السُّنَّة في اللغة[1]: الطريقة والسيرة، حسنة كانت أو قبيحة.
قال ابن فارس رحمه الله: «السين والنون أصل واحد مطرد، وهو جريان الشيء واطراده في سهولة، والأصل قولهم: سَنَنْتُ الماء على وجهي أسُنه سَنًًّا؛ إذا أرسلته إرسالاً... ومما اشتُق منه: السُّنَّة، وهي: السيرة، وسُنَّة رسول الله عليه السلام: سيرته... وإنما سُميت بهذا لأنها تجري جريًا، ومن ذلك قولهم: امضِ على سَنَنِك وسُنَنِك؛ أي: وجهك، وجاءت الريح سنائن، إذا جاءت على طريق واحدة»[2].
وقولهم: فلان من أهل السُّنَّة، معناه: من أهل الطريقة المستقيمة المحمودة[3].
وأما الجماعة، فقال ابن فارس: «الجيم والميم والعين أصل واحد، يدل على تَضَامِّ الشيء، يُقال: جمعت الشيء جمعًا»[4].
والإجماع: الإعداد والعزيمة على الأمر، وأجمع أمره؛ أي: جعله جميعًا بعدما كان متفرّقًا.
والجمع: أن تجمع شيئًا إلى شيء، والإجماع: أن تجعل المتفرق جميعًا.
والجماعة: عدد كل شيء وكثرته[5].
[1] ينظر: مقاييس اللغة (3/60) [دار الجيل]، وتهذيب اللغة (12/210) [دار إحياء التراث العربي]، ولسان العرب (13/225) [دار العلوم والحكم، ط21].
[2] مقاييس اللغة (3/60).
[3] ينظر: تهذيب اللغة (12/212).
[4] مقاييس اللغة (1/479).
[5] ينظر: تهذيب اللغة (1/253).
مصطلح (أهل السُّنَّة والجماعة) أصبح شعارًا ولقبًا لمن التزم الكتاب والسُّنَّة، ولذا فلا ينبغي أن يُفهم من هذا الإطلاق أنهم مقتصرون على السُّنَّة ـ أي: الحديث ـ دون الكتاب، فالسُّنَّة هنا معنى أوسع من مجرد الحديث.
قال الشاطبي رحمه الله: «ويطلق أيضًا ـ أي: لفظ السُّنَّة ـ في مقابلة البدعة، فيقال: (فلان على سُنَّة) إذا عمل على وَفق ما عمل عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم، كان ذلك مما نص عليه في الكتاب أولاً، ويقال: (فلان على بدعة) إذا عمل على خلاف ذلك، وكأن هذا الإطلاق إنما اعتبر فيه عمل صاحب الشريعة، فأطلق عليه لفظ السُّنَّة من تلك الجهة، وإن كان العمل بمقتضى الكتاب.
ويطلق أيضًا لفظ السُّنَّة على ما عمل عليه الصحابة، وجد ذلك في الكتاب أو السُّنَّة أو لم يوجد؛ لكونه اتباعًا لسُنَّة ثبتت عندهم لم تنقل إلينا، أو اجتهادًا مجتمعًا عليه منهم أو من خلفائهم»[1]
وقال ابن تيمية رحمه الله: «وأما أهل الحديث والسُّنَّة والجماعة فقد اختصوا باتباعهم الكتاب والسُّنَّة الثابتة عن نبيّهم صلّى الله عليه وسلّم في الأصول والفروع، وما كان عليه أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم»[2].
كما أن السلف عندما يطلقون هذا المصطلح (أهل السُّنَّة) أو (السُّنَّة) فكثيرًا ما يقصدون به الكلام في قضايا الاعتقاد خاصة[3].
قال ابن تيمية رحمه الله: «ولفظ: (السُّنَّة) في كلام السلف يتناول السُّنَّة في العبادات وفي الاعتقادات، وإن كان كثير ممن صنف في السُّنَّة يقصدون الكلام في الاعتقادات»[4].
وقال ابن رجب رحمه الله: «وكثير من العلماء المتأخرين يخص اسم (السُّنَّة) بما يتعلق بالاعتقادات؛ لأنها أصل الدين، والمخالف فيها على خطر عظيم»[5].
[1] الموافقات (4/3 ـ 4) [دار الكتب العلمية، ط1]، وينظر: وسطية أهل السُّنَّة بين الفرق لمحمد باكريم (32) [دار الراية، ط1، 1415هـ].
[2] منهاج السُّنَّة (3/463) [جامعة الإمام، ط1].
[3] وللسُّنَّة إطلاقات أخرى أخص، تختلف باختلاف العلوم وتنوعها، فلها عند المحدثين معنى، وعند الأصوليين معنى آخر، وهكذا عند الفقهاء.
[4] مجموع الفتاوى (28/178).
[5] جامع العلوم والحكم (2/120).
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً *} [النساء] .
وقال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *} [النساء]
وقال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] .
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ»[1].
وأخرج اللالكائي رحمه الله بسنده عنه أنه قال في قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] : «فأما الذين ابيضت وجوههم: فأهل السُّنَّة والجماعة وأولو العلم، وأما الذين اسودت وجوههم: فأهل البدع والضلالة»[2].
[1] تقدم تخريجه قريبًا.
[2] شرح الأصول (1/79) [دار طيبة، ط4]، وأورده البغوي في معالم التنزيل (1/339) [دار المعرفة، ط4]، وابن كثير تفسيره (1/584) [دار الكتب العلمية، ط1]، والسيوطي في الدر المنثور (3/721) [دار هجر، ط1]، وعزاه لابن أبي حاتم، واللالكائي، وأبي نصر في الإبانة، والخطيب في تاريخه، كما ذكر هذا الأثر مرفوعًا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وعزاه للخطيب والديلمي، وذكره مرفوعًا أيضًا من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وعزاه لأبي نصر في الإبانة.
قال البربهاري رحمه الله: «والسُّنَّة: سُنَّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، و(الجماعة) ما اجتمع عليه أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان»[1].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «ثم من طريقة أهل السُّنَّة والجماعة اتّباع آثار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باطنًا وظاهرًا، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، واتّباع وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حيث قال: «عليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسَّكوا بها، وعَضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة» . ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلّى الله عليه وسلّم، ويؤثرون كلام الله على غيره من كلام أصناف الناس، ويقدمون هدي محمد صلّى الله عليه وسلّم على هدي كل أحد. ولهذا سُمّوا أهل الكتاب والسُّنَّة، وسُمّوا أهل الجماعة؛ لأن الجماعة هي الاجتماع، وضدها الفرقة»[2].
وقال ابن حزم رحمه الله: «وأهل السُّنَّة الذين نذكرهم: أهل الحق ـ ومن عداهم فأهل البدعة ـ فإنهم الصحابة رضي الله عنهم، وكل من سلك نهجهم من خيار التابعين، رحمهم الله ثم أصحاب الحديث، ومن اتبعهم من الفقهاء جيلاً فجيلاً إلى يومنا هذا، ومن اقتدى بهم من العوامّ في شرق الأرض وغربها رحمة الله عليهم»[3].
[1] شرح السُّنَّة (99 ـ 100)، وينظر: (35) [دار المنهاج، ط1].
[2] العقيدة الواسطية بشرح الهراس (255).
[3] الفِصَل (1/371) [دار الكتب العلمية، ط1]، ويظر: تلبيس إبليس (26 ـ 27) [دار الجيل، 1408هـ].
قد يطلق لفظ: (أهل السُّنَّة) فيُقصد به المعنى العام ، وذلك في مقابل الرافضة، فيُراد به ما عدا الرافضة، من المنتسبين للإسلام، وهو اصطلاح العامة.
قال ابن تيمية وهو يتحدث عن الرافضة: «ولهذا كانوا هم المشهورين عند العامة بالمخالفة للسُّنَّة، فجمهور العامة لا تعرف ضد السُّني إلا الرافضي، فإذا قال أحدهم: أنا سُنِّي، فإنما معناه: لست رافضيًّا»[1].
ويطلق ويراد به: المعنى الخاص ، كما هنا؛ أي: السُّنَّة المحضة الخالية من البدع والشوائب.
قال ابن تيمية: «فلفظ أهل السُّنَّة يراد به من أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة، فيدخل في ذلك جميع الطوائف إلا الرافضة، وقد يراد به أهل الحديث والسُّنَّة المحضة، فلا يدخل فيه إلا من يثبت الصفات لله تعالى، ويقول: إن القرآن غير مخلوق، وإن الله يُرى في الآخرة، ويثبت القدر، وغير ذلك من الأصول المعروفة عند أهل الحديث والسُّنَّة»[2].
[1] مجموع الفتاوى (3/356)، وينظر: (28/482).
[2] منهاج السُّنَّة (2/221).
ولا يخفى أن كثيرًا من أتباع الفرق المنتسبة للإسلام يدَّعي أن فرقته وطائفته التي ينتسب إليها هم الفرقة الناجية أهل السُّنَّة والجماعة، لا سيما الأشاعرة، فإنهم لا يفتؤون يرددون ذلك في كثير من كتبهم.
والحق أن كل دعوى لا بدَّ لها من بيِّنة وبرهان يدل على صحتها، والبينة والبرهان والمعيار الدقيق الذي يُستحَق به هذا اللقب هو: الاتباع وعدم الابتداع، والتعويل على نصوص الكتاب والسُّنَّة الصحيحة، وجعلهما أصلاً، فمن خالف ذلك فعارض الكتاب والسُّنَّة بعقله، فجعل العقل أصلاً، والنقل تابعًا، فليس يستحق هذا اللقب.
قال السمعاني رحمه الله: «واعلم أن فصل ما بيننا وبين المبتدعة هو مسألة العقل، فإنهم أسسوا دينهم على المعقول، وجعلوا الاتباع والمأثور تبعًا للمعقول.
وأما أهل السُّنَّة قالوا: الأصل الاتباع، والعقول تبع، ولو كان أساس الدين على المعقول لاستغنى الخلق عن الوحي وعن الأنبياء صلوات الله عليهم، ولبطل معنى الأمر والنهي، ولقال من شاء ما شاء»[1].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «فكثير من الناس يخبر عن هذه الفرق بحكم الظن والهوى، فيجعل طائفته والمنتسبة إلى متبوعه الموالية له هم أهل السُّنَّة والجماعة؛ ويجعل من خالفها أهل البدع، وهذا ضلال مبين، فإن أهل الحق والسُّنَّة لا يكون متبوعهم إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فهو الذي يجب تصديقه في كل ما أخبر؛ وطاعته في كل ما أمر، وليست هذه المنزلة لغيره من الأئمة، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فمن جعل شخصًا من الأشخاص غير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أحبه ووافقه كان من أهل السُّنَّة والجماعة، ومن خالفه كان من أهل البدعة والفرقة ـ كما يوجد ذلك في الطوائف من اتباع أئمة في الكلام في الدين وغير ذلك ـ كان من أهل البدع والضلال والتفرق.
وبهذا يتبين أن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية: أهل الحديث والسُّنَّة؛ الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم»[2].
ومن المهم هنا التأكيد على أن من جعل النقل أصلاً واجتهد في موافقة السُّنَّة، ـ فوافق السلف في كثير من أصولهم ـ فهو من أهل السُّنَّة وإن أخطأ في فهم بعض نصوصها، فلا نخرجه من السُّنَّة بمقالة زلَّ فيها، أو فهم أخطأ فيه[3]، والله تعالى أعلم.
[1] الانتصار لأصحاب الحديث (81 ـ 82) [دار أضواء المنار، ط1، 1417هـ].
[2] مجموع الفتاوى (3/346)، وينظر: مختصر الصواعق (4/1592، 1599) [دار أضواء السلف، ط1].
[3] ينظر: وسطية أهل السُّنَّة (72).