قال ابن فارس رحمه الله: «النون والدال أصل صحيح يدل على شرود وفراق، وندَّ البعير ندًّا وندودًا: ذهب على وجهه شاردًا، ومن هذا الباب: النِّد والنديد: الذي ينادُّ في الأمر؛ أي: يأتي برأي غير رأي صاحبه»[1].
والأنداد: جمع نِدّ، وهو مِثل الشيء الذي يُضادُّه في أموره، ويُنادُّه؛ أي: يخالفه، قال تعالى: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا} [فصّلت: 9] ؛ أي: أضدادًا وأشباهًا[2].
[1] مقاييس اللغة (5/355) [دار الجيل].
[2] انظر: لسان العرب (14/89) [دار إحياء التراث العربي، ط3]، والقاموس المحيط (322).
اتخاذ الأنداد أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، كما تضافرت بذلك نصوص الكتاب والسُّنَّة.
واتخاذ الندّ على قسمين:
أولهما: أن يجعل لله شريكًا في نوع العبادة أو بعضها، فهذا شركٌ أكبر موجبٌ للنار محبطٌ للعمل، مبيحٌ للمال والدم، ناقضٌ للتوحيد.
ثانيهما: ما كان من نوع الشرك الأصغر؛ كقول الرجل: ما شاء الله وشئت، ولولا الله وأنت، وكيسير الرِّياء، فهذا منافٍ لكمال التوحيد الواجب.
قال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله: «واعلم أنّ دعاء الندّ على قسمين: أكبر وأصغر، فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو الشرك الأكبر، والأصغر كيسير الرياء، وقول الرجل: ما شاء الله وشئت، ونحو ذلك»[1].
[1] تيسير العزيز الحميد (1/250) [دار الصميعي، ط1].
قال تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ *} [البقرة] ، وقال: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} [إبراهيم: 30] ، وقال: {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [الزمر: 8] ، وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165] .
وأما السُّنَّة ؛ فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيّ الذنب أعظم عند الله؟ قال: «أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك»[1].
وعن ابن مسعود رضي الله عنه؛ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من مات وهو يدعو لله ندًّا دخل النار»[2].
[1] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7520)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 86).
[2] أخرجه البخاري (كتاب التفسير، رقم 4497) واللفظ له، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 92).
قال ابن عباس رضي الله عنهما: « الأنداد: هو الشرك، أخفى من دبيب النمل، على صفاة سوداء، في ظلمة الليل، وهو أن يقول: والله وحياتِك يا فلان، ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان، لا تجعل فيها فلان، هذا كلُّه شرك»[1].
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم رحمه الله: « الأنداد: الآلهة التي جعلوها معه، وجعلوا لها مثل ما جعلوا له»[2].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «وأما المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله فأعظمه الشرك بالله، وهو أن يدعو مع الله إلهًا آخر كالشمس والقمر والكواكب، أو كملك من الملائكة، أو نبي من الأنبياء، أو رجل من الصالحين، أو أحد من الجن، أو تماثيل هؤلاء أو قبورهم، أو غير ذلك مما يدعى من دون الله تعالى، أو يستغاث به، أو يسجد له، فكل هذا وأشباهه من الشرك الذي حرمه الله على لسان جميع رسله»[3].
وقال ابن القيم رحمه الله: «والمقصود: أن الشرك لما كان أظلم الظلم وأقبح القبائح وأنكر المنكرات كان أبغض الأشياء إلى الله تعالى وأكرهها له وأشدها مقتًا لديه، ورتَّب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب سواه، وأخبر أنه لا يغفره، وأن أهله نجس، ومنعهم من قربان حرمه، وحرم ذبائحهم ومناكحتهم، وقطع الموالاة بينهم وبين المؤمنين، وجعلهم أعداء له سبحانه ولملائكته ورسله وللمؤمنين، وأباح لأهل التوحيد أموالهم ونساءهم وأبناءهم، وأن يتخذوهم عبيدًا؛ وهذا لأن الشرك هضم لحق الربوبية وتنقيص لعظمة الإلهية وسوء ظن بربِّ العالمين»[4].
[1] أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (1/62) [مكتبة نزار مصطفى الباز، ط1]، وذكره ابن كثير في تفسيره (1/309) [مؤسسة قرطبة، ط1]، وسنده حسن.
[2] تفسير الطبري (1/392) [دار هجر، ط1].
[3] الاستقامة (2/210) [جامعة الإمام، ط2].
[4] إغاثة اللهفان (1/60) [طبعة دار المعرفة، بيروت].
المشركون وأهل الكتاب وبعض أهل البدع كالرافضة وبعض الصوفية هم أكثر الناس انحرافًا في هذا الباب؛ فقد عمروا المشاهد، وعطلوا المساجد[1]، وجعلوا أهل القبور أندادًا من دون الله، يستغيثون بها، ويسألونها تفريج الكربات، ويسمون ذلك شفاعة وتشفّعًا، قال عزّ وجل: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] . وقال عزّ وجل: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] .
وقد ردَّ الله عليهم زعمهم هذا بأن هذا شيء لا حقيقة له، ولا يعدو أن يكون اسمًا ليس تحته مسمى حقيقي، {أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ} [يونس: 18] ، وقال: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23] ، وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ *} [سبأ: 22] .
فتأمل كيف أخذت هذه الآية على المشركين بمجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك، وسدتها عليهم أحكم سد وأبلغه؛ فإن العابد إنما يتعلق بالمعبود لما يرجو من نفعه، وإلا فلو لم يرج منه منفعة لم يتعلق قلبه به[2].
فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يعتقد أنه يحصل له به من النفع، والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع[3].
«فبيَّن أنهم لا يملكون مثقال ذرة استقلالاً ولا يشركونه في شيء من ذلك، ولا يعينونه على ملكه، ومن لم يكن مالكًا ولا شريكًا ولا عونًا فقد انقطعت علاقته»[4]، «فلم يبق إلا الشفاعة فنفاها عن آلهتهم، وأخبر أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فهو الذي يأذن للشافع، فإن لم يأذن له لم يتقدم بالشفاعة بين يديه»[5].
[1] انظر: منهاج السُّنَّة (1/342) [جامعة الإمام، ط1].
[2] الصواعق المرسلة (2/461) [دار العاصمة].
[3] مدارج السالكين (1/343) [دار الكتاب العربي].
[4] اقتضاء الصراط (1/357) [مطبعة السُّنَّة المحمدية].
[5] الصواعق المرسلة (2/462).
1 ـ «إغاثة اللهفان» (ج2)، لابن القيم.
2 ـ «تفسير القرآن العظيم»، لابن كثير.
3 ـ «القول السديد في مقاصد التوحيد»، لابن سعدي.
4 ـ «التمهيد لشرح كتاب التوحيد»، لصالح آل الشيخ.
5 ـ «تيسير العزيز الحميد»، لسليمان بن عبد الله.
6 ـ «شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري» (ج2)، لعبد الله الغنيمان .
7 ـ «فتح المجيد»، لعبد الرحمن بن حسن.
8 ـ «القول المفيد على كتاب التوحيد»، لابن عثيمين.
9 ـ «القول المفيد في مهمات التوحيد»، لعبد القادر عطا صوفي.