قال ابن فارس رحمه الله: «الحاء والدال والثاء أصل واحد، وهو كون شيء لم يكن، يُقال: حدث أمرٌ بعد أن لم يكن، والحديث من هذا؛ لأنه كلام يحدث منه الشيء بعد الشيء»[1]. «والحديث: ما يُحَدِّث به المحدِّث تحديثًا»[2]. «والحديث: الخبر، يأتي على القليل والكثير»[3].
[1] ينظر: مقاييس اللغة (2/36) [دار الجيل].
[2] تهذيب اللغة (4/234) [دار إحياء التراث العربي].
[3] الصحاح (1/246) [دار إحياء التراث العربي، ط1].
يقصد بهذا المصطلح: الذين اعتمدوا ما صح من حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم ـ بالإضافة إلى كتاب الله تعالى ـ مصدرًا من مصادر التلقي، واهتموا به رواية ودراية؛ وعملاً بمقتضاه[1].
[1] ينظر: شرح الأصول للالكائي (1/23 ـ 26) [دار طيبة، ط4، 1416هـ]، ومعرفة علوم الحديث (35) [دار الكتب العلمية، ط2، 1411هـ]، ومجموع الفتاوى (4/85، 94، 95)، ومنهاج السُّنَّة (4/287) [طبعة جامعة الإمام، ط1، 1397هـ].
يقصد بهذا المصطلح معنى أوسع مما قد يتبادر إلى الذهن عند المتأخرين خاصة، ممن يريد به: مَن يُعنى بدراسة الحديث النبوي صناعةً وتخصصًا.
فيقصد به: من اهتموا به رواية ودراية؛ حفظًا له ومعرفةً بصحيحه وسقيمه، وفقهًا فيه، وفهمًا لمعانيه، وعملاً بمقتضاه؛ إيمانًا وتصديقًا، وطاعةً وانقيادًا، واقتداءً واتباعًا، ظاهرًا وباطنا.
وهم بهذا يتميزون من غيرهم ممن اعتمد على خيال فلسفي، أو رأي قياسي، أو غير ذلك من الآراء والمبتدعات، مقدمًا إياها على ما صحَّ وثبت عن النبي المصطفى صلّى الله عليه وسلّم[1]، وقد يكون من أهل الحديث صناعة، وليس هو من أهل السُّنَّة، لكونه مبتدعًا، ولذا فإن هذا الاسم كثيرًا ما كان يطلق في مقابل: (أهل الكلام) أو (أهل الرأي)[2].
[1] ينظر: تأويل مختلف الحديث (82) [دار الكتب العلمية]، ومجموع الفتاوى (4/94، 95).
[2] ينظر: مقدمة ابن قتيبه لكتابه: تأويل مختلف الحديث، وشرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي، والانتصار لأصحاب الحديث للسمعاني.
{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *} [النساء: 65] .
وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] .
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ»[1].
قال الشافعي رحمه الله: «ولا أعلم من الصحابة ولا من التابعين أحدًا أخبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا قُبل خبره، وانتهى إليه، وأثبت ذلك سُنَّة»[2].
[1] تقدم تخريجه قريبًا.
[2] نقلاً عن مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسُّنَّة للسيوطي (34) [طبعة الجامعة الإسلامية، ط3، 1299هـ].
قال اللالكائي رحمه الله مبيّنًا سبب تسمية أهل السُّنَّة بأهل الحديث: «كل من اعتقد مذهبًا فإلى صاحب مقالته التي أحدثها يُنسب وإلى رأيه يستند، إلا أصحاب الحديث، فإن صاحب مقالتهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فهم إليه ينتسبون، وإلى علمه يستندون، وبه يستدلون، وإليه يفزعون، وبرأيه يقتدون، وبذلك يفتخرون، وعلى أعداء سُنَّته ـ بقربهم منه ـ يصولون، فمن يوازيهم في شرف الذكر، ويباهيهم في ساحة الفخر وعلو الاسم؟!»[1].
وللإمام السمعاني كلام نفيس في بيان أن الحق والعقيدة الصحيحة مع أهل الحديث، مع الإشارة إلى ما يميزهم عن غيرهم من سائر الفرق، فيقول رحمه الله: «غير أن الله تعالى أبى أن يكون الحق والعقيدة الصحيحة إلا مع أهل الحديث والآثار؛ لأنهم أخذوا دينهم وعقائدهم خلفًا عن سلف وقرنًا عن قرن إلى أن انتهوا إلى التابعين، وأخذه التابعون عن أصحاب رسول الله، وأخذه أصحاب رسول الله عن رسول الله... وأما سائر الفرق فطلبوا الدين لا بطريقه؛ لأنهم رجعوا إلى معقولهم وخواطرهم وآرائهم، فطلبوا الدين من قِبَله، فإذا سمعوا شيئًا من الكتاب والسُّنَّة عرضوه على معيار عقولهم فإن استقام قبلوه وإن لم يستقم في ميزان عقولهم ردوه، فإن اضطروا إلى قَبوله حرفوه بالتأويلات البعيدة، والمعاني المستنكرة، فحادوا عن الحق، وزاغوا عنه، ونبذوا الدين وراء ظهورهم، وجعلوا السُّنَّة تحت أقدامهم، تعالى الله عما يصفون... ومما يدل على أن أهل الحديث هم على الحق: أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم، قديمهم وحديثهم، مع اختلاف بلدانهم وزمانهم، وتباعد ما بينهم في الديار، وسكون كل واحد منهم قطرًا من الأقطار؛ وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة ونمط واحد، يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها، ولا يميلون فيها، قولهم في ذلك واحد، وفعلهم واحد، لا ترى بينهم اختلافًا ولا تفرقًا في شيء ما وإن قل.
بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم، ونقلوه عن سلفهم؛ وجدته كأنه جاء من قلب واحد وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا؟ وأما إذا نظرت إلى أهل الأهواء والبدع رأيتهم متفرقين مختلفين، وشيعًا وأحزابًا، لا تكاد تجد اثنين منهم على طريقة واحدة في الاعتقاد، يبدع بعضهم بعضًا، بل يرتقون إلى التكفير...»[2].
وقال ابن تيمية: «مذهب أهل الحديث، وهم السلف من القرون الثلاثة ومن سلك سبيلهم من الخلف...»[3].
فإذن ـ كما قال ابن تيمية ـ: نحن لا نعني بأهل الحديث هنا: المقتصرين على سماعه أو كتابته أو روايته، بل نعني بهم: كل من كان أحق بحفظه ومعرفته وفهمه ظاهرًا وباطنًا، واتباعه باطنًا وظاهرًا، وكذلك أهل القرآن، وأدنى خصلة في هؤلاء: محبة القرآن والحديث، والبحث عنهما وعن معانيهما، والعمل بما علموه من موجبهما[4]
ومما تقدم يتضح جليًّا أن هذا المصطلح يطلق كثيرًا عند المتقدمين ويقصدون به أهل السُّنَّة والجماعة.
[1] شرح الأصول (1/24)، وأشار رحمه الله إلى مأخذ آخر لهذه التسمية فقال (1/24 ـ 25): «فهم مترددون في انتسابهم إلى الحديث بين ما ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه، فقال تعالى ذكره: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر: 23] فهو القرآن، فهم حملة القرآن وأهله وقراؤه وحفظته، وبين أن ينتموا إلى حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فهم نقلته وحملته، فلا شك أنهم يستحقون هذا الاسم لوجود المعنيين فيهم».
[2] الانتصار لأصحاب الحديث (44 ـ 46)، وينظر: تأويل مختلف الحديث (71)، وشرف أصحاب الحديث (9) [دار إحياء السُّنَّة النبوية].
[3] مجموع الفتاوى (6/355).
[4] ينظر: مجموع الفتاوى (4/95).