399هـ].


ذكر ابن القيم رحمه الله مسألة: هل تنتفع أرواح الموتى بشيء من سعي الأحياء، أم لا؟ وبيّن: أنها تنتفع من سعي الأحياء بأمرين مجمع عليهما بين أهل السُّنَّة من الفقهاء وأهل الحديث والتفسير.
أحدهما: ما تسبب إليه الميت في حياته.
والثاني: دعاء المسلمين له، واستغفارهم له، والصدقة، والحج على نزاع؛ ما الذي يصل من ثوابه، هل ثواب الإنفاق؟ أو ثواب العمل؟
فعند الجمهور: يصل ثواب العمل نفسه، وعند بعض الحنفية إنما يصل ثواب الإنفاق.
الثالث: اختلفوا في العبادة البدنية؛ كالصوم، والصلاة، وقراءة القرآن، والذكر.
فمذهب الإمام أحمد وجمهور السلف وصولها، وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة... والمشهور من مذهب الشافعي ومالك: أن ذلك لا يصل[1].


[1] الروح (117) [دار الكتب العلمية، 1395هـ].


المسألة الأولى: ينتفع الميت بالأعمال التي تسبب فيها قبل موته:
لقوله تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12] ، ولقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى *} [النجم] ، ولقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا» [1]، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من سنَّ في الإسلام سُنَّة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سَنَّ في الإسلام سُنَّة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» [2]. وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته، علمًا علمه ونشره، وولدًا صالحًا تركه، ومصحفًا ورثه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه من بعد موته»[3].
المسألة الثانية: ينتفع الميت بدعاء المسلمين له، واستغفارهم له، وثناؤهم عليه:
وهذا له صور:
1 ـ الدعاء العام المطلق، كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ *} [الحشر] ، وكما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل، كلّما دعا لأخيه بخير، قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل» [4]. وهذا الدعاء ينتفع به الحي والميت على حدٍّ سواء.
2 ـ الدعاء له قبل الصلاة عليه وقبل الدفن، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا حضرتم الميت، فقولوا خيرًا، فإن الملائكة تُؤَمِّنُ على ما تقولون» ، قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: يا رسول الله ما أقول؟ قال: «قولي: اللَّهُمَّ اغفر له وأعقِبنا عقبًا صالحًا» ، قالت: فأعقبني الله محمدًا صلّى الله عليه وسلّم[5].
3 ـ الدعاء له عند الصلاة عليه، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من ميت يصلّي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة، كلهم يشفعون له، إلا شفعوا فيه»[6].
وعن خارجة بن زيد، عن عمه يزيد بن ثابت رضي الله عنه، قال: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما وردنا البقيع إذا هو بقبر جديد، فسأل عنه؟ فقيل: فلانة، فعرفها، فقال: «ألا آذنتموني بها؟» قالوا: يا رسول الله، كنت قائلاً صائمًا فكرهنا أن نؤذنك، فقال: «لا تفعلوا، لا يموتن فيكم ميت ما كنت بين أظهركم ألا آذنتموني به، فإن صلاتي عليه له رحمة» قال: ثم أتى القبر، فصفّنا خلفه، وكبَّر عليه أربعًا[7].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء»[8].
4 ـ الدعاء له بالتثبيت عند فتنة القبر، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا فرغ من دفن الميت، وقف عليه، فقال: «استغفروا لأخيكم، وسلوا له بالتثبيت، فإنه الآن يسأل»[9].
5 ـ الدعاء له عند الزيارة والسلام؛ لحديث عائشة رضي الله عنها؛ أنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلما كان ليلتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون، غدًا مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللَّهُمَّ اغفر لأهل بقيع الغرقد»[10].
6 ـ الشهادة له بالخير؛ لحديث عمر رضي الله عنه؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أيما مسلم يشهد له أربعة بخير إلا أدخله الله الجنة» فقلنا: وثلاثة؟ قال: «وثلاثة» ، فقلنا: واثنان؟ قال: «واثنان» ، ثم لم نسأله عن الواحد[11].
7 ـ الدعاء له من الولد الصالح؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله سبحانه وتعالى ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب، أنى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك»[12].
المسألة الثالثة: ينتفع الميت بالصدقة عنه:
لحديث عائشة رضي الله عنها؛ أن رجلاً قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إن أمي افتُلِتت نفسُها، وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: «نعم»[13].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن سعد بن عبادة رضي الله عنه توفيت أمه وهو غائب عنها، فقال: يا رسول الله، إن أمي توفيت وأنا غائب عنها، أينفعها شيء إن تصدقت به عنها؟ قال: «نعم»، قال: فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عليها![14].
المسألة الرابعة: ينتفع الميت بقضاء الدين عنه:
لحديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أتي بجنازة ليصلي عليها، فقال: «هل عليه من دين؟» قالوا: لا، فصلى عليه، ثم أتي بجنازة أخرى، فقال: «هل عليه من دين؟» ، قالوا: نعم، قال: «صلوا على صاحبكم» ، قال: أبو قتادة: عليَّ دينُه يا رسول الله، فصلى عليه[15].
وفي رواية عن جابر رضي الله عنه قال: توفي رجل فغسلناه وحنطناه وكفناه، ثم أتينا به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي عليه، فقلنا: تصلي عليه فخطا خُطىً، ثم قال: «أعليه دَين؟» قلنا: ديناران، فانصرف، فتحملهما أبو قتادة، فأتيناه، فقال أبو قتادة: الديناران علي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قد أوفى الله حق الغريم وبرئ منهما الميت» قال: نعم، فصلى عليه، ثم قال بعد ذلك بيوم: «ما فعل الديناران؟» فقال: إنما مات أمس، قال: فعاد إليه من الغد فقال: لقد قضيتهما، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الآن بردت عليه جلده»[16].
المسألة الخامسة: ينتفع الميت بالصيام عنه:
لحديث عائشة رضي الله عنها؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه»[17].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن امرأة ركبت البحر، فنذرت إن نجاها الله أن تصوم شهرًا، فنجاها الله فلم تصم حتى ماتت، فجاءت ابنتها أو أختها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمرها أن تصوم عنها[18].
المسألة السادسة: ينتفع الميت بالحج عنه:
وورد في ذلك صورتان:
1 ـ الحج الذي نذره الميت على نفسه:
لحديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: «نعم، حُجّي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضية؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء»[19].
2 ـ الحج الفريضة الذي مات ولم يؤده:
لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سمع رجلاً يقول: لبّيك عن شبرمة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من شبرمة؟»، قال: قريب لي، قال: «هل حججت قط؟» قال: لا، قال: «فاجعل هذه عن نفسك، ثم حج عن شبرمة»[20].
المسألة السابعة: ينتفع الميت بعفو المظلوم عنه:
لقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] ، وقوله تعالى: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *} [التغابن] .
المسألة الثامنة: البر بالوالدين بعد وفاتهما:
ففي الحديث الصحيح: «إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولّي»[21].
ففي الحديث فضل صلة لأصدقاء الأب والإحسان إليهم وإكرامهم وهو متضمن لبر الأب وإكرامه لكونه بسببه، وتلتحق به أصدقاء الأم وغيرهم[22].
المسألة التاسعة: هل ينتفع الميت بثواب قراءة القرآن؟
هذه المسألة خلافية بين أهل العلم؛ فمنهم من رأى أن الميت ينتفع بها، ومنهم من لا يرى التوسع في هذا الباب[23].
وقد صدرت فتوى للجنة الدائمة في حكم إهداء ثواب القرب للأموات عمومًا، ونصها: «لم يثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ـ فيما نعلم ـ أنه قرأ القرآن ووهب ثوابه للأموات من أقربائه أو من غيرهم، ولو كان ثوابه يصل إليهم لحرص عليه، وبيَّنه لأمته؛ لينفعوا به موتاهم، فإنه صلّى الله عليه وسلّم بالمؤمنين رؤوف رحيم، وقد سار الخلفاء الراشدون من بعده وسائر أصحابه على هديه في ذلك رضي الله عنهم، ولا نعلم أن أحدًا منهم أهدى ثواب القرآن لغيره، والخير كل الخير في اتباع هديه صلّى الله عليه وسلّم وهدي خلفائه الراشدين وسائر الصحابة رضي الله عنهم، والشر في اتباع البدع ومحدثات الأمور؛ لتحذير النبي صلّى الله عليه وسلّم من ذلك بقوله: «إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» ، وقوله: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، وعلى هذا لا تجوز قراءة القرآن للميت، ولا يصل إليه ثواب هذه القراءة بل ذلك بدعة.
أما أنواع القربات الأخرى فما دلَّ دليل صحيح على وصول ثوابه إلى الميت وجب قبوله؛ كالصدقة عنه، والدعاء له، والحج عنه، وما لم يثبت فيه دليل فهو غير مشروع حتى يقوم عليه الدليل.
وعلى هذا لا تجوز قراءة القرآن للميت، ولا يصل إليه ثواب هذه القراءة في أصح قولي العلماء، بل ذلك بدعة»[24].
وكذلك جاء فيها: «لا تجوز الصلاة عن الوالدين ولا غيرهما، ولا إهداء ثواب الصلاة لهما، وما ورد من الصدقة عنهما يقتصر فيه على موضع النص فقط وهو الصدقة؛ لأن القياس لا يجوز في مثل ذلك، ولم يرد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا عن أصحابه رضوان الله عليهم ما يدل على جواز إهداء الصلاة إلى الميت»[25].


[1] أخرجه مسلم (كتاب العلم، رقم 2674).
[2] أخرجه مسلم (كتاب الزكاة، رقم 1017).
[3] أخرجه ابن ماجه (المقدمة، رقم 242)، وابن خزيمة في صحيحه (كتاب الزكاة، رقم 2490)، وحسنه ابن الملقن في البدر المنير (7/102) [دار الهجرة، ط1]، والألباني في أحكام الجنائز (177) [المكتب الإسلامي، ط4].
[4] أخرجه مسلم (كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، رقم 2733).
[5] أخرجه مسلم (كتاب الجنائز، رقم 919).
[6] أخرجه مسلم (كتاب الجنائز، رقم 947).
[7] أخرجه النسائي (كتاب الجنائز، رقم 2022)، وابن ماجه (كتاب الجنائز، رقم 1528)، وأحمد (7/116) [دار الفكر، ط1]، وابن حبان (كتاب الجنائز، رقم 3087) [مؤسسة الرسالة، ط2]، وصحّحه الألباني في أحكام الجنائز (89) [المكتب الإسلامي، ط4].
[8] أخرجه أبو داود (كتاب الجنائز، رقم 3199)، وابن ماجه (كتاب الجنائز، رقم 1497)، وابن حبان (كتاب الجنائز، رقم 3076)، وقال ابن حجر: «فيه ابن إسحاق، وقد عنعن، لكن أخرجه ابن حبان من طريق أخرى عنه مصرحًا بالسماع». التلخيص الحبير (2/248) [مؤسسة قرطبة، ط1]، وحسّنه الألباني في الإرواء (رقم 732).
[9] أخرجه أبو داود (كتاب الجنائز، رقم 3221)، والحاكم (كتاب الجنائز، رقم 1372) وصححه، وحسنه النووي في الخلاصة (2/1028) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصحّحه الألباني في أحكام الجنائز (156) [المكتب الإسلامي، ط4].
[10] أخرجه مسلم (كتاب الجنائز، رقم 974).
[11] أخرجه البخاري (كتاب الجنائز، رقم 1368).
[12] أخرجه ابن ماجه (كتاب الأدب، رقم 3660)، وأحمد (16/356) [مؤسسة الرسالة، ط1] واللفظ له، وصحح سنده ابن كثير في تفسيره (4/143) [دار طيبة، ط2]، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 1598).
[13] أخرجه البخاري (كتاب الجنائز، رقم 1388)، ومسلم (كتاب الزكاة، رقم 1004).
[14] أخرجه البخاري (كتاب الوصايا، رقم 2756).
[15] أخرجه البخاري (كتاب الحوالات، رقم 2295).
[16] أخرجه أبو داود (كتاب البيوع، رقم 3343)، وأحمد (22/406) [مؤسسة الرسالة، ط1] واللفظ له، والحاكم (كتاب البيوع، رقم 2346)، وحسنه النووي في الخلاصة (رقم 3304) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والألباني في أحكام الجنائز (16) [المكتب الإسلامي، ط4].
[17] تقدم تخريجه قريبًا.
[18] أخرجه أبو داود (كتاب الأيمان والنذور، رقم 3308)، والنسائي (كتاب الأيمان والنذور، رقم 3816)، وأحمد (3/356) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وابن خزيمة (كتاب الصيام، رقم 2054)، وصححه الألباني في أحكام الجنائز (169) [المكتب الإسلامي، ط4].
[19] أخرجه البخاري (كتاب الحج، رقم 1852).
[20] أخرجه أبو داود (كتاب المناسك، رقم 1811)، وابن ماجه (كتاب المناسك، رقم 2903)، والبيهقي في الكبرى (كتاب الحج، رقم 8675) [دار الكتب العلمية، ط3] وقال: هذا إسناد صحيح، وصححه الألباني في إرواء الغليل (رقم 994).
[21] أخرجه مسلم (كتاب البر والصلة والآداب، رقم 2552).
[22] انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (16/109 ـ 110).
[23] انظر: حكم القراءة للأموات؛ هل يصل ثوابها إليهم (9) فما بعد [مكتبة التوعية الإسلامية، ط5، 1406هـ].
[24] فتاوى اللجنة الدائمة (9/43 ـ 44)، وراجع لهذه المسألة: مجموع الفتاوى (24/316، 322، 324)، الروح لابن القيم (345 ـ 346)، مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز (1/374، 379).
[25] فتاوى اللجنة الدائمة (9/63).


ينتفع الميت بسعي الحي، فيزداد أجره وترتفع درجته، أو تحط عنه سيئاته فيرتفع عنه العذاب أو يخفف، وقد يوقى به الشر كما لو استغفر له وسأل له الثبات عند فتنة القبر.



1 ـ تعد هذه الأعمال من صور البر بالميت.
2 ـ كما أنها تزيد في الروابط الأسرية والاجتماعية، فلا تنقطع بالموت، ولها آثارها على الأحياء وعلى الأموات.



لعل من الحكم تحفيز العباد على السعي لأنفسهم حال الحياة بما ينفعهم بعد الممات، وخاصة بما يغلب على الظن استمرار تدفق أجره طويلاً، وهو الثلاثة المذكورة في الحديث: الصدقة الجارية، والعلم الذي ينتفع به، والولد الصالح الذي يدعو لوالديه، وما يتفرع عن هذه الثلاثة من أعمال عظيمة.
ثم إن هذه الثلاثة يترتّب عليها الكثير من الحكم التي فيها صلاح الأفراد والمجتمعات وقيام الدين لمن تأمل.
وأيضًا الأحاديث الواردة في الباب تذكير للعباد بسرعة أداء الواجبات والفروض التي عليهم قبل أن يحال بينهم وبين أدائها، فيلحقهم تبعتها أو يشقوا على غيرهم في القيام بها.



ذهب بعض أهل البدع من أهل الكلام إلى عدم وصول شيء البتة، لا الدعاء ولا غيره، وقولهم مردود بالكتاب والسُّنَّة، لكنهم استدلوا بالمتشابه من قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى *} [النجم] قالوا: «وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به من بعده» ، فأخبر أنه إنما ينتفع بما كان تسبب فيه في الحياة، وما لم يكن تسبب فيه في الحياة فهو منقطع عنه[1].
ولا ممسك لهم فيما استدلوا به، قال شيخ الإسلام رحمه الله في معرض رده على هؤلاء: «وأما احتجاج بعضهم بقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى *} [النجم] ، فيقال له: قد ثبت بالسُّنَّة المتواترة وإجماع الأمة: أنه يصلى عليه، ويدعى له، ويستغفر له وهذا من سعي غيره، وكذلك قد ثبت ما سلف من أنه ينتفع بالصدقة عنه، والعتق، وهو من سعي غيره، وما كان من جوابهم في موارد الإجماع فهو جواب الباقين في مواقع النزاع. وللناس في ذلك أجوبة متعددة. لكن الجواب المحقق في ذلك أن الله تعالى لم يقل: إن الإنسان لا ينتفع إلا بسعي نفسه، وإنما قال: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى *} [النجم] ، فهو لا يملك إلا سعيه، ولا يستحق غير ذلك. وأما سعي غيره فهو له، كما أن الإنسان لا يملك إلا مال نفسه، ونفع نفسه. فمال غيره ونفع غيره هو كذلك للغير؛ لكن إذا تبرع له الغير بذلك جاز. وهكذا هذا إذا تبرع له الغير بسعيه نفعه الله بذلك، كما ينفعه بدعائه له، والصدقة عنه، وهو ينتفع بكل ما يصل إليه من كل مسلم، سواء كان من أقاربه، أو غيرهم، كما ينتفع بصلاة المصلين عليه ودعائهم له عند قبره»[2].
وأما استدلالهم بالحديث، فأجاب عنه ابن أبي العز رحمه الله بقوله: «وأما استدلالهم بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله» فاستدلال ساقط، فإنه لم يقل: انقطاع انتفاعه، وإنما أخبر عن انقطاع عمله، وأما عمل غيره فهو لعامله، فإن وهبه له وصل إليه ثواب عمل العامل لا ثواب عمله هو، وهذا كالدين يوفيه الإنسان عن غيره فتبرأ ذمته، ولكن ليس له ما وفى به الدين»[3].


[1] انظر: شرح العقيدة الطحاوية (452)، وانظر: الروح [دار الكتب العلمية، 1395هـ].
[2] الفتاوى الكبرى (3/63) [دار الكتب العلمية، ط1].
[3] شرح العقيدة الطحاوية (452).


1 ـ «أحكام الجنائز»، للألباني.
2 ـ «حكم القراءة للأموات؛ هل يصل ثوابها إليهم»، لمحمد أحمد.
3 ـ «الروح»، لابن القيم.
4 ـ «شرح العقيدة الطحاوية»، لابن أبي العز.
5 ـ «الفتاوى الكبرى»، لابن تيمية.
6 ـ «فتاوى اللجنة الدائمة».
7 ـ «فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ».
8 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
9 ـ «مجموع فتاوى ومقالات ابن باز».
10 ـ «شرح صحيح مسلم»، للنووي.