قال ابن فارس رحمه الله: «النون والصاد والباء أصل صحيح يدل على إقامة شيء وإهدافٍ في استواء، يقال: نصبت الرُّمح وغيره أنصبه نصبًا»[1].
الأنصاب: جمع نُصب، والنَّصب: وضع الشي وضعًا ناتئًا وبارزًا، والنصْب والنُّصُب: العلم المنصوب، والنَّصيبة والنُّصُب: كل ما نُصب فجُعل علمًا، والنَّصائب حجارة تنصب حوالي شفير البئر، فتجعل عضائد[2].
[1] مقاييس اللغة (5/434) [دار الجيل، ط1420هـ].
[2] انظر: لسان العرب (14/155) [دار إحياء التراث العربي، ط3]، ومقاييس اللغة (5/434)، والصحاح (1/224 ـ 225) [دار العلم للملايين، ط3].
الأنصاب في كتاب الله وسُنَّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يراد بها أمران[1]:
أحدهما: الأحجار التي تنصب عند الأصنام، فيُذبح عندها للآلهة، ويُتقرب لها عندها.
الثاني: هي الأصنام، والأوثان، والأحجار، ونحوها مما ينصب ويعبد من دون الله تعالى.
[1] انظر: إغاثة اللهفان (1/383) [دار ابن الجوزي]، وتفسير السعدي (268) [دار السلام بالرياض، ط2].
اتِّخاذ الأنصاب ـ سواء كانت أحجارًا يُذبح لها أو أوثانًا يُتقرَّب إليها، أو قبورًا تشيَّد ويُعكف عندها ـ كلّ ذلك من الشرك الأكبر المخرج من الإسلام، والموجب للخلود في النار[1].
قال ابن القيم رحمه الله: «فالأنصاب للشرك والعبادة، والأزلام للتكهن، وطلب علم ما استأثر الله به، هذه للعلم، وتلك للعمل، ودين الله سبحانه وتعالى مضاد لهذا، وهذا، والذي جاء به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إبطالهما، وكسر الأنصاب والأزلام»[2].
[1] انظر: الرد على شبهات المستعينين بغير الله (ص76) أحمد بن عيسى [مطبعة دار طيبة]، وإغاثة اللهفان (1/209).
[2] إغاثة اللهفان (1/385).
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] .
وقال تعالى في ذكر جملة مما حرَّمه على عباده: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] . وللعلماء قولان في المراد بالنصب[1]:
أحدهما: أنها أصنام تنصب فتُعبد من دون الله؛ أي: وما ذبح على اسم النصب، أو لأجلها.
الثاني: أنها حجارة كانوا يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها ويعظمونها.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كان يوم القيامة أذَّن مؤذن: تتبع كل أمة ما كانت تعبد، فلا يبقى من كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار»[2].
[1] انظر: زاد المسير لابن الجوزي (2/283 ـ 284).
[2] أخرجه البخاري (كتاب التفسير، رقم 4581)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 183).
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «الأنصاب حجارة كانوا يذبحون لها»[1].
وقال مجاهد رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}: «حجارة حول الكعبة، يذبح عليها أهل الجاهلية، ويبدِّلونها إذا شاءوا بحجارة أعجب إليهم منها»[2]. وقال مثل ذلك قتادة بن دعامة السدوسي، والضحاك بن مزاحم[3].
وقال ابن جرير رحمه الله: «والنُّصب: الأوثان من الحجارة، جماعة أنصاب، كانت تجمع في الموضع من الأرض، فكان المشركون يقربون لها، وليست بأصنام»[4].
وقال ابن القيم رحمه الله: «والمقصود: أن الناس قد ابتُلوا بالأنصاب والأزلام، فالأنصاب للشرك والعبادة، والأزلام للتكهن وطلب علم ما استأثر الله به، هذه للعلم، وتلك للعمل، ودين الله سبحانه وتعالى مضاد لهذا وهذا، والذي جاء به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إبطالهما، وكسر الأنصاب والأزلام، فمن الأنصاب ما قد نصبه الشيطان للمشركين من شجرة أو عمود أو وثن أو قبر أو خشبة أو عين ونحو ذلك، والواجب هدم ذلك كله ومحو أثره»[5].
[1] تفسير ابن أبي حاتم (4/1198) [مكتبة نزار مصطفى الباز، ط1، 1417هـ].
[2] تفسير الطبري (8/70) [دار هجر، ط1، 1422هـ].
[3] تفسير الطبري (8/70)، وانظر: الأصنام لأبي المنذر الكلبي (42) [دار الكتب المصرية، ط3]، وأخبار مكة لأبي الوليد الأزرقي (1/185) [مكتبة الأسدي، ط1].
[4] تفسير الطبري (8/70).
[5] إغاثة اللهفان (1/385).
المسألة الأولى: تحريم الذهاب إلى أماكن الأنصاب:
يحرم زيارتها إلا لهدمها، أو الإنكار على عابديها ونحو ذلك، فعن أبي الهياج الأسدي، قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سوّيته»[1].
المسألة الثانية: لا يجوز عبادة الله عندها:
حتى لا يكون ذلك ذريعة إلى عبادتها، وحتى لا يتشبه المسلم بعابديها، فعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: نذر رجل على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ينحر إبلاً ببُوانة، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يُعبد؟». قالوا: لا. قال: «هل كان فيها عيد من أعيادهم؟» . قالوا: لا. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أوف بنذرك؛ فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم»[2].
المسألة الثالثة: وجوب هدمها:
الأنصاب التي تعبد من دون الله يجب هدمها محافظة على توحيد الله سبحانه وتعالى، فعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمَّا خرج إلى حنين مرَّ بشجرة للمشركين، يقال لها: ذات أنواط، يعلِّقون عليها أسلحتهم، فقالوا: يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «سبحان الله: هذا كما قال قوم موسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] ، والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم»[3].
قال أبو بكر الطرطوشي رحمه الله: «فانظروا ـ رحمكم الله ـ أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس، ويعظمون من شأنها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها، وينوطون بها المسامير والخرق؛ فهي ذات أنواط؛ فاقطعوها»[4].
المسألة الرابعة: اتخاذ نصب الجندي المجهول، أو أنصاب وجهاء الناس، ومن لهم منزلة وشأن في بناء الدولة علميًّا، أو اقتصاديًّا، أو سياسيًّا:
هذا الفعل من أعمال الجاهلية، وضرب من الغلو فيه، وإقامة الحفلات عندهم، ووضع الزهور تكريمًا لها، هو شبيه بالوثنية الأولى، وذريعة إلى الشرك الأكبر، والعياذ بالله، فيجب القضاء على هذه التقاليد، محافظة على عقيدة التوحيد، ومنعًا للإسراف دون جدوى، وبعدًا عن مجاراة الكفار ومشابهتهم في عاداتهم وتقاليدهم، التي لا خير فيها، بل تفضي إلى شر مستطير[5].
[1] أخرجه مسلم (كتاب الجنائز، رقم 969).
[2] أخرجه أبو داود (كتاب الأيمان والنذور، رقم 3313)، والطبراني في الكبير (2/75) [مكتبة ابن تيمية، ط2]، وصححه ابن الملقن في البدر المنير (9/518) [دار الهجرة، ط1]، وابن حجر في البلوغ (2/185) [دار أطلس، ط3]، والألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 2872). وجملة: «وليس على ابن آدم نذر فيما لا يملك»: رواها البخاري (كتاب الأدب، رقم 6047)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 110).
[3] أخرجه الترمذي (أبواب الفتن، رقم 2180) وصححه، وأحمد (36/225) [مؤسسة الرسالة، ط1].
[4] الحوادث والبدع (38 ـ 39) [دار ابن الجوزي].
[5] فتاوى اللجنة الدائمة (1/478 ـ 479) [دار المؤيد]، وانظر: فتاوى إسلامية (1/20) جمع وترتيب: محمد بن عبد العزيز المسند [دار الوطن للنشر والتوزيع، ط2].
أخبر الله تعالى أن في اتخاذ الأنصاب وغيرها من المنكرات مفاسد عظيمة في الدين والدنيا؛ منها[1]:
أنها رجس؛ أي: خبث ونجس، وإن لم تكن نجسة نجاسة حسية، والأمور الخبيثة مما يجب اجتنابها.
وأنها من عمل الشيطان، الذي هو أعدى الأعداء للإنسان، وأعماله مما توقع المرء في المهلكة، فوجب الحذر منها.
وأنه لا يمكن الفلاح للعبد إلا باجتنابها؛ فإن الفلاح هو الفوز بالمحبوب، والنجاة من المرهوب، واتخاذ الأنصاب، ونحوها مما يمنع من الفلاح.
وأنها تصد القلب عن ذكر الله وعن الصلاة، ويتبعه البدن في ذلك، وغيرها من الآثار السيئة.
[1] انظر: تفسير السعدي (268).
1 ـ «أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار»، للأزرقي.
2 ـ «الأصنام»، للكلبي.
3 ـ «إكمال المعلم» (ج7)، للقاضي عياض.
4 ـ «البدع والحوادث»، لأبي بكر الطرطوشي.
5 ـ «الباعث على إنكار البدع والحوادث»، لأبي شامة.
6 ـ «اقتضاء الصراط المستقيم» (ج2)، لابن تيمية.
7 ـ «إغاثة اللهفان» (ج1)، لابن القيم.
8 ـ «فتح الباري بشرح صحيح البخاري»، لابن حجر العسقلاني.
9 ـ «التعريفات الاعتقادية»، سعد آل عبد اللطيف.
10 ـ «الشرك ومظاهره»، لمبارك بن محمد الميلي.