حرف الألف / الانقياد

           

قال ابن فارس رحمه الله: «القاف والواو والدال أصل صحيح يدل على امتداد في الشيء، ويكون ذلك امتدادًا على وجه الأرض وفي الهواء، من ذلك القود: جمع قوداء، وهي الناقة الطويلة العنق»[1]
والانقياد: الخضوع، تقول: قدته فانقاد لي: إذا أعطاك مقادته، ويقال: أعطيت فلانًا مقادتي؛ أي: انقدت له[2].


[1] مقاييس اللغة (838) [دار إحياء التراث العربي، ط1].
[2] انظر: الصحاح (3/90) [دار العلم للملايين، ط4]، وتهذيب اللغة (9/193) [دار إحياء التراث العربي، ط1].


هو «الاستسلام والإذعان، وعدم التعقب لشيء من أحكام الله تعالى»[1].


[1] الشهادتان معناهما وما تستلزمه كل منهما (109) [دار طيبة]، وانظر: الصارم المسلول (519) [عالم الكتب]، ومعارج القبول (2/421) [دار ابن القيم، ط1].


لا يختلف المعنى الشرعي عن اللغوي إلا أن الشرعي خضوع خاص مقيد بأحكام الله تعالى.



الطاعة[1].


[1] انظر: الصلاة وحكم تاركها (47) [دار الإيمان].


يجب على المسلم الانقياد لأحكام الله تعالى، والاستسلام له وحده، ولا يصير الرجل مسلمًا إلا إذا انقاد لأحكام الله سبحانه وتعالى، ولم يتكبر ويعرض عنها، فإن هذا داخل في معنى الإسلام. ومن مقتضياته أن تتلقى أحكام الله تعالى بالتسليم المحض، ولا يعارض ذلك بشيء آخر من ذوق، أو وجد، أو قياس، أو سياسة، أو تقليد، وأن لا يكون في قلبه شبهة تنازع إيمانه، ولا تكون له شهوة تمنعه من تنفيذها[1].


[1] انظر: طريق الهجرتين (36 ـ 37) [دار الحديث، ط4].


حقيقة الانقياد إنما تظهر بالتسليم لأمر الله تعالى ومتابعته ظاهرًا وباطنًا، ومخالفة الهوى، وعدم توقف امتثال الأمر على معرفة حكمته، فإنه مناف للانقياد، قادح في الامتثال[1]


[1] انظر: الوابل الصيب (24) [دار الكتاب العربي، ط1]، وشرح العقيدة الطحاوية (1/239) [وزارة الشؤون الإسلامية، ط1]، ومعارج القبول (2/591).


أهميته عظيمة تتجلى فيما يلي:
1 ـ لأنه داخل في معنى الإسلام، فإن الإسلام يجمع معنيين:
الأول: الانقياد والاستسلام، فلا يكون المسلم متكبرًا.
والثاني: الإخلاص.
2 ـ لأنه داخل في معنى العبادة، فإن أصل العبادة التذلل والخضوع، وسميت وظائف الشرع على المكلفين عبادات؛ لأنهم يلتزمونها ويفعلونها خاضعين لله تعالى، والعبادة في الشرع عبارة عما يجمع كمال المحبة، والخضوع، والخوف.
3 ـ لأن أحد شروط كلمة التوحيد الانقياد المنافي للترك[1].


[1] انظر: مجموع الفتاوى (7/635) [مجمع الملك فهد]، وتفسير ابن كثير (1/214) [دار عالم الكتب، ط1]، وتيسير العزيز الحميد (54) [دار إحياء التراث العربي، ط1]، والدرر السنية (2/244) و(2/254، 256، 359)، ومعارج القبول (1/329 ـ 330).


قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً *} [النساء] .
وقال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ *} [لقمان] .
وقال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ *} [الزمر] .
وقال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *} [النساء] .



قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *} [النساء] : «يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة: أنه لا يؤمن أحد حتى يُحَكِّم الرسول صلّى الله عليه وسلّم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنًا وظاهرًا؛ ولهذا قال: {ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *}؛ أي: إذا حكّموك يطيعونك في بواطنهم، فلا يجدون في أنفسهم حرجًا مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن، فيسلمون لذلك تسليمًا كليًّا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة»[1].
وقال ابن القيم رحمه الله في تفسير الآية المذكورة: «أقسم سبحانه بأجل مقسم به ـ وهو نفسه سبحانه وتعالى ـ على أنه لا يثبت لهم الإيمان، ولا يكونون من أهله، حتى يحكموا رسوله في جميع موارد النزاع في جميع أبواب الدين، فإن لفظة (ما) من صيغ العموم، فإنها موصولة تقتضي نفي الإيمان إذا لم يوجد تحكيمه في جميع ما شجر بينهم. ولم يقتصر على هذا حتى ضم إليه انشراح صدورهم بحكمه حيث لا يجدون في أنفسهم حرجًا ـ وهو الضيق والحصر ـ من حكمه، بل يقبلوا حكمه بالانشراح، ويقابلوه بالتسليم لا أنهم يأخذونه على إغماض، ويشربونه على قذى، فإن هذا مناف للإيمان، بل لا بد أن يكون أخذه بقبول، ورضا، وانشراح صدر.
ومتى أراد العبد أن يعلم هذا فلينظر في حاله، ويطالع قلبه عند ورود حكمه على خلاف هواه وغرضه، أو على خلاف ما قلد فيه أسلافه من المسائل الكبار وما دونها {بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ *وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ *} [القيامة]
فسبحان الله! كم من حزازة في نفوس كثير من الناس من كثير من النصوص وبودهم أن لو لم ترد؟ وكم من حرارة في أكبادهم... ثم لم يقتصر سبحانه على ذلك حتى ضم إليه قوله تعالى: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *}، فذكر الفعل مؤكدًا بمصدره القائم مقام ذكره مرتين. وهو التسليم والخضوع له، والانقياد لما حكم به طوعًا ورضًا، وتسليمًا لا قهرًا ومصابرة، كما يسلم المقهور لمن قهره كرهًا، بل تسليم عبد مطيع لمولاه وسيده الذي هو أحب شيء إليه، يعلم أن سعادته وفلاحه في تسليمه إليه، ويعلم بأنه أولى به من نفسه وأبر به منها، وأرحم به منها، وأقدر على تخليصها. فمتى علم العبد هذا من الرسول صلّى الله عليه وسلّم استسلم له، وسلم إليه، وانقادت كل ذرة من قلبه إليه، ورأى أن لا سعادة له إلا بهذا التسليم والانقياد، وليس هذا مما يحصل معناه بالعبارة، بل هو أمر قد انشق له القلب، واستقر في سويدائه لا تفي العبارة بمعناه، ولا مطمع في حصوله بالدعوى والأماني»[2].
وقال أيضًا: «كما أن من تواضع لله رفعه، فكذلك من تكبر عن الانقياد للحق أذله الله ووضعه وصغَّره وحقَّره. ومن تكبر عن الانقياد للحق ولو جاءه على يد صغير أو من يبغضه أو يعاديه، فإنما تكبره على الله؛ فإن الله هو الحق وكلامه حق، ودينه حق، والحق صفته، ومنه وله فإذا رده العبد وتكبر عن قبوله، فإنما رد على الله وتكبر عليه»[3].


[1] تفسير ابن كثير (4/140).
[2] الرسالة التبوكية (25 ـ 27) [دار عالم الفوائد، ط1].
[3] مدارج السالكين (2/333) [دارالكتاب العربي].


ـ الانقياد يكون بعمل القلب والجوارح:
الانقياد لا بد فيه من أمرين:
الأول: انقياد القلب، وهو الخضوع التام بالقلب لأحكام الله تعالى، فيرضى بها، ويستسلم لها بانشراح صدر.
والثاني: الانقياد بالجوارح، فيمتثل أحكام الله تعالى. والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ *} [لقمان] .
قال ابن كثير رحمه الله: «يقول تعالى مخبرًا عمن أسلم وجهه لله؛ أي: أخلص له العمل، وانقاد لأوامره واتبع شرعه {وَهُوَ مُحْسِنٌ}؛ أي: في عمله باتباع ما به أُمر وترك ما عنه زُجر {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}؛ أي: فقد أخذ موثقًا من الله متينًا أنه ألا يعذبه»[1]. وقال حافظ الحكمي رحمه الله: «ومعنى: يسلم وجهه؛ أي: ينقاد، وهو محسن موحد»[2].


[1] تفسير ابن كثير (11/76).
[2] معارج القبول (1/229 ـ 230) [دار الحديث].


1 ـ «الدرر السنية في الأجوبة النجدية» (ج1، 2)، جمع: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم.
2 ـ «الرسالة التبوكية»، لابن القيم.
3 ـ «الوابل الصيب من الكلم الطيب»، لابن القيم
4 ـ «مدارج السالكين» (ج2)، لابن القيم.
5 ـ «مجموع الفتاوى» (ج7)، لابن تيمية.
6 ـ «شرح العقيدة الطحاوية»، ابن أبي العز الحنفي.
7 ـ «فتح المجيد»، لعبد الرحمن بن حسن.
8 ـ «تيسير العزيز الحميد»، لسليمان بن عبد الله.
9 ـ «معارج القبول» (ج1)، لحافظ الحكمي.
10 ـ «القول المفيد»، لابن العثيمين.