حرف الألف / أهوال القيامة

           

الأهوال: جَمْع هَوْل، وهو الخَوْفُ والأمْرُ الشَّديدُ، وقد هَالَه يَهُولُه فهو هَائِلٌ ومَهُولٌ، ومنه حديث أبي ذَرّ رضي الله عنه: «لا أهُولنَّك» ؛ أي: لا أُخِيفُك فلا تَخَفْ مِنِّي، ومنه حديث الوَحْي: «فَهُلْتُ» ؛ أي: خِفْتُ ورَعَبْتُ[1]. وفي تهذيب اللغة: «الهَوْلُ: المخافة من الأمر لا تدرِي على ما تَهجُم عليه منه، كَهَوْل الليل، وهَوْلِ البحر»[2].


[1] انظر: لسان العرب (11/711) [دار صادر، ط3]، والنهاية في غريب الحديث والأثر (5/661) [دار الفكر].
[2] تهذيب اللغة (6/219) [دار إحياء التراث العربي، ط1، 2001م].


أهوال القيامة: الأمور الشديدة العظام التي تقع بعد البعث من الحساب والميزان والمرور على الصراط وغيرها، وبعدها دخول الجنة أو النار.



إن المعنى الاصطلاحي أخص من اللغوي، فهو المخافة من أمور عظام جاء ذكرها في نصوص الكتاب والسُّنَّة.



موافقة لحقيقة ما يجري في ذلك اليوم من الأمور الشديدة الهائلة المخيفة.



ذهب بعض أهل العلم إلى أن أهوال القيامة هي الفزع الأكبر المذكور في قوله تعالى: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} [الأنبياء: 103] ، قال ابن جزي: «{الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} أهوال القيامة على الجملة، وقيل: ذبح الموت، وقيل: النفخة الأولى في الصور»[1].


[1] التسهيل لعلوم التنزيل (1130) [نسخة إلكترونية، المكتبة الشاملة].


الاعتقاد الجازم بحصولها كما أخبر الوحي، والتصديق بكل ما ورد بشأنها من صحيح الأخبار.



أهوال القيامة أحد مفردات اليوم الآخر الغيبية، التي تقع بعد البعث وقبل دخول الجنة لمستحقها.



قال تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ *} [الصافات] ، قال ابن كثير رحمه الله: «أي: إِنما هو أمر واحد من الله سبحانه وتعالى، يدعوهم دعوة واحدة أن يخرجوا من الأرض، فإذا هم قيام بين يديه ينظرون إلى أهوال يوم القيامة»[1].
وقال سبحانه: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا *} [مريم] .
وقال سبحانه: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} [غافر] .
وقال عزّ وجل: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا *وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا *أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً *وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنْزِيلاً *الْمُلْكَ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا *} [الفرقان] .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي العين، فليقرأ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ *} و{إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ *} و{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ *}»[2].
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله يمسك السماوات يوم القيامة على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال والشجر على أصبع، والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك أنا الله»[3].


[1] تفسير ابن كثير (7/8) [دار طيبة، ط2، 1420هـ].
[2] أخرجه الترمذي (أبواب تفسير القرآن، رقم 3333)، وأحمد (8/423) [مؤسسة الرسالة، ط1] واللفظ له، والحاكم (كتاب الأهوال، رقم 8719) وصححه، ووافقه الذهبي وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 1081).
[3] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7513)، ومسلم (كتاب صفة القيامة والجنة والنار، رقم 2786).


قال أبو عثمان الصابوني رحمه الله: «ويؤمن أهل الدين والسُّنَّة بالبعث بعد الموت يوم القيامة، وبكل ما أخبر الله سبحانه ورسوله صلّى الله عليه وسلّم من أهوال ذلك اليوم الحق»[1].
وقال الأشقر رحمه الله: «ومن أعظم تلك الأهوال: ذلك الدمار الكوني الشامل الرهيب الذي يصيب الأرض وجبالها، والسماء ونجومها وشمسها وقمرها.
يحدثنا ربنا: أن الأرض تزلزل وتدكُّ، وأن الجبال تُسَيَّر وتنسف، والبحار تُفجّر وتُسجَّر، والسماء تتشقق وتمور، والشمس تُكوَّر وتذهب، والقمر يخسف، والنجوم تنكدر ويذهب ضوؤها وينفرط عقدها»[2].


[1] عقيدة السلف أصحاب الحديث (75) [الدار السلفية، 1404هـ].
[2] القيامة الكبرى (56) [مكتبة الفلاح، ط1، 1407هـ].


المسألة الأولى: تعدد أهوال القيامة:
أهوال القيامة كثيرة ومتنوعة، منها ما يتعلق بالدمار الكوني الشامل الذي سيشهده الناس بعد البعث، وقد صوَّرته سورة التكوير، والانفطار، والانشقاق، كما دلَّ عليه حديث ابن عمر المتقدم.
ومن مفردات أهوال ذلك اليوم:
كون الأرض بجميع أجزائها قبضة الرب تعالى والسماوات السبع مطويات بيمينه، كما قال سبحانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ *} [الزمر] .
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟»[1].
وفي تفصيل لما يجري في ذلك اليوم، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: جاء حبر من اليهود إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا محمد، إن الله يمسك السماوات يوم القيامة على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال والشجر على أصبع، والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك أنا الله. فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تعجبًا مما قال الحبر تصديقًا له، ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ *} [الزمر] [2].
وكون الأرض والجبال تدك، كما قال سبحانه: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ *وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً *فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ *} [الحاقة] ، وقال جلّ جلاله: {كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا *} [الفجر] ، وقال سبحانه وتعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلاً *} [المزمل] ، وقال جلّ جلاله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا *فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا *لاَ تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلاَ أَمْتًا *} [طه] .
وكون الشمس تدنو من رؤوس الخلق، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل» . ـ قال سليم بن عامر [أحد رواة هذا الحديث]: فوالله ما أدري ما يعني بالميل؟ أمسافة الأرض أم الميل الذي تكتحل به العين ـ قال: «فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا» . قال: وأشار رسول الله بيده إلى فيه[3].
وكون الناس في ذهول شديد لما يرون الأهوال، جاء في قوله تعالى مخبرًا عما يستقبل الناس من أهوال القيامة: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ *يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ *} [الحج] .
وكون المجرمين يؤخذون بالنواصي والأقدام جاء في قوله سبحانه: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ *} [الرحمن] .
وقال تعالى حكاية لقيل الكفار عند رؤية الأهوال: {وَقَالُوا يَاوَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ *هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ *} [الصافات] .
قال ابن كثيررحمه الله: «يخبر تعالى عن قِيل الكفار يوم القيامة: أنهم يرجعون على أنفسهم بالملامة، ويعترفون بأنهم كانوا ظالمين لأنفسهم في الدار الدنيا، فإذا عاينوا أهوال القيامة نَدمُوا كلَّ الندم حيث لا ينفعهم الندم، {وَقَالُوا يَاوَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ *}، فتقول لهم الملائكة والمؤمنون: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ *}، وهذا يقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ...»[4].
المسألة الثانية: خوف الكافرين عند البعث ومشاهدة الأهوال:
قال تعالى يصف حال الكافرين عند مبعثهم من قبورهم، ورؤيتهم لأهوال القيامة العظام: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ *تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ *قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ *أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ *} [النازعات] ، قال ابن الجوزي مفسرًا: «{قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ *}؛ أي: شديدة الاضطراب لما عاينت من أهوال القيامة، {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ *}؛ أي: ذليلةٌ لمعاينة النار. قال عطاء رحمه الله: وهذه أبصار من لم يمت على الإسلام، ويدل على هذا أنه ذَكَرَ منكري البعث فقال تعالى: {يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ *} [النازعات] »[5].
المسألة الثالثة: المؤمنون المطيعون لا يلحقهم خوف أو حزن عند أهوال القيامة:
لقوله تعالى: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *} [البقرة] .
قال الرازي: «يبيّن تعالى أن من اتبع هداه بحقه علمًا وعملاً، بالإقدام على ما يلزم والإحجام عما يحرم، فإنه يصير إلى حال لا خوف فيها ولا حزن... وجمع قوله: {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *} جميع ما أعد الله تعالى لأوليائه؛ لأن زوال الخوف يتضمن السلامة من جميع الآفات، وزوال الحزن يقتضي الوصول إلى كل اللذات والمرادات.
وقدَّم عدم الخوف على عدم الحزن؛ لأن زوال ما لا ينبغي مقدم على طلب ما ينبغي، وهذا يدل على أن المكلف الذي أطاع الله تعالى لا يلحقه خوف في القبر، ولا عند البعث، ولا عند حضور الموقف، ولا عند تطاير الكتب، ولا عند نصب الموازين، ولا عند الصراط، كما قال الله تعالى: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} [الأنبياء: 103] »[6].
وقوله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَانِ وَفْدًا *وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا *} [مريم] .
قال الألوسي: «استدل بالآية على أن أهوال القيامة تختص بالمجرمين؛ لأن المتقين من الابتداء يحشرون مكرمين، فكيف ينالهم بعد ذلك شدة»[7].
وفي الحديث القدسي قال الله سبحانه وتعالى: «وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين، إذا خافني في الدنيا أمّنته يوم القيامة، وإذا أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة»[8].
وقد صحت الأخبار بدخول طائفة من هذه الأمة الجنة كذلك؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «عرضت عليَّ الأمم، يمر النبي معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي ليس معه أحد، والنبي معه الرهط، فرأيت سوادًا كثيرًا فرجوت أن يكون أمتي، فقيل: هذا موسى وقومه، ثم قيل: انظر، فرأيت سوادًا كثيرًا، فقيل: هؤلاء أمتك، ومع هؤلاء سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب»[9].
وسيأتي ما يفيد أن هناك أسبابًا للأمن من أهوال القيامة، مما يفيد أن أهوال القيامة خاصة بالكفار وبعض المقصرين دون المتقين المطيعين.
المسألة الرابعة: أسباب الأمن من أهوال القيامة:
1 ـ الخوف من الله تعالى في الدنيا المقتضي للإيمان والطاعة والرغبة والرهبة:
جاء في شأن الأبرار ـ يعني: المؤمنين الصادقين في إيمانهم المطيعين لربهم ـ: أنهم {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا *وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا *} [الإنسان] ، وأن عملهم هذا كان طلبًا لرضا الرب تعالى، وخوفًا من يوم القيامة، قال تعالى حكاية لقولهم: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا *إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا *} [الإنسان] ، وكانت الثمرة كما قال تعالى: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا *وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا *} [الإنسان] ، قال أهل التفسير: «قوله: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ}؛ أي: دفع عنهم بأس ذلك اليوم وشدته وعذابه...، فإن الله تعالى لما حكى عنهم أنهم أتوا بالطاعات لغرضين؛ لأجل رضا الله تعالى، والخوف من القيامة، بيّن هنا أنه أعطاهم هذين الغرضين: وهو أنه حفظهم من أهوال القيامة، وهو قوله جلَّ ثنائه: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ}، وأما طلبهم رضا الله فأعطاهم الله بسببه نضرة في الوجه؛ أي: حسنًا، حين رأوه، وسرورًا في القلب»[10].
وجاء في «التفسير المنير»: «أنه سبحانه وصفهم بالخوف من أهوال القيامة في موضعين: في قوله المتقدم: {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا *} وقوله هنا: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا *} ثم أوضح الله تعالى أنه حقق للأبرار الهدفين، وذكر ما سيجزيهم على أعمالهم وإخلاصهم...»[11].
2 ـ الإيمان بالله تعالى والجهاد في سبيله:
قال صلّى الله عليه وسلّم: «انتدب الله لمن يخرج في سبيله، لا يخرجه إلا الإيمان بي والجهاد في سبيلي، أنه ضامن حتى أدخله الجنة بأيهما كان، إما بقتل، وإما وفاة، أو أن يرده إلى مسكنه الذي خرج منه ينال ما نال من أجر أو غنيمة»[12].
ومعنى ضامن على الله: أي: «في ضمان الله وحمايته والمعنى: أنه ينجيه من أهوال القيامة ويدخله الجنة»[13].
3 ـ عيادة المريض، والخروج مع الجنازة، والغزو، وتوقير الإمام، وكف الأذى:
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «خمس من فعل واحدة منهن كان ضامنًا على الله سبحانه وتعالى : من عاد مريضًا، أو خرج مع جنازة، أو خرج غازيًا، أو دخل على إمام يريد تعزيره وتوقيره، أو قعد في بيته فسلم الناس منه وسلم من الناس»[14].
قال المناوي: «معنى أنه ضامن على الله: أن ينجيه من أهوال القيامة»[15].
4 ـ ما يصيب المؤمن في الدنيا من المحن والبلايا:
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تخيروني من بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور»[16].
قال ابن بطال: «قال المهلب: وقوله عليه السلام: «أم جوزي بصعقة الطور» فيه دليل أن المحن في الدنيا، والهموم، والآلام يرجى أن يخفف الله بها يوم القيامة كثيرًا من أهوال القيامة، وأما كفارة الذنوب بها فمنصوص عليه من النبى عليه السلام بقوله: «حتى الشوكة يشاكها»[17]»[18].
المسألة الخامسة: أهوال القيامة من ممحصات المقصرين.
قال ابن تيمية رحمه الله: «الذنوب لا توجب دخول النار مطلقًا إلا إذا انتفت الأسباب المانعة من ذلك وهي عشرة: منها: التوبة، ومنها: الاستغفار، ومنها: الحسنات الماحية، ومنها: المصائب المكفرة، ومنها: شفاعة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومنها: شفاعة غيره، ومنها: دعاء المؤمنين، ومنها: ما يهدى للميت من الثواب والصدقة والعتق، ومنها: فتنة القبر، ومنها: أهوال القيامة»[19].
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن من لم يمحصه البرزخ وما يجري فيه، فإنه «يمحص بين يدي ربه في الموقف بأربعة أشياء: أهوال القيامة، وشدة الموقف، وشفاعة الشفعاء، وعفو الله عزّ وجل.
فإن لم تف هذه الثلاثة بتمحيصه فلا بد له من دخول الكير رحمة في حقه؛ ليتخلص ويتمحص ويتطهر في النار، فتكون النار طهرة له وتمحيصًا لخبثه، ويكون مكثه فيها على حسب كثرة الخبث وقلته وشدته وضعفه وتراكمه، فإذا خرج خبثه وصفى ذهبه وصار خالصًا طيّبًا أخرج من النار وأدخل الجنة»[20].
المسألة السادسة: وقت أهوال القيامة:
الذي يظهر أن أهوال القيامة تقع بعد بعث الناس من قبورهم ثم تتابع، وهي قبل استقرار أهل الدارين فيما أعد الله لهم.
جاء في تفسير الزلزلة في قوله تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ *} [الحج] خلاف بين أهل العلم، قال الشنقيطي: «اختلف العلماء في وقت هذه الزلزلة المذكورة هنا، هل هي بعد قيام الناس من قبورهم يوم نشورهم إلى عرصات القيامة؟ أو هي عبارة عن زلزلة الأرض قبل قيام الناس من القبور؟ فقالت جماعة من أهل العلم: هذه الزلزلة كائنة في آخر عمر الدنيا وأول أحوال الساعة، وممن قال بهذا القول: علقمة، والشعبي، وإبراهيم وعبيد بن عمير، وابن جريج وهذا القول من حيث المعنى له وجه من النظر، ولكنه لم يثبت ما يؤيده من النقل؛ بل الثابت من النقل يؤيد خلافه، وهو القول الآخر... وأما حجة أهل القول الآخر القائلين: بأن الزلزلة المذكورة كائنة يوم القيامة بعد البعث من القبور، فهي ما ثبت في «الصحيح» عن النَّبي صلّى الله عليه وسلّم من تصريحه بذلك، وبذلك تعلم أن هذا القول هو الصواب كما لا يخفى»[21].
وساق لذلك عدة أحاديث منها: قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، قال: يقول: أخرج بعث النار! قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فذاك حين يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد...»[22].
ودلالة الحديث على المقصود ظاهرة.
وقد تقدم أن أهوال القيامة كثيرة غير ما يتعلق بالدمار الكوني الشامل، وكلها تقع فيما قبل استقرار أهل الدارين، قال الخلوتي: «الفزع الأكبر، وسائر أهوال القيامة إنما يقع قبل دخول الجنة»[23].
وأما مكان الأهوال فعرصات القيامة التي يكون معظمها في أرض المحشر والعلم عند الله.
المسألة السابعة: حمد المؤمنين ربهم عند دخولهم الجنة لما أذهب عنهم الحزن، ومنه أهوال القيامة:
قال تعالى حكاية لقول أهل الجنة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ *} [فاطر] . قال أهل التفسير: «{أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ}، قيل: هو عذاب النار، وقيل: أهوال القيامة، وقيل: هموم الدنيا، والصواب العموم في ذلك كله»[24].
وقال السمعاني: «الأولى أن يحمل على جميع الأحزان، فهم ينجون عن كلها، ومن المعروف أن الحزن: هو حزن أهوال القيامة»[25].
المسألة الثامنة: هول أهوال القيامة وما جرى للرسل عليهم السلام سبب شيب النبي صلّى الله عليه وسلّم؟
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «شيبتني هود وأخواتها» [26]، وفي رواية: «شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت»[27].
قال المناوي في المعنى: «شيبتني هود وما أشبهها مما فيه من أهوال القيامة وشدائدها، وأحوال الأنبياء وما جرى لهم»[28].


[1] أخرجه البخاري (كتاب تفسير القرآن، رقم 4812)، ومسلم (كتاب صفة القيامة والجنة والنار، رقم 2787).
[2] تقدم تخريجه قريبًا.
[3] أخرجه مسلم (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم 2864).
[4] تفسير ابن كثير (7/10).
[5] زاد المسير (6/118) [المكتب الإسلامي، ط4].
[6] تفسير الرازي (3/472) [دار الفكر، ط3].
[7] روح المعاني (8/452) [دار إحياء التراث، ط4].
[8] أخرجه البزار في المسند (14/342) [مكتبة العلوم والحكم، ط1]، وابن حبان في صحيحه (كتاب الرقائق، رقم 640)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 742) [مكتبة المعارف، ط1].
[9] أخرجه البخاري (كتاب الطب، رقم 5752)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 220).
[10] تفسير اللباب لابن عادل (20/27) [دار الكتب العلمية ط1، 1419هـ].
[11] التفسير المنير (29/288 ـ 290) [دار الفكر المعاصر].
[12] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 36) واللفظ له، ومسلم (كتاب الإمارة، رقم 1876).
[13] الأربعين للنسوي [دار البشائر الإسلامية، ط1].
[14] أخرجه أحمد (36/412) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وابن أبي عاصم في السُّنَّة (2/490، 491) [المكتب الإسلامي، ط1]، وابن خزيمة في صحيحه (كتاب الإمامة في الصلاة، رقم 1495)، والطبراني في الكبير (20/37) [مكتبة العلوم والحكم، ط2]، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/42) [مكتبة المعارف، ط5].
[15] التيسير بشرح الجامع الصغير (2/109) [مكتبة الإمام الشافعي، ط3، 1408هـ].
[16] أخرجه البخاري (كتاب تفسير القرآن، رقم 4638)، ومسلم (كتاب الفضائل، رقم 2374).
[17] أخرجه البخاري (كتاب المرضى، رقم 5640)، ومسلم (كتاب البر والصلة والآداب، رقم 2572).
[18] شرح البخاري (12/53) [مكتبة الرشد، ط2].
[19] مجموع الفتاوى (4/432) [دار عالم الكتب].
[20] مدارج السالكين (1/143) [دار الكتاب العربي، ط2].
[21] أضواء البيان (4/257) فما بعد [دار الفكر].
[22] أخرجه البخاري (كتاب الرقاق، رقم 6530)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 222).
[23] روح البيان (8/81) [دار إحياء التراث العربي].
[24] التسهيل لعلوم التنزيل (1641).
[25] تفسير القرآن (4/360) [دار الوطن، ط1418هـ].
[26] أخرجه أبو يعلى في مسنده (2/184) [دار المأمون، ط1]، والطبراني في المعجم الكبير (22/123) [مكتبة ابن تيمية، ط2]، وسيأتي الحكم عليه قريبًا.
[27] أخرجه الترمذي (أبواب تفسير القرآن، رقم 3297) وحسنه، وابن أبي شيبة في مصنفه (كتاب فضائل القرآن، رقم 30897) [دار القبلة، ط1]، والحاكم (كتاب التفسير، رقم 3314)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 955).
[28] التسهيل لعلوم التنزيل (1641).


الفرق بين أهوال القيامة الصغرى وأهوال القيامة الكبرى:
أن القيامة الكبرى تكون يوم الحشر، والقيامة الصغرى حالة الموت، وفي هذه القيامة يكون الإنسان وحده، وأما في القيامة الكبرى الجامعة لأصناف الخلائق فلا يكون وحده.
وأهوال القيامة الصغرى تحاكي وتماثل أهوال القيامة الكبرى، إلا أن أهوال الصغرى تخصك وحدك، وأهوال الكبرى تعم الخلائق أجمعين. وأهوال القيامة الكبرى أعظم بكثير من أهوال القيامة الصغرى وهذه الأمثلة لأهوال تلك، فإذا قامت عليك هذه بموتك فقد جرى عليك ما كأنه جرى على كل الخلائق، فهي أنموذج للقيامة الكبرى. ونسبة القيامة الصغرى إلى القيامة الكبرى كنسبة الولادة الصغرى وهي: الخروج من الصلب والترائب إلى فضاء الرحم إلى الولادة الكبرى: وهي الخروج من الرحم إلى فضاء الدنيا، ونسبة سعة عالم الآخرة الذي يقدم عليه العبد بالموت إلى فضاء الدنيا كنسبة فضاء الدنيا إلى الرحم؛ بل أوسع وأعظم بما لا يحصى[1].


[1] انظر: دستور العلماء (جامع العلوم في اصطلاحات الفنون) (3/78) [دار الكتب العلمية، ط1]، والكشكول (2/100) [دار الكتب العلمية، ط1].


من أعظم ثمرات العلم بأهوال القيامة: الزجر عن المعاصي، والترغيب في الطاعات، والاستعداد للقاء الله[1]، والصبر على طاعة الله وعدم الاغترار بالدنيا، وعدم الحزن على ما فات منها، فإنها إلى زوال ونهاية، والتشمير للجد لما يكون بعد الموت.


[1] انظر: الأنوار الساطعات لآيات جامعات (3/290).


ذكر الله تعالى أهوال القيامة وفي ذلك الكثير من الحكم، ولعل من أبرزها:
1 ـ امتحان الخلائق في الإيمان بالغيب.
2 ـ إظهار عظمة الرب تعالى للخلائق يوم أن تكون الأرض قبضته والسماوات مطويات بيمينه.
3 ـ إظهار عدل الله تعالى في عدم التسوية بين المؤمنين والكافرين في مواقف القيامة.
4 ـ إظهار حسرة الكافرين وندمهم في وقت لا ينفع في التحسر والندم.
5 ـ إظهار فضل المؤمنين الطائعين، وتحقيق وعد الله تعالى بوقايتهم شر ذلك اليوم وأهواله.
6 ـ تمحيص من لم يكفه التمحيص في برزخه من المؤمنين قبل بعثه.



ذهب طائفة من المتكلّمين: إن أهوال القيامة كما تصل إلى الكُفّار والفسّاق تصل إلى المؤمنين، مستدلين بقوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج: 2] ، فإذا انكشفت تلك الأهوال، وصاروا إلى الجنّة والرضوان صار ما تقدّم كأن لم يكن؛ بل ربما كان زائدًا في الالتذاذ بما يجده من النعيم.
وأجيبوا: بأن هذا ضعيف؛ لأن قوله: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} [الأنبياء: 103] أخص من قوله: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج: 2] ، والخاص مقدّم على العام.
فإن قيل: هذا يقتضي نَفْيَ الخَوْفِ والحُزْن مطلقًا في الدنيا والآخرة، وليس الأمر كذلك؛ لأنهما حصلا في الدنيا للمؤمنين أكثر من حصولهما لغير المؤمنين، فأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.
وأيضًا فالمؤمن لا يمكنه القطع بأنه أتى بالعَبَادات كما ينبغي، فخوف التقصير حاصلٌ، وأيضًا فخوف سوء العاقبة حاصل.
قلنا: قَرَائِنُ الكلام تدلّ على أنّ المراد نفيهما في الآخرة لا في الدنيا؛ ولذلك حكى الله عنهم أنهم قالوا حين دخلوا الجنة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: 34] ، لما وعد الله من اتبع الهدى بالأَمْنِ من العَذَاب والحزن عقبه بذكر كمن أعدّ له العَذَاب مثال الذين كفروا[1].
وأيضا قد تقدم ما يدل على استثناء المطيعين من خوف أهوال القيامة، وأن هناك أسبابًا للنجاة منها.


[1] انظر: تفسير اللباب (1/463) [دار الكتب العلمية].


1 ـ «أضواء البيان»، للشنقيطي.
2 ـ «تفسير ابن كثير».
3 ـ «التسهيل»، لابن جزي.
4 ـ «عقيدة السلف أصحاب الحديث»، للصابوني.
5 ـ «القيامة الكبرى»، للأشقر.
6 ـ «الأنوار الساطعات لآيات جامعات»، للسلمان.
7 ـ «مدارج السالكين»، لابن القيم.
8 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.