قال ابن فارس: «الهمزة والجيم واللام يدل على خمس كلمات متباينة...، فالأجل: غاية الوقت في محلِّ الدَّين وغيره، وقد صرَّفه الخليل فقال: أجِل هذا الشيء، وهو يأجَل، والاسم: الآجِل نقيض العاجل»[1].
الأَجَل: الوقت المضروب المحدود في المستقبل، ومُدَّةُ الشيءِ، والأجَلُ: غايةُ الوقْت فِي المَوت وحُلولُ الدَّيْنِ، والجمع: آجالٌ، والاسم: الآجِل نقيض العاجل، والأجيل: المُرْجأ؛ أي: المؤخر إلى وقت، والتأجيلُ: تَحْديدُ الأَجَلِ، والآجِلَةُ: الآخِرَةُ[2].
[1] مقاييس اللغة (1/64) [دار الجيل ـ بيروت، ط، 1420هـ].
[2] ينظر: تهذيب اللغة (11/132) [دار إحياء التراث، بيروت، ط1، 2001م]، والنهاية في غريب الحديث والأثر (1/62) [المكتبة العلمية، 1399هـ]، والقاموس المحيط (960) [مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1426هـ].
الأجل: نهاية العمر بالانقضاء، وأجل الشيء: هو نهاية عمره، وعمره مدة بقائه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : «سائر الحيوان والأشجار لها آجال، لا تتقدم ولا تتأخر؛ فإن أجل الشي: هو نهاية عمره، وعمره مدة بقائه، فالعمر مدة البقاء، والأجل نهاية العمر بالانقضاء»[1].
[1] مجموع الفتاوى (8/516) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط2، 1425هـ].
يجب على كل مؤمن أن يؤمن بأن الله كتب الآجال لمّا كتب أقدار بني آدم، وأن الآجال لا تتقدم ولا تتأخر فكل فرد من بني آدم له ساعة إذا جاءت جاءه الموت وفق قدر الله عليه، وكتابة الآجال جزء من كتابة القدر العام الذي كتبه الله عزّ وجل وفق علمه وتقديره جلّ جلاله ، فالإيمان بكل ذلك جزء من الإيمان بالقدر الذي هو أحد أركان الإيمان.
وقد نصَّ كثير من أهل العلم في عقائدهم: «أن من مات مات بأجله، وكذلك من قُتل قُتل بأجله»[1].
[1] مقالات الإسلاميين لابي الحسن الأشعري (1/229) [المكتبة العصرية ط1، 1426هـ]، وحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن قيم الجوزية (15) [مطبعة المدني، القاهرة]، ومنهاج التأسيس في كشف شبهات داود بن جرجيس لعبد اللطيف آل الشيخ (67) [دار الهداية للنشر]، وغاية الأماني في الرد على النبهاني لمحمود الألوسي (1/141) [مكتبة الرشد، الرياض، ط1، 1422هـ].
الأجل ثابت بالكتاب والسُّنَّة:
فمن الكتاب: قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ *} [الأعراف] .
وقوله تعالى: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ *} [المنافقون] .
ومن السُّنَّة: حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء»[1].
وعن عمران بن الحصين رضي الله عنه؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذِّكر كلَّ شيء، وخلق السماوات والأرض»[2].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدَّثَنا رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ: «إنّ أحدكم يُجمَع في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكًا بأربع كلمات، فيكتب عمله، وأجله، ورزقه، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخل النار»[3].
[1] أخرجه مسلم (كتاب القدر، رقم 2653).
[2] أخرجه البخاري (كتاب بدء الخلق، رقم 3191).
[3] أخرجه البخاري (كتاب بدء الخلق، رقم 3208)، ومسلم (كتاب القدر، رقم 2643).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : «لا يموت أحد قبل أجله، ولا يتأخر أحد عن أجله، بل سائر الحيوان والأشجار لها آجال، لا تتقدم ولا تتأخر؛ فإن أجل الشي: هو نهاية عمره، وعمره مدة بقائه، فالعمر مدة البقاء، والأجل نهاية العمر بالانقضاء...، والأجل أجلان: أجل مطلق: يعلمه الله، وأجل مقيد»[1].
وقال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله عند شرحه لقول أبي جعفر الطحاوي رحمه الله : «وضرب لهم آجالاً»: «إن الله سبحانه وتعالى قدَّر آجال الخلائق، بحيث إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون»[2].
وقال حافظ الحكمي رحمه الله عند بيانه لمعنى الإيمان بالموت: « ومنها: أن كلًّا له أجل محدود وأمد ممدود ينتهي إليه لا يتجاوزه ولا يقصر عنه، وقد علم الله تعالى جميع ذلك بعلمه الذي هو صفته، وجرى به القلم بأمره يوم خلقه، ثم كتبه الملك على كل أحد في بطن أمه بأمر ربه عزّ وجل عند تخليق النطفة في عينه، في أي مكان يكون وفي أي زمان، فلا يزاد فيه ولا ينقص منه ولا يغير ولا يبدل عما سبق به علم الله تعالى وجرى به قضاؤه وقدره، وأن كل إنسان مات أو قتل أو حرق أو غرق أو بأي حتف هلك بأجله لم يستأخر عنه ولم يستقدم طرفة عين، وأن ذلك السبب الذي كان فيه حتفه هو الذي قدره الله تعالى عليه وقضاه عليه وأمضاه فيه، ولم يكن له بد منه ولا محيص عنه ولا مفر له ولا مهرب ولا فكاك ولا خلاص، وأنى وكيف وإلى أين ولات حين مناص»[3].
[1] مجموع الفتاوى (8/516) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط 2، 1425هـ].
[2] شرح العقيدة الطحاوية (1/127) [مؤسسة الرسالة، ط13، 1419هـ].
[3] معارج القبول بشرح سلم الوصول (2/704) [دار ابن القيم، الدمام، ط1، 1410هـ].
الأجل قسمان؛ أحدهما: الأجل الذي ينقضي به عمر كل أحد، وهو الأجل الخاص، وهذا مما تعرفه الملائكة، الذين يكتبون رزق العبد وأجله وعمله. والثاني: الأجل المسمى عند الله تعالى؛ وهو أجل القيامة العامة، وهذا لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : «أما قوله تعالى: {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ} [سورة الأنعام: 2] فالأجل الأول: هو أجل كل عبد؛ الذي ينقضي به عمره، والأجل المسمى عنده: هو أجل القيامة العامة، ولهذا قال: {مُسَمّىً عِنْدَهُ}؛ فإن وقت الساعة لا يعلمه ملك مقرب، ولا نبي مرسل؛ كما قال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ} [الأعراف: 187] ، بخلاف ما إذا قال: مسمى؛ كقوله: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [البقرة: 282] ، إذ لم يقيد بأنه مسمى عنده، فقد يعرفه العباد. وأما أجل الموت: فهذا تعرفه الملائكة الذين يكتبون رزق العبد، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد... وأما أجل القيامة المسمى عنده فلا يعلمه إلا هو»[1].
[1] مجموع الفتاوى (14/489).
المسألة الأولى: معنى قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «مَن أحبَّ أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثره، فليصل رحمه»[1]:
اختلف أهل العلم في الجمع بين ما دلَّت عليه بعض النصوص من أن الأجل لا يتغير؛ فلا يزيد ولا ينقص، ومنها قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ *} [الأعراف] ، وقوله تعالى: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ *} [المنافقون] وما دلَّت عليه نصوص أخرى من زيادة العمر ونقصه، ومنها قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلاَ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ *} [فاطر] ، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ *} [الأنعام] .
ومن السُّنَّة: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «مَن أحبَّ أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثره، فليصِل رحمه»[2].
وقبل ذكر أقوال أهل العلم نبيِّن أن المسلمين متفقون على أن الله عزّ وجل عالم بكل شيء، وأن علمه لا يتغير ولا يتبدل، وأنه سبحانه عَلِم الأشياء كما هي عليه في حقيقتها وواقعها ومن ذلك آجال الناس وأعمارهم وأعمالهم.
واختلفوا في معنى حديث أنس رضي الله عنه السابق على أقوال:
الأول: أن هذه الزيادة ليست على حقيقتها في السنين والأيام والساعات وإنما في شيء آخر؛ فمنهم من قال: إن هذه الزيادة بالبركة في عمره والتوفيق للطاعات وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة، وصيانتها عن الضياع في غير ذلك، فيُوفَّق بأن يعمل في الزمن القصير ما لا يعمله غيره إلا في الزمن الكثير. ومنهم من قال: إن الزيادة تكون في العلم الذي ينتفع به من بعده والصدقة الجارية عليه والذرية الصالحه التي تدعو له، فيبقى له عمل صالح ممتد. ومنهم من قال: يبقى بعده الذكر الجميل فكأنه لم يمت. ومنهم من قال: الزيادة بنفي الآفات عن الواصل لرحمه في فهمه وعقله.
الثاني: أن الزيادة والنقص حقيقية في العمر[3]، ولهم في تفسير ذلك وجهان:
1 ـ أن صلة الرحم سبب في زيادة العمر، وقطعها سبب في نقص العمر وكل ذلك معلوم مقدر بسببه. وبه قال ابن حزم رحمه الله ، حيث قال: «وإنما معناه: أن الله عزّ وجل لم يزل يعلم أن زيدًا سيصل رحمه، وأن ذلك سبب إلى أن يبلغ من العمر كذا وكذا، وكذا كل حي في الدنيا؛ لأن من علم الله تعالى أن سيعمره كذا وكذا من الدهر، فإنه تعالى قد علم وقدر أنه سيتغذى بالطعام والشراب ويتنفس بالهواء ويسلم من الآفات القاتلة تلك المدة التي لا بُدَّ من استيفائها، والمسبب والسبب كل ذلك قد سبق في علم الله عزّ وجل كما هو لا يبدل»[4].
وهو ما رجحه ابن عثيمين رحمه الله ، حيث قال: «قول النبي صلّى الله عليه وسلّم حق، وصلة الرحم من أسباب طول العمر، ومن أسباب سعة الرزق، وإذا قدر أن الإنسان وصل رحمه علمنا أنه فعل السبب الذي يكون به طول العمر وسعة الرزق، ولا يختلف هذا عن قوله تعالى فيمن عمل صالحًا بأنه يدخل الجنة؛ لأننا نعلم أنه متى فعل السبب وجد المسبب، وإذا لم يفعله لم يوجد المسبب، فهذا الرجل إذا لم يصل رحمه لم يطل عمره ولم يبسط له في رزقه؛ لأنه لم يفعل السبب، لكن إذا وصل رحِمه طال عُمره واتسع رزقه، ونعلم أن هذا الرجل قد كُتب أصلاً عند الله بأنه وَصول لرحمه، وعمره ينتهي في الوقت المحدد، ورزقه يكون إلى الساعة المحددة، ونعلم أن الرجل الآخر لم يكتب أن يصل رحمه، فكتب رزقه مضيقًا، وكتب عمره قاصرًا من الأصل، فليس هناك شيء يزيد وينقص عن الذي كتب في الأزل. إذًا ما الفائدة من قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم هذا الكلام؟
نقول: الفائدة من ذلك الحث على صلة الرحم، وإذا كان الله قد كتب هذا الرجل وَصولاً لرحمه سيصل رحمه، لكن كتابة الله سبحانه وتعالى لهذا الرجل أن يكون وَصولاً للرحم أمر مجهول لنا ولا نعلمه، لكن الأمر الذي بأيدينا هو أن نعمل، وما وراء ذلك فهو عند الله عزّ وجل»[5].
2 ـ أن الزيادة والنقص بالنسبة إلى ما يظهر للملائكة وفي اللوح المحفوظ ونحو ذلك، فيظهر لهم في اللوح أن عمره ستون سنة إلا أن يصل رحمه، فإن وصلها زيد له أربعون، وقد علم الله سبحانه وتعالى ما سيقع له من ذلك، وهو من معنى قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ *} [الرعد] ، فلا زيادة بالنسبة إلى علم الله تعالى وما سبق به قدره، أما بالنسبة إلى ما يكون في أيدي الملائكة وعلمهم فهو وارد وعليه يحمل الحديث.
وهذا ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية، وبيّن أن التغيير يكون في علم الملائكة وكتبهم التي في أيديهم، فقال: «والجواب المحقق: أن الله يكتب للعبد أجلاً في صحف الملائكة، فإذا وصل رحمه زاد في ذلك المكتوب. وإن عمل ما يوجب النقص نقص من ذلك المكتوب»، واستدل شيخ الإسلام لذلك بحديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لما خلق اللهُ آدمَ مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصًا من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: أي رب، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلاً منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: أي رب من هذا؟ فقال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له: داود فقال: رب كم جعلت عمره؟ قال: ستين سنة، قال: أي رب، زده من عمري أربعين سنة، فلما قضي عمر آدم جاءه ملك الموت، فقال: أولم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أولم تعطها ابنك داود قال: فجحد آدم فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته»[6].
ثم قال شيخ الإسلام: «فهذا داود كان عمره المكتوب أربعين سنة ثم جعله ستين، وهذا معنى ما روي عن عمر أنه قال: «اللَّهُمَّ إن كنت كتبتني شقيًّا فامحني واكتبني سعيدًا فإنك تمحو ما تشاء وتثبت»[7]، والله سبحانه عالم بما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون؛ فهو يعلم ما كتبه له وما يزيده إياه بعد ذلك، والملائكة لا علم لهم إلا ما علَّمهم الله، والله يعلم الأشياء قبل كونها وبعد كونها. فلهذا قال العلماء: إن المحو والإثبات في صحف الملائكة وأما علم الله سبحانه فلا يختلف ولا يبدو له ما لم يكن عالمًا به، فلا محو فيه ولا إثبات»[8].
كما ردَّ شيخ الإسلام على القائلين بالبركة وزيادة النفع في العمل بقوله: «وقد قال بعض الناس: إن المراد به البركة في العمر بأن يعمل في الزمن القصير ما لا يعمله غيره إلا في الكثير، قالوا: لأن الرزق والأجل مقدران مكتوبان. فيقال لهؤلاء: تلك البركة، وهي الزيادة في العمل والنفع، هي أيضًا مقدرة مكتوبة وتتناول لجميع الأشياء»[9].
وقال السفاريني: «وأما الأحاديث التي فيها أن بعض الطاعات تزيد في العمر، مثل صلة الرحم، ونحو ذلك مما جاء أنه يقصر العمر، فهذا في الصحف التي يقع فيها المحو، والإثبات، وعلم الله تعالى لا يقع فيه تغيير ولا زيادة ولا نقصان»[10].
المسألة الثانية: معنى الزيادة في العمر والنقص منه الوارد في قوله عزّ وجل: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلاَ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ *} [فاطر] :
لأهل العلم في المراد بزيادة العمر ونقصه في هذه الآية عدة أقوال؛ منها:
الأول: أن المقصود أن عمر من يطول عمره ومن ينقص عمره بأن يكون أقل من هذا الذي طال عمره كل ذلك معلوم لله عزّ وجل، وقد كتبه عزّ وجل في كتاب فسيبلغ من كتب له طول العمر ما كتب له، وكذلك من كان عمره أنقص من المعمر فإنه سيبلغ ما كتب له. وهو الذي رجحه ابن جرير الطبري وابن حزم وابن كثير والسعدي رحمهم الله .
الثاني: ما يطول عمر أحد، ولا يذهب من عمره شيء فيُنقَص إلا وهو في كتاب عند الله مكتوب، قد أحصاه وعلمه، فيكون الضمير يعود على المعمَّر الأول، فنقص عمره بأن يقال: ذهب من عمره يوم، ذهب من عمره شهر، ذهب من عمره سنة، وهكذا حتى ينقضي عمره.
الثالث: أن المقصود بالمعمر من بلغ الستين، ومن نقص عنها فهو ممن نقص عمره، وبعضهم قال: المعمر هو من وصل سن الهرم ومن نقص من عمره من هو دون ذلك.
الرابع: أن المقصود من زيد في عمره بسبب عمل صالح كصلة الرحم، وذلك وَفق حديث أنس رضي الله عنه السابق، ومن نقص من عمره بسبب ارتكابه للمعاصي كالعقوق ونحوه؛ فكل ذلك معلوم لله تعالى مسجل في كتاب ما زيد فيه وما نقص منه[11].
[1] أخرجه البخاري (كتاب الأدب، رقم 5986)، ومسلم (كتاب البر والصلة والآداب، رقم 2557).
[2] أخرجه البخاري (كتاب الأدب، رقم 5986)، ومسلم (كتاب البر والصلة والآداب، رقم 2557).
[3] انظر: شرح النووي على مسلم (16/115) [دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط2، 1392هـ]، وإكمال المعلم بفوائد مسلم (8/21) [دار الوفاء، مصر، ط1، 1419هـ]، وفتح الباري لابن حجر (10/416) [دار المعرفة، بيروت، 1379هـ].
[4] الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (3/50) [مكتبة الخانجي، القاهرة].
[5] شرح العقيدة السفارينية لابن عثيمين (1/356 ـ 359) [دار الوطن، الرياض، ط1، 1426هـ].
[6] أخرجه الترمذي (أبواب تفسير القرآن، رقم 3076)، وقال: حسن صحيح، والحاكم في المستدرك (كتاب التفسير، رقم 3257) وصححه، وصححه الألباني في صحيح الجامع (رقم 5208).
[7] أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة (4/735) [دار طيبة، ط8، 1423هـ]، وابن بطة في الإبانة (4/131) [دار الراية، الرياض]، وسنده حسن. وروي نحوه عن ابن مسعود رضي الله عنه، انظر: القضاء والقدر للبيهقي (215) [مكتبة العبيكان، ط1، 1421هـ].
[8] مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (14/492) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف، 1416هـ].
[9] المصدر السابق.
[10] لوامع الأنوار البهية للسفاريني (1/349).
[11] انظر الأقوال في: تفسير الطبري (20/448) [مؤسسة الرسالة، ط، 1420هـ]، والفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (3/50) [مرجع سابق]، وتفسير القرطبي (14/334) [دار الكتب المصرية، القاهرة ط2، 1384هـ]، وتفسير ابن كثير (5/539) [دار طيبة للنشر، ط2، 1420هـ]، وتفسير السعدي 685 [مؤسسة الرسالة، ط1، 1420هـ]، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (14/492).
أقرّ أهل السُّنَّة عمومًا أن لكل إنسان أجله الذي لا يتقدم ولا يتأخر كما دلت على ذلك الأحاديث، وخالفهم في مسألة المقتول؛ أمات بأجله أم أنه لو لم يقتل لعاش إلى أجل من وراء ذلك المعتزلة، ولهم فيه ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه لو لم يقتل لكان يموت قطعًا، وبه قال أبو الهذيل.
القول الثاني: أنه لو لم يقتل لكان يعيش قطعًا، وهو قول البغدادية منهم.
القول الثالث: أنه يجوز أن يحيا وأن يموت ولا يقطع بأحد الأمرين، وهو قول عبد الجبار المعتزلي شارح الأصول الخمسة[1].
وهذه الأقوال كلها باطلة؛ فإن القدر قد فرغ منه، وكل إنسان قد كتب عليه ما كتب بأسبابه الموصلة إليه، فمن قدّر عليه أن يموت بالقتل في المكان المعين وبالكيفية المعينة سيكون ذلك ولا يمكن أن يتخلف، وكلام المعتزلة فرض لما لا يقع.
قال ابن حزم رحمه الله في ردِّه عليهم في هذه المسألة: «وقد تحيرت المعتزلة ها هنا حتى قال بعضهم: لو لم يقتل زيد لعاش، وقال أبو الهذيل: لو لم يقتل لمات، وشغب القائلون بأنه لو لم يقتل لعاش بقول الله عزّ وجل: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلاَ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11] ، وبقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من سَرَّه أن ينسَأَ له في أَجَلِه، فليصل رَحِمَه» [2]. قال أبو محمد: وكل هذا لا حجة لهم فيه، بل هو بظاهره حجة عليهم؛ لأن النقص في اللغة التي بها نزل القرآن إنما هو من باب الإضافة، وبالضرورة علمنا أن من عمّر مائة عام وعمّر آخر ثمانين سنة فإن الذي عمّر ثمانين نقص من عدد عمر الآخر عشرين عامًا، فهذا هو ظاهر الآية ومقتضاها على الحقيقة، لا ما يظنه من لا عقل له من أن الله تعالى جار تحت أحكام عباده؛ إن ضربوا زيدًا أماته وإن لم يضربوه لم يمته، ومن أن علمه غير محقق فربما أعاش زيدًا مائة سنة وربما أعاشه أقل، وهذا هو البداء بعينه، ومعاذ الله تعالى من هذا القول، بل الخلق كله مصرف تحت أمر الله عزّ وجل وعلمه، فلا يقدر أحد على تعدي ما علم الله تعالى أنه يكون ولا يكون البتة، إلا ما سبق في علمه أن يكون، والقتل نوع من أنواع الموت فمن سأل عن المقتول؛ لو لم يقتل لكان يموت أو يعيش؟ فسؤاله سخيف! لأنه إنما يسأل لو لم يمت هذا الميت أكان يموت؟ أو كان لا يموت؟ وهذه حماقة جدًّا؛ لأن القتل علة لموت المقتول كما أن الحمى القاتلة والبطن القاتل وسائر الأمراض القاتلة علل للموت الحادث عنها ولا فرق. وأما قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من سَرَّه أن ينسَأَ له في أَجَلِه، فليصل رَحِمَه» فصحيح موافق للقرآن ولما توجبه المشاهدة، وإنما معناه: أن الله عزّ وجل لم يزل يعلم أن زيدًا سيصل رحمه، وأن ذلك سبب إلى أن يبلغ من العمر كذا وكذا وكذا...، والمسبب والسبب كل ذلك قد سبق في علم الله عزّ وجل كما هو لا يبدَّل، قال تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: 29] ، ولو كان على غير هذا لوجب البداء ضرورة، ولكان غير عليم بما يكون، متشكِّكًا فيه؛ يكون أم لا يكون، جاهلاً به جملةً، وهذه صفة المخلوقين لا صفة الخالق، وهذا كفر ممن قال به، وهم لا يقولون بهذا. قال أبو محمد: ونصُّ القرآن يشهد بصحة ما قلنا، قال الله تعالى: {لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154] ، وقال تعالى: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} [الأحزاب: 16] ، وقال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] [3].
وقد أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن سؤال عن المقتول؛ أمات بأجله أم قطع القاتلُ أجلَه؟ فأجاب: «المقتول كغيره من الموتى، لا يموت أحد قبل أجله ولا يتأخر أحد عن أجله، بل سائر الحيوان والأشجار لها آجال لا تتقدم ولا تتأخر، فإن أجل الشيء هو نهاية عمره، وعمره مدة بقائه، فالعمر مدة البقاء، والأجل نهاية العمر بالانقضاء» ثم ذكر النصوص الدالة على كتابة القدر وتقدير الآجال، ثم قال: «والله يعلم ما كان قبل أن يكون؛ وقد كتب ذلك فهو يعلم أن هذا يموت بالبطن أو ذات الجنب أو الهدم أو الغرق أو غير ذلك من الأسباب وهذا يموت مقتولاً: إما بالسم وإما بالسيف وإما بالحجر وإما بغير ذلك من أسباب القتل»[4].
[1] انظر: شرح الأصول الخمسة (782) [مكتبة وهبه، ط1، 1384هـ]، ومقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري (1/204) [مرجع سابق]، والفرق بين الفرق لأبي منصور البغدادي (330) [دار الآفاق الجديدة، بيروت ط2، 1977م]، ولوامع الأنوار للسفاريني (1/349) [مرجع سابق].
[2] سبق تخريجه بلفظ مقارب.
[3] الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (3/50).
[4] مجموع الفتاوى (8/518).
1 ـ «جهود شيخ الإسلام في توضيح الإيمان بالقدر»، لتامر محمد متولي.
2 ـ «شفاء العليل في مسائل الإيمان والقدر والحكمة والتعليل»، لابن القيم.
3 ـ «إرشاد ذوي العرفان لما للعمر من الزيادة والنقصان»، لمرعي الكرمي.
4 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
5 ـ «شرح الأصول الخمسة»، للقاضي عبد الجبار.
6 ـ «شرح المواقف»، السيد الشريف علي الجرجاني.
7 ـ «القضاء والقدر في الإسلام»، لفاروق أحمد الدسوقي.
8 ـ «القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسُّنَّة ومذاهب الناس فيه»، لعبد الرحمن المحمود.
9 ـ «القضاء والقدر»، لعمر سليمان الأشقر.