حرف الألف / أولو العَزم

           

العَزْم: الجِدُّ والثبات والصبر واللُّزوم والقَطْع، وما عُقِدَ عليه القلب من الأمر المتيقَّن، ومنه: الرجل يَعزِم الطريق؛ أي: يمضي فيه لا ينثني[1].


[1] انظر: تهذيب اللغة (2/152) [الدار المصرية]، ومقاييس اللغة (4/308) [دار الفكر، بيروت، ط2]، والقاموس المحيط (1468) [مؤسسة الرسالة، ط5].


أولو العزم : هم مجموعة من الرسل من أولي الثبات والصبر والجد، الذين أُمر نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم أن يصبر كصبرهم، في قوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] ؛ فصار مثلهم.
واختلف في تعيينهم على أقوال كثيرة، أشهرها: أنهم خمسة؛ وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام، وهذا قول جمع كبير من المفسرين.
وقيل: بل هم كل الرسل، و(من) في آية الأحقاف السابقة بيانية لا تبعيضية؛ فما من نبي ولا رسول إلا وهو من أولي العزم والصبر والمجاهدة[1].
والقول الأول لا يعني نفي العزم عن سوى الخمسة من الرسل عليهم السلام؛ بل معناه[2]: أن هؤلاء الخمسة هم أكثر الرسل استحقاقًا لوصف العزم والمصابرة؛ لكمال وعظم صبرهم على أذية قومهم، وتحملهم المشاق في سبيل الدعوة إلى الله تعالى؛ بحيث إذا أطلق هذا الوصف انصرف إليهم.


[1] راجع في الرد على هذا القول: أضواء البيان (7/434) [دار عالم الفوائد، ط1].
[2] انظر: معارج القبول (2/679) [دار ابن القيم، ط1].


سُمُّوا بذلك لأنهم «عزموا على أمر الله فيما عهد إليهم»[1]، أو: لأنهم «قطعوا العلائق بينهم وبين من لم يؤمن من الذين بعثوا إليهم»[2].


[1] المحكم والمحيط الأعظم (1/533) [دار الكتب العلمية، 2000م]، والقاموس المحيط (1468).
[2] مقاييس اللغة (4/309).


حقيقة الإيمان بأولى العزم من الرسل: أن يعتقد المسلم أن الله تعالى قد اصطفى من بين عباده رسلاً كرامًا جعلهم وسائط في إبلاغ الدين لخلقه وعباده، فبلَّغوا رسالات ربهم أتم بلاغ وأكمله، وكانوا جميعًا من أهل العزم والصبر والثبات على هذه الرسالات، وعلى الدعوة إلى دين الله تعالى، وكان من بينهم ـ على أشهر الأقوال ـ خمسة بلغوا النهاية في هذا العزم والجد؛ فصار هذا الوصف (أولو العزم) إذا أطلق منصرفًا إليهم، وهم أفضل المرسلين.



أولو العزم من الرسل هم أفضل الرسل، بل أفضل الخلق على الإطلاق.



استدل أصحاب هذا القول المشهور على أن هؤلاء الخمسة عليهم السلام هم المعنيون بوصف (أولي العزم) بعدد من الأدلة[1]:
منها: أن الله تعالى خصَّهم بالذكر على انفرادهم في موضعين من القرآن الكريم في سياق العزم والجد والثبات؛ فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا *} [الأحزاب] ، فذكر تعالى أخذه الميثاق من النبيين جملة، ونص منهم على هؤلاء الخمسة، وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى: 13] .
ومن ذلك: أن هؤلاء الخمسة عليهم السلام هم الذين يتراجعون الشفاعة بعد أبيهم آدم عليه السلام حتى تنتهي إلى نبيِّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ كما في حديث الشفاعة المشهور[2].
وأخرج الحاكم والبزار ـ واللفظ له ـ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «خيار ولد آدم خمسة: نوح وإبراهيم وعيسى وموسى ومحمد صلّى الله عليه وسلّم، وخيرهم محمد صلّى الله عليه وسلّم»[3]، ولفظ الحاكم: «سيِّد الأنبياء خمسة، ومحمد صلّى الله عليه وسلّم سيد الخمسة...» فذكره.


[1] انظر: معالم التنزيل (7/272)، ومجموع الفتاوى (11/161)، وتفسير ابن كثير (6/382، 7/305) [دار طيبة، ط2]، وأضواء البيان (7/434)، معارج القبول (2/679).
[2] أخرجه البخاري (كتاب تفسير القرآن، برقم 4712)، ومسلم (كتاب الإيمان، برقم 194).
[3] أخرجه البزار في مسنده (17/141) [مكتبة العلوم والحكم، ط1]، والحاكم في المستدرك (كتاب تواريخ المتقدمين من الأنبياء والمرسلين، رقم 4007) وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد، وإن كان موقوفًا على أبي هريرة»، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/255) [دار الكتب العلمية]: «رجاله رجال الصحيح».


قال ابن تيمية رحمه الله: «وأفضل أولياء الله هم أنبياؤه، وأفضل أنبيائه هم المرسلون منهم، وأفضل المرسلين: أولو العزم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلّى الله عليه وسلّم... وأفضل أولي العزم: محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ خاتم النبيين، وإمام المتقين، وسيد ولد آدم، وإمام الأنبياء إذا اجتمعوا، وخطيبهم إذا وفدوا...»[1].


[1] مجموع الفتاوى (11/161) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان).


من أبرز الثمرات المترتبة على الإيمان بأولي العزم من الرسل: الإيمان بهؤلاء الرسل الكرام عليهم السلام تفصيلاً، ومحبتهم وتوقيرهم، والاعتراف بفضلهم وشرفهم، والاقتداء بهم في الصبر والجد والثبات على الحق والدين والدعوة إلى الله تعالى، والجهاد في سبيله سبحانه وتعالى.
ومن الثمرات أيضًا: إثبات التفاضل بين أنبياء الله تعالى ورسله؛ كما قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253] ، وقال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعَضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا *} [الإسراء] .
فأولو العزم من الرسل أفضل من إخوانهم من باقي الرسل الكرام عليهم السلام.



خالف الرافضة الإمامية في تعليل وصفهم بأولي العزم من الرسل؛ فقالوا: «إنما سمي أولو العزم أولي العزم؛ لأنه عهد إليهم في محمد والأوصياء من بعده، والمهدي وسيرته، وأجمع عزمهم على أن ذلك كذلك، والإقرار به»! وقالوا أيضًا: «إنما صاروا أولي العزم بحبهم»[1]! وفساد هذا وظهور بطلانه وكفر قائله يغني عن تكلف الرد عليه.
وتجرأ غلاتهم أيضًا على ما هو أعظم من هذا وأشد؛ فنصَّ بعض علمائهم على أن أئمتهم أفضل من جميع الأنبياء وأعلم، بما فيهم أولو العزم من الرسل[2]! وهذا كفر بالإجماع، لا يمتري فيه أحد[3].
ولم تقف جرأة بعض فرق الشيعة عند هذا الحد؛ فعد (القرامطة) ـ وهم من غلاة الشيعة ـ عليًّا رضي الله عنه ومحمد بن إسماعيل من أولي العزم! وقالوا: إن محمد بن إسماعيل هو القائم المهدي، ومعنى القائم: أي: الذي يبعث بالرسالة، وبشريعة جديدة ينسخ بها شريعة نبيِّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم! فأولو العزم عندهم سبعة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، وعلي، ومحمد بن إسماعيل[4]! وفساد هذا القول وظهور بطلانه وكفر قائله يغني عن تكلف الرد عليه.
وقد شارك الشيعة في بعض هذا الضلال والكفر: غلاة الصوفية؛ الذين قسموا مقامات الأولياء إلى أربعة مقامات: فمنهم من يقوم مقام خلافة النبوة (وهم العلماء)، ومنهم من يقوم مقام خلافة الرسالة (وهم الأبدال)، ومنهم من يقوم مقام خلافة أولي العزم (وهم الأوتاد)، ومنهم من يقوم مقام خلافة أولي الاصطفاء (وهم الأقطاب)[5]! فمقام بعض الأولياء عندهم يكون فوق مقام أولي العزم من الرسل، فضلاً عن مقام النبوة والرسالة!


[1] الكافي للكليني (1/416) [دار الكتب الإسلامية بطهران، ط3]. وانظر: تفسير الصافي للكاشاني (2/80) [تصحيح: حسين الأعلمي، مؤسسة الأعلمي]، وتفسير القمي (2/65) [تصحيح وتعليق: طيب الموسوي، ط2]، وبحار الأنوار للمجلسي (11/35، 26/267، 278) [دار إحياء التراث، ط3]. بواسطة: أصول مذهب الشيعة، لناصر القفاري (1/58، 2/614).
[2] انظر: بصائر الدرجات الكبرى للصفار (5/247) [طبعة إيران، 1285هـ]، والفصول المهمة في أصول الأئمة للحر العاملي (151) [مكتبة بصيرتي بقم]، وعيون أخبار الرضا لابن بابويه القمي (1/262) [طبعة إيران، 1318هـ]، والحكومة الإسلامية للخميني (52) [نشر: الحركة الإسلامية بإيران، ومطبعة الخليج بالكويت]. وانظر: أصول مذهب الشيعة للقفاري (2/613).
[3] راجع: الشفا للقاضي عياض (2/1078) [طبعة عيسى البابي الحلبي]، ورسالة في الرد على الرافضة لابن عبد الوهاب (29) [مطابع الصفا، مكة، 1402هـ].
[4] انظر: فِرَق الشيعة للحسن النوبختي وسعد بن عبد الله القُمِّي (82) [دار الرشاد بالقاهرة، ط1].
[5] انظر: جامع الأصول في الأولياء للكمشخاوي (5) [المطبعة الوهيبية بطرابلس، 1398هـ]، والفتوحات الإلهية لابن عجيبة الحسيني (264) [عالم الفكر بالقاهرة، 1983م].


1 ـ «النكت والعيون» (ج5)، للماوردي.
2 ـ «معالم التنزيل» (ج7)، للبغوي.
3 ـ «الجامع لأحكام القرآن» (ج16)، للقرطبي.
4 ـ «مجموع الفتاوى» (ج11)، لابن تيمية.
5 ـ «تفسير القرآن العظيم» (ج6)، لابن كثير.
6 ـ «شرح العقيدة الطحاوية» (ج2)، لابن أبي العز.
7 ـ «الدر المنثور» (ج13)، للسيوطي.
8 ـ «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن»، للسيوطي.
9 ـ «لوامع الأنوار البهية» (ج2)، للسفاريني.
10 ـ «توضيح المقاصد وتصحيح القواعد» (ج2)، لأحمد بن إبراهيم بن عيسى.
11 ـ «معارج القبول» (ج2)، لحافظ الحكمي.
12 ـ «أضواء البيان» (ج7)، للشنقيطي.
13 ـ «شرح الواسطية»، لمحمد خليل هراس.
14 ـ «الرسل والرسالات»، لعمر سليمان الأشقر.