قال ابن فارس: «الفاء والتاء والراء أصلٌ صحيح يدلُّ على ضَعفٍ في الشَّيء. من ذلك: فَتَر الشّيءُ يَفْتُر فُتُورًا. والطّرْف الفاتر: الذي ليس بحديدٍ شَزْر...»[1]، وفَترَ فلان يَفْتُرُ فُتورًا؛ إذا سكن عن حدَّته ولان بعد شدّته[2]، والفترة: الانكسار والضعف[3].
[1] مقاييس اللغة (4/470) [دار الجيل، ط1].
[2] انظر: تهذيب اللغة (5/4).
[3] انظر: الصحاح (2/777) [دار العلم للملايين، ط3]، لسان العرب (5/43) [دار صادر].
الفترة: ما بين كل رسولين من رسل الله سبحانه وتعالى من الزمان الذي انقطعت فيه الرسالة[1]. وقال ابن حجر رحمه الله في تعريف الفترة: «وزمان الفترة هو ما بين الرسولين من المدة التي لا وحي فيها»[2]. وقال الألوسي: «وهي عند جميع المفسرين انقطاع ما بين الرسولين»[3]، وأهل الفترة «هم الأمم الكائنة بين أزمنة الرسل الذين لم يرسل إليهم الأول، ولا أدركوا الثاني كالأعراب الذين لم يرسل إليهم عيسى عليه السلام ولا لحقوا النبي صلّى الله عليه وسلّم»[4]، ثم صار يطلق عند كثير من العلماء على كل من لم تبلغهم الدعوة، بما فيهم أطفال المشركين[5].
[1] انظر: الصحاح (2/777)، لسان العرب (5/44).
[2] فتح الباري (المقدمة/165) [دار الفكر].
[3] روح المعاني (6/103) [دار إحياء التراث العربي].
[4] إكمال إكمال المعلم للأبي (1/370) [دار الكتب العلمية]، وانظر: الحاوي للفتاوي (2/198) [دار الكتب العلمية، ط1، 1421هـ].
[5] انظر: نواقض الإيمان الاعتقادية (1/228).
اختلف العلماء في أهل الفترة ومن في حكمهم على أقوال، أشهرها أربعة، وهي:
القول الأول: أن من مات ولم تبلغه الدعوة مات ناجيًا، قال السيوطي رحمه الله: «وقد أطبقت أئمتنا الأشاعرة من أهل الكلام والأصول، والشافعية من الفقهاء على أن من مات ولم تبلغه الدعوة يموت ناجيًا»[1]، ونص بعض الأئمة على دخول أطفال المشركين الجنة دون غيرهم من أهل الفترة؛ كابن حزم، والنووي، والقرطبي، وابن الجوزي، وذكر ابن حجر أنه ترجيح البخاري[2].
القول الثاني: أنهم في النار، وهو قول جماعة من المتكلمين، وأهل التفسير، وأحد الوجهين لأصحاب أحمد[3]. كما هو قول جماعة من أصحاب أبي حنيفة[4].
القول الثالث: التوقف في أمرهم، وهو منقول عن الحمادين وابن المبارك وإسحاق بن راهويه، «وليس عن مالك فيه شيء منصوص، إلا أن المتأخرين من أصحابه ذهبوا إلى أن أطفال المسلمين في الجنة، وأطفال الكفار خاصة في المشيئة»[5].
القول الرابع: أنهم يمتحنون في عرصات القيامة بنار يأمرهم الله سبحانه وتعالى بدخولها، فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا ومن لم يدخلها فقد عصى الله سبحانه وتعالى فهو من أهل النار، وهذا قول جمهور السلف، حكاه الأشعري عنهم[6]، وممن قال به محمد بن نصر المروزي، والبيهقي، وابن تيمية وابن القيم، وابن كثير وغيرهم[7]. وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها[8].
[1] الحاوي للفتاوي (2/202).
[2] انظر: الفصل لابن حزم (4/127) [دار الجيل، 1405هـ]، وشرح صحيح مسلم للنووي (16/208) [دار الفكر، 1401هـ]، وفتح الباري (3/246)، وتفسير القرطبي (7/317) [دار عالم الكتب، 1423هـ]، ومجموع الفتاوى (24/372).
[3] انظر: أحكام أهل الذمة (2/623) [دار العلم للملايين، ط3، 1983م].
[4] انظر: الجواب الصحيح (1/311) [دار العاصمة، ط1، 1414هـ].
[5] التمهيد لابن عبد البر (18/111، 112) [وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1387هـ]، وانظر: فتح الباري (3/246)، وأهل الفترة لموفق شكري (98).
[6] انظر: الإبانة للأشعري (20، 78) [مطابع جامعة الإمام محمد، 1400هـ]، ومجموع الفتاوى (24/372 ـ 373)، وأحكام أهل الذمة (2/648 ـ 649).
[7] انظر: درء التعارض (8/401)، وأحكام أهل الذمة (2/648 ـ 650)، والاعتقاد للبيهقي (112) [عالم الكتب، ط1، 1403هـ]، وتفسير ابن كثير (5/57 ـ 58) [دار طيبة، ط2، 1420هـ].
[8] انظر: تفسير ابن كثير (5/58).
من أهم أدلة القول الرابع نوعان من الأدلة:
الأول: استدلوا بالآيات الدالة على نفي التعذيب قبل بلوغ الحجة، مثل قوله سبحانه وتعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ *} [الملك: 8] ، وقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً *} [الإسراء: 15] وغيرها من الآيات الدالة على عذر أهل الفترة بأنهم لم يأتهم رسول.
الثاني: استدلوا بعدد من الأحاديث المصرحة بأن أهل الفترة ومن لم تبلغه الدعوة يمتحنون يوم القيامة، ومن أشهرها ما رواه الأسود بن سريع؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أربعة يحتجون يوم القيامة؛ رجل أصم، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في الفترة، فأما الأصمّ فيقول: ربِّ لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئًا، وأما الأحمق فيقول: ربِّ لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر، وأما الهرم فيقول، ربي لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئًا، وأما الذي مات في الفترة فيقول: ربِّ ما أتاني لك رسول. فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، قال: فوالذي نفسي بيده لو دخلوها كانت عليهم بردًا وسلامًا»[1]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه مثل هذا غير أنه قال في آخره: «فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومن لم يدخلها سحب إليها»[2].
[1] أخرجه أحمد (26/228) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وابن حبان (رقم 7357) [مؤسسة الرسالة، ط2] واللفظ له، والطبراني في الكبير (1/287) [مكتبة ابن تيمية، ط2]، وصححه عبد الحق الإشبيلي وابن القيم. انظر: طريق الهجرتين (397 ـ 398) [دار السلفية، ط2]، وصححه الألباني أيضًا في السلسلة الصحيحة (3/419).
[2] أخرجه أحمد (26/230) واللفظ له، وابن أبي عاصم في السُّنَّة (1/176) [المكتب الإسلامي]، وصححه البيهقي في الاعتقاد (169) [دار الآفاق الجديدة، ط1]، وابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/654)، والسيوطي في الحاوي (2/205)، والألباني في الصحيحة (3/419).
المسألة الأولى: أطفال المشركين يدخلون في حكم من مات ولم تبلغه الدعوة:
وهو أنهم يُختبرون في يوم القيامة، كما سبق بيانه في فقرة الحكم. وقد سئل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذراري المشركين فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» [1]. والصحيح في معناه قول شيخ الإسلام: «يعني: أن الله يعلم ما يعملون لو بلغوا، وقد روي أنهم في القيامة يبعث إليهم رسول، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار[2]، فيظهر ما علمه فيهم من الطاعة والمعصية»[3]. فالنبي صلّى الله عليه وسلّم لم يخبر بأن الله يعذبهم على علمه فيهم، وإنما أخبر بأنه أعلم بما هم عاملون من الخير أو الشر لو بلغوا، فإذا امتحنوا في الآخرة وعملوا بمعصيته، ظهر معلومه فيهم، فعاقبهم بما هم عاملون، لا بمجرد علمه.
المسألة الثانية: والدا النبي صلّى الله عليه وسلّم:
اختلف العلماء في حكم أبوي الرسول صلّى الله عليه وسلّم في الآخرة[4]:
القول الأول: أنهما في النار، لما روى أنس رضي الله عنه؛ أن رجلاً قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: «في النار» . فلما قفى دعاه فقال: «إن أبي وأباك في النار» [5]. قال النووي: «فيه: أن من مات على الكفر فهو في النار ولا تنفعه قرابة المقربين، وفيه: أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة، فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم، وغيره من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم»[6].
القول الثاني: أنهما في الجنة، وهو قول السيوطي فأثبت لهما الإيمان والنجاة، وصنَّف الرسائل العديدة في ذلك منها رسالة «التعظيم والمنة في أن أبوي رسول الله في الجنة».
القول الثالث: التوقف.
والراجح القول الأول وهو أنهما في النار؛ لصراحة الحديث في ذلك. وكل ما ورد بإحياء والديه صلّى الله عليه وسلّم وإيمانهما، ونجاتهما، أكثره موضوع مكذوب مفترى، وبعضه ضعيف جدًّا لا يصح بحال؛ لاتفاق أئمة الحديث على وضعه. قال في عون المعبود: «العلاَّمة السيوطي متساهل جدًّا، لا عبرة بكلامه في هذا الباب، ما لم يوافقه كلام الأئمة النقاد»[7].
[1] أخرجه البخاري (كتاب الجنائز، برقم 1384)، ومسلم (كتاب القدر، برقم 2659).
[2] سبق تخريج الأحاديث الدالة على هذا.
[3] مجموع الفتاوى (8/69).
[4] انظر: عون المعبود (12/324) [دار الكتب العلمية، ط1، 1410هـ].
[5] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 203).
[6] شرح النووي على مسلم (3/79).
[7] عون المعبود (12/324).
1 ـ «أحكام أهل الذمة» (ج2)، لابن القيم.
2 ـ «أهل الفترة ومن في حكمهم»، لموفق شكري.
3 ـ «الآيات والأحاديث والآثار الواردة في أهل الفترة ومن في حكمهم»، لمروان أحمد حمدان، [رسالة ماجستير].
4 ـ «التمهيد» (ج18)، لابن عبد البر.
5 ـ «درء التعارض» (ج8)، لابن تيمية.
6 ـ «طريق الهجرتين»، لابن القيم.
7 ـ «نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف»، لمحمد الوهيبي.